منهج التراجم ومعالم التجديد عند الشيخ الندوي

منهج التراجم ومعالم التجديد

عند الشيخ أبي الحسن الندوي*

الشيخ علي أبو الحسن الندوي

د. الحسين العربي رحمون*

المقدمة:

يعتبر أدب التراجم من أهم العناصر المكونة لتدوين التراث الإنساني بصفة عامة، والتراث العربي بصفة خاصة، وقد تطور هذا النوع من الكتابة عبر مختلف الحقب الأدبية، وحسب اختلاف الأقطار الإسلامية منذ عصر التدوين إلى وقتنا الحاضر، ولا نكاد نجد تعريفاً محدداً، أو قالباً جاهزاً ينضوي تحته هذا الفن ولا يتجاوزه إلى غيره، والمعروف أن الأدب أجناس متنوعة، وأشكال مختلفة، قديمة وحديثة، كما أن الكتابة فيه، أجناس وأشكال أيضاً، ولكل جنس منها وكل نوع مفهوم عام، ومفهوم خاص، وتمتد بين هذه المفاهيم جسور مؤتلفة، وتجمعها قضايا حيوية، وعناصر مشتركة، ومقاصد وأهداف متقاربة.

كذلك فن التراجم في مفهومه العام، هو هذا النوع من الكتابة الذي يترجم للرجال، ويعرّف بهم، ويذكر نشأتهم وأخبارهم ويتحدث عن مؤلفاتهم ومآثرهم العلمية، وخصائصهم النفسية، ومكانتهم الاجتماعية، مما يمكن معه استخلاص كثير من القيم الفكرية والثقافية والاجتماعية للعصر الذي عاشوا فيه، وهو في مفهومه الخاص، هذا الفن الذي ينبغي أن يتميز عن اتجاهات أخرى وكتابات أخرى، تختلف معه في كثير من العناصر وتشترك معه في عناصر أخرى، لذلك ينبغي التمييز هنا بين كتابة التراجم، والكتابة المعجمية، والكتابة التاريخية، والسيرة الذاتية، وغيرها..

وإذا كانت التراجم قد ظهرت منذ أن اهتم العلماء المسلمون بطبقات المحدّثين والصحابة وطبقات النحويين واللغويين، ثم بطبقات الكتاب والشعراء، والأطباء، والصوفية، وغيرهم في مشرق البلاد الإسلامية ومغربها، فقد امتد هذا الاهتمام بأعلام الكتاب وأشهر العلماء إلى عصرنا الحاضر.

ويختلف منهاج المترجمين في تقديم تراجمهم بحسب الأشخاص والأماكن والعصور، على أن هناك سمات عامة، وعناصر مشتركة يعتمدون عليها ويستغلونها.

ومن أبرز من نجد في كتاباتهم في وقتنا الحاضر، نزوعاً إلى فن التراجم وشغفاً بالاشتغال به، الكاتب الموسوعي، والداعية الإسلامي الكبير، الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي(1)، فقد عُرف بميله لهذا الفن وحبه له، لأنه نشأ في بيئة كانت هوايتها التاريخ والتراجم والسير.. وولد في أسرة كان فيها مؤرخون ومؤلفون، وكان أكثر اشتغالهم بالتأليف في تراجم الرجال(2).. فقد كانت أسرته تتناقل كتب التاريخ الخاصة بالأسر الهندية، وكان والد المؤلف يرجع إليها عند تأليفه لكتاب "نزهة الخواطر.." فتأثر أبو الحسن بهذه الكتب، وتولد عنده تذوق كبير، وشغف عظيم بتاريخ الهند الإسلامي(3).

على أن الجهود العلمية لهذا العالم الكبير لا تتناول هذا الجانب فحسب، بل إنه يعتبر موسوعة علمية أثرى المكتبة الإسلامية بما أنتجه في شتى مجالات العلم والمعرفة، فقد كتب عن الأدب الإسلامي والعلوم الإسلامية، واهتم بالعمل الدعوي وفقه الدعوة، وقضايا المسلمين في شبه القارة الهندية وفي العالم العربي و الإسلامي، وتناول بالبحث قضايا الفكر الإسلامي، وكتب في السيرة النبوية والسيرة الذاتية، وكان كل اهتمامه متجهاً نحو خلق حركة إصلاحية تجديدية إسلامية، تتناول النفوس بالتهذيب وتبث العزيمة في الهمم، لكي تعيد للإسلام قوته ونصاعته وللمسلمين دورهم التاريخي وقيادتهم للعالم.

وهذا الهدف أيضاً كان من وراء ما كتبه عن أدب التراجم حول مجموعة من الشخصيات العلمية والأدبية والدينية والسياسية في القديم والحديث.

ومن المفيد أن ننتبه إلى أن أسلوب الترجمة عند أبي الحسن الندوي لا يعتمد على كل العناصر التي كان يقوم عليها عمل المصنفين القدامى، ولكنه يتجه إلى إحداث نوع من التغيير والتجديد في تقديم تلك العناصر، وهي عناصر توجد في أساليب التراجم القديمة، ولكن تختلف عنها من حيث الصياغة الموضوعية والصياغة الشكلية، أما من حيث الصياغة الموضوعية، فإن المؤلف يلح على تقديم المترجم له داخل قضية من القضايا المهمة التي تشغل الإسلام والمسلمين، فيهتم بمكانته العلمية والخُلُقية، ومقدار التوجيه والفائدة التي يسديها للأمة والمجتمع، ويربط الشخص بالأحداث الكبرى والوقائع الجسيمة التي يهتم بها الناس وينشغلون بها. أما جانب الصياغة الشكلية، فالمؤلف لا يحصر مهمته في نقل اللقطات السريعة من حياة المترجم التي تعتمد على التعريف المقتضب، وإعطاء المعلومات المختصرة، بقدر ما يعتمد على الأسلوب الأخاذ، والعناصر المستحدثة التي ينبغي أن تتلاءم مع مستجدات الحياة وأذواق القراء، ومع ثوب الثقافة الجديد الذي فرض أسلوبه في العصر الحديث.

وعلى الرغم من أننا لا نجد له مصنفات خاصة بالتراجم – فيما نقل من اللغة الأردية إلى اللغة العربية، أو على الأصح لم نتمكن من الوقوف على كل ما صدر له في هذا المجال، إلا أننا نستطيع أن نتبين من خلال ما قرأنا له أن هذه التراجم تتوزع في بعض كتبه ومؤلفاته، وسنتحدث عنها فيما بعد.

ولكي نقف على منهج الترجمة عند أبي الحسن الندوي ومعالم التجديد التي استحدثها بالمقارنة مع ما نعرفه من أساليب المتقدمين، وعلى الأهداف المتوخاة من هذه التراجم، لابد أن نستعرض باقتضاب أهم الخطوط العريضة لمناهج القدامى وما عرفته من تطور، لنتمكن بعد ذلك من استخلاص الصورة التي نرى فيها المؤلف في مجال أدب التراجم.

تطور مفهوم أدب التراجم:

تعتبر كتب التراجم من أهم المصادر والمراجع التي تعين الباحث على معرفة تطور الحياة الفكرية والأدبية والحضارية للإنسان والأمم على حد سواء.

ولفن الترجمة علاقة وطيدة بحركة التأليف، بحيث ينظر إليه على أنه حلقة من أهم حلقات هذه الحركة، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بمؤلفات القدماء الذين عُنوا بتدوين تراجم الصحابة، وطبقات المحدثين لما لذلك من صلة بأصول الدين والتشريع الإسلامي، ثم امتد هذا الاهتمام إلى العناية برواية اللغة والأدب، فتعددت حلقاته، واتسعت حتى شملت أجناساً من طبقات الرجال والنساء من كتّاب وشعراء، ولغويين ونحويين، فظهرت الكتب المصنفة في تراجم الشعراء، والكتب المصنفة في تراجم اللغويين والنحاة، والكتب المصنفة في تراجم الأدباء عامة(4).

وعندما اتسعت رقعة الدول الإسلامية شرقاً وغرباً، وكثر التأليف والترجمة، ودعت الحاجة إلى التخصص، أخذت تظهر مجموعات أخرى من الأسماء، مثل كتب المعاجم، والبرامج، والفهارس، والمشيخات، والوفيات، والصلات وصلات الصلة، والذيول، والمؤتلف والمختلف، والمشتبه في أسماء الرجال، ثم ظهرت تراجم خاصة بالزوايا، والجوامع والمدارس والربط والقبائل.. وغيرها(5)، حتى إن التراجم العربية الإسلامية "فاقت من حيث كثرتها وتنوعها، وافتنانها في ترتيب الأعلام المترجمة، وتبويب موضوعات التراجم، والاهتمام بها حتى في كتب التاريخ العام وكتب الشروح اللغوية، والترجمة لأعيان كل بلد، أو كل مدينة في كتاب واحد، والترجمة لأعلام النساء بجانب أعلام الرجال، وتحقيق الوفيات والمواليد قدر ما سمحت به ظروف حياتهم الاجتماعية، والاستشهاد بآثار المترجم لهم في النثر والشعر وضبط الأعلام، وتحقيق المتشابه منها، قد فاقت في كل ذلك غيرها من التراجم في الآداب الأجنبية الأخرى في القديم والحديث(6).

ومن أشهر الكتب: كتب تراجم الأدباء والشعراء، كتاب: طبقات فحول الشعراء، لابن سلام الجمحي (ت 231هـ) والشعر والشعراء لابن قتيبة (276هـ) والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (356هـ) ومعجم الشعراء للمرزباني (384هـ)، ويتيمة الدهر للثعالبي (429هـ)، والذخيرة لابن بسام الشنتريني (524هـ)، وتاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي (403هـ)، والصلة لابن بشكوال (578هـ)، والإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب (776هـ)، ونفح الطيب، وأزهار الرياض لأحمد المقري (1041هـ).

ومن أشهر الكتب المصنفة في تراجم اللغويين والنحاة: كتاب: طبقات النحويين واللغويين للزبيدي (379هـ)، ونزهة الألباء لابن الأنباري (577هـ)، وإنباه الرواة للقفطي (646هـ)، وبغية الوعاة للسيوطي (911هـ).

واشتهر من بين الكتب المصنفة في تراجم الأدباء: كتاب معجم الأدباء لياقوت الحموي (626هـ)، وفوات الوفيات لابن شاكر الكتبي (764هـ)، والوافي بالوفيات لصلاح الدين الصفدي (764هـ).

ولا يخفى أن هذه المصنفات يمتزج فيها الأدب بالتاريخ: ويتتابع فيها الحدث المرتبط بالذات والوقائع المتعلقة بالجماعة، وتختلف اختلافاً واضحاً عما يكتبه المؤرخون من سرد أخبار الدول والملوك ومتابعة أنباء المعاهدات والحروب، لأن كتب التراجم تعنى بأخبار أفراد الأمة من علماء ومصلحين، ومؤلفين، وكتّاب، وشعراء، وقضاة، ومحتسبين، وفقهاء، وقراء، وغيرهم من طبقات الشعب المختلفة.

وقد كان الهدف الأساسي عند هؤلاء المصنفين هدفاً تعليمياً بالدرجة الأولى، إذ كان أدب التراجم مادة أساسية في حلقات التدريس، ينقله الدارس من مصادره ويستوعبه، وربما حفظه عن ظهر قلب، ثم أضحى بعد ذلك تراثاً يحفظ آداب الأجيال وعلومها، ويعتبر عندنا اليوم جزءاً من التراث الذي تقوم عليه كل نهضة علمية أو فكرية أو ثقافية.

لقد عني القدماء بتدوين تراجم الرجال حسب تنوع طبقاتهم واختصاصاتهم، وبدؤوا بوضع تراجم الصحابة والمحدثين – كما أسلفنا – وذلك بسبب الحاجة إلى حفظ مآثرهم ومحفوظهم من الأحاديث وأخبار عصر النبوة والخلفاء الراشدين، وتلا ذلك الاهتمام بوضع تراجم العلماء واللغويين والأدباء، وكان للمشارقة فضل السبق في هذا الميدان ثم تبعهم الأندلسيون والمغاربة فألفوا الفهارس والبرامج والصلات والذيول وغيرها.

إلا أن الترجمة في هذه الكتب كانت تقتصر في البداية على التراجم المختصرة للعلماء والفقهاء والأدباء، وذكر أخبار السماع والرواية، وتاريخ الميلاد والوفاة عند الاقتضاء، الأمر الذي يجعلها محصورة في نقل بعض المعلومات والأخبار، وترك أغلبها دون مراعاة خطة محكمة، أو طريقة ثابتة في إعطاء الصورة الحقيقية أو القريبة إلى الحقيقة عن المترجم له.

ورغم ما كان المصنف يبذله أحياناً من التحري والدقة، فإن التراجم كانت تتعرض للأخطاء بسبب التحريف الذي يلحقها، وقد أشار ابن عبد الملك المراكشي (703هـ) إلى هذه الظاهرة المتكررة في كتب من سبقه من المترجمين، سواء منها التي كانت تصل إلى المغرب والأندلس من المشرق أو التي ألّفت في عقر الدار مثل تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي، وكتاب الصلة لابن بشكوال، وهما المصنفان اللذان ذيلهما وأكملهما بكتابه المشهور: الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة..

واشتهر كتاب "يتيمة الدهر" للثعالبي في المشرق وفي الأندلس، وأخذ بمنهجه سائر المترجمين بعده، واعتمده ابن بسام في "الذخيرة" وحذا حذوه في تقسيمه الرباعي المشهور، كما استفاد منه كثير من الكتّاب والمصنفين، ولكنهم أضافوا الجديد إلى حقل التراجم بسبب ضرورات العصر وحاجات الناس إلى التجديد، وهذا أمر بدهي في كل عصر ومصر، وهو الأمر الذي سنلاحظه ونحن ندرس أسلوب الترجمة عند مؤلفنا أبي الحسن الندوي.

وإذا كانت الطريقة الغالبة في ذلك العهد هي منهج التقسيم الجغرافي للأقاليم، وانتهاج أسلوب السجع، فإنها القاسم المشترك بين المصنفين المشارقة والأندلسيين إلى حدود ابن بسام.

وقد انتبه الدارسون، ومنهم المستشرق الهولندي "دوزي" إلى البوادر الأولى للتحليل النقدي الدقيق في التأريخ والترجمة في كتاب ابن حيان (469هـ) شيخ الكتاب في الأندلس، وهي سمة ميزت أكثر المصنفين الأندلسيين والمشارقة من الرعيل الثاني، فقد كتب ابن سعيد المغربي (685هـ) كتاب: المغرب في حلى المغرب، والتزم فيه نظاماً خاصاًَ أفصح عنه في مقدمة كتابه(7)، وانتهج ابن عبد الملك المراكشي نهجاً جديداً في التراجم لم يسبق إليه، بحيث أصّل قواعده وحدد ضوابطه، وميزه عن التاريخ المحض، وعن فن السيرة الذاتية، وجعله فناً قائماً بذاته، وبناه على القواعد والعناصر التي تلتزم الدقة والتحري في عرض الأحداث ونقل الأخبار(8). وكان أحمد ابن خلكان (ت 681هـ) وكتابه: وفيات الأعيان آية في الوصف الدقيق، وشمولية الخبر، ووضع الصفة مكان الموصوف، حتى قال عنه أبو الحسن الندوي: "فإنه إذا وصف أحداً من المترجم لهم بقوله: النحوي، أو الفقيه، أو الأديب، أو المفسر، أو اللغوي، أو الواعظ، فليس من الميسور زحزحته من مكانه الرئيسي والاختصاصي، ووضعه في طبقة أخرى(9).

ودرج على هذه الطريقة أغلب المترجمين الذين جاؤوا بعد هذه الفترة مثل ابن شاكر الكتبي (764هـ) في كتاب "فوات الوفيات" وصلاح الدين الصفدي (764هـ) في كتاب الوافي بالوفيات" وربما كان لسان الدين بن الخطيب (776هـ) أكثر دقة وإلحاحاً على الخبر من سابقيه، بحيث يظل دقيقاً مع مترجميه في إثبات اسمه، ونفسِه، وكنيته، ومولده، ووفاته، وحاله ومشيخته، وتلاميذه وكتبه ومصنفاته ونظمه ونثره، ودخوله غرناطة – وهو شرطه- وربما تحدث عن أوليته وعن محنته وإذا ترجم لأمير أو قائد، فهو يذكر أوليته وحاله، وصفته وأولاده، ووزراءه، وكتابه وقضاته، والملوك على عهده، ومناقبه، وجهاده، وحروبه، وبعض ما رثي به من الشعر.

هذه العناصر هي التي كانت شائعة ومميزة لأدب التراجم في القرون المتأخرة مع بعض الاختلاف والتباين في الأخذ بها من طرف المؤلفين.

ولا نكاد نصل إلى عصر أحمد المقري (1041هـ) حتى تتداخل عناصر التاريخ العام وعناصر التراجم والسيرة في كتاب نفح الطيب وأزهار الرياض، قبل أن يغلب الطابع المعجمي على التراجم على حد ما نجد في "كشف الظنون" عند حاجي خليفة والأعلام للزركلي.

منهج أبي الحسن الندوي في التراجم ومعالم التجديد:

تأثر أبو الحسن الندوي في كتابة التراجم بمن سبقه من المؤلفين، وأشار بالخصوص إلى طريقة ابن خلكان، واستهوته هذه الطريقة، ولعله استفاد منها قبل أن ينصرف إلى منهجه الذي ارتضاه لكتابة التراجم، كما أشاد بأديب الأندلس الشهير، وشاعرها لسان الدين بن الخطيب، وعمله الجليل في تدوين أخبار دولة غرناطة ورجالها في كتاب: الإحاطة، وأثنى على كتاب: نفح الطيب لأحمد المقري وأهميته في تدوين أخبار المغرب والأندلس، وفي معرض حديثه عن الرجال الذين عنوا بالتدوين والتأريخ للرجال ذكر المقريزي (845هـ) وكتاب: المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار (خطط مصر)، وأشار إلى ابن عساكر (571هـ) صاحب كتاب: تاريخ دمشق، وتحدث أيضاً عن حاجي خليفة زادة، والأستاذ محمد كرد علي وكتابه القيم: "خطط الشام" واعتبر أن هذه المصادر التاريخية والمصنفات الأدبية هي بمثابة دوائر معارف(10) تحفل بتاريخ الأمة الإسلامية، وتخلد ذكر علمائها وعظمائها ورموزها.

وبالنسبة للهند، فقد كانت هي أيضاً في حاجة إلى مؤرخ للرجال كابن خلكان، ومستعرض للتاريخ كحاجي خليفة جلبي زادة، ووصاف كالمقريزي حتى تُوَفَّى هذه البلاد – التي كثر فيها الرجال، وازدهر فيها العلم واتسعت فيها المدنية - حقها من التاريخ والتسجيل والتصوير، وقد وفق الله العلامة السيد عبد الحي بن فخر الدين الحسني (1341هـ) لمثل هؤلاء الثلاثة العظماء فيما يختص بالهند ترجمة وتاريخاً واستعراضاً وتصويراً(11).

وتأثر أيضاً فيما كتب من التراجم، وفي سائر الكتابات الأخرى بمجموعة من المؤلفين الذين تتلمذ عليهم، أو قرأ لهم، فهو يتحدث عن العلامة: سيد سليمان الندوي، وطريقة إخراجه الجديد للسيرة النبوية عندما نقلها من نطاق السيرة والتاريخ إلى معالجة منصب النبوة والعقائد والعبادات والأخلاق بزاوية جديدة ودراسة مقارنة(12).

وكان لأخيه الأكبر ومربيه الأمثل، بالغ الأثر على شخصيته وخطة تعليمه وثقافته، وكانت توجيهاته الحكيمة، وتعليماته الهادئة أنفع له من مائة كتاب(13).

وكان جده العلامة فخر الدين الحسني من السابقين إلى وضع كتاب في تراجم الطبقات الصوفية والعلماء والشعراء في الهند، ووضع والده العلامة السيد عبد الحي الحسني "أكبر كتاب يعرف في شبه القارة الهندية بتراجم الرجال الذين نبغوا في الهند منذ القرن الإسلامي الأول إلى سنة وفاة المؤلف (1341هـ) – (1923م).. ويتناول الأعيان من كل طبقة على اختلاف مذاهبهم الفقهية واتجاهاتهم العلمية، واختصاصاتهم الفنية، فجاء في ثمانية مجلدات كبار يحتوي على أكثر من أربعة آلاف وخمسمائة من التراجم، وهو أشبه في أسلوب الكتاب ومنهجه وتعبيراته بابن خلكان في الدقة والأمانة، وتحري الصدق والقياسات اللائقة والدقيقة في تخير الأوصاف والنعوت"(14).

وقرأ هذه المجلدات كما قرأ كتباً أخرى(15) في سن مبكرة لأنها كانت في متناول يده، فعرف أنواعها وخبر مناهجها وأساليبها وشغف بفن الترجمة وكان شغله الشاغل حتى قال: "كان أدب التراجم والسير من أحب الآداب وأخفها وأسهلها لي، وكانت هوايتي وشغلي الشاغل في سن قلما يتيسر فيها الكتابة لكثير من هواة الأدب والإنشاء، فبدأت أؤلف في تراجم الرجال وسير النابهين من العلماء والمصلحين بالعربية قليلاً، وبالأردية أكثر، وتكون من هذه التراجم والسير مكتبة لا بأس بها في كتب التراجم وسير المصلحين والمجددين في الإسلام، والدعاة والمربين الذين نفع الله بهم الأمة ونهضوا بها في مختلف الأدوار والأمصار"(16).

من الواضح إذن أن المؤلف كتب بالأردية الشيء الكثير في التراجم ولكن عدم اطلاعنا على هذه الكتب وقصورنا عن قراءة هذه اللغة يجعلنا لا نحيط بالصورة الشاملة لما كتبه الندوي في هذا المجال، إلا أن ما وصل إلينا من الكتب المترجمة إلى العربية في التراجم والسير، وكذا الإشارات الكثيرة إلى التراجم الأردية المبثوثة في كتبه، تجعلنا نتلمس الطريقة التي يعالج بها الكاتب هذا الفن، لأن الهدف عندنا ليس وضع إحصاء لهذه المؤلفات، بقدر ما يرمي إلى النظر في أسلوب هذه التراجم وخصائصها.

فقد صدر له كتاب: شخصيات وكتب يشتمل على مجموعة من التراجم لشخصيات إسلامية مرموقة في شبه القارة الهندية والعالم العربي بدءاً بالشيخ محمد إلياس الكندهلوي وانتهاءً بالدكتور مصطفى السباعي. وفي هذا الكتاب يظهر بوضوح منهج كتابته في التراجم، وتبرز ملامح التجديد فيه بالمقارنة مع ما نعرفه عند الأقدمين، وفي مقدمة الكتاب، يتحدث المؤلف عن اهتمامه بالتراجم ويضع منهجاً أو "شروطاً" لكل من يقدم على كتابة التراجم.
فهو ينبه أولاً إلى الفرق الطبيعي بين كتب التاريخ والتراجم، بحيث: "إن المؤلف في كتب التاريخ والتراجم وكتب الحياة الشخصية، يكون ممثلاً عن تلك الشخصيات التي يكتب عنها ومحامياً لها ومدافعاً عنها... ويكون هو حراً طليقاً في الكتابة عن صيانة نفسه وممثلاً لذاته ومتحدثاً عنها"(17).

أما في كتابه "رجال الفكر والدعوة"، وهو الدراسة التي أصدرها ضمن سلسلة تاريخ الإصلاح والتجديد في العالم الإسلامي فلا نكاد نميز بين فنين اثنين متداخلين هما: فن الترجمة وفن السيرة، ففي الوقت الذي يخصص الجزء الأول لترجمة طائفة من المصلحين والعلماء المسلمين وهم عمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، وأحمد بن حنبل، وأبو الحسن الأشعري، والإمام الغزالي، وعبد القادر الجيلاني، وجلال الدين الرومي، يفرد الجزء الثاني لحياة الحافظ أحمد بن تيمية. والجزء الثالث لسيرة الإمام السرهندي، والجزء الرابع للإمام الدهلوي(18).

وتتوزع تراجمه الأخرى(19) بين مجموعة من كتبه ومؤلفاته، فهو يترجم لفئة من المسلمين في الهند في كتابه "المسلمون في الهند" ويترجم لكبار العلماء والكتاب في اللغة الأردية، في مؤلفه "الكتب التي أفادتني" وله كتاب "المصابيح القديمة" في مجلدين، يشتمل على تراجم عدد من الشيوخ والأساتذة والمعاصرين الكبار والزملاء الراحلين في اللغة الأردية.. وترجم لمحمد الحسيني بن عبد العلي الحسني في كتاب: "الإسلام الممتحن" وألف كتاباً في ترجمة الإمام أحمد بن عرفان الشهيد وكتاباً في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وصدر للمؤلف كتاب بعنوان "مذكرات سائح في الشرق العربي" سجل فيه أخبار الشيخ حسن البنا، والشهيد سيد قطب، ومجموعة من الشخصيات الأخرى.

ومن خلال الاطلاع على بعض هذه المؤلفات، يبدو أن المؤلف يجمع أحياناً بين مصطلح الترجمة بالمفهوم الذي حددناه آنفاً، وبين فن السيرة بمفهومها الواسع الذي يتناول كل جوانب حياة المترجم له، ويميز في ذات الوقت بين السيرة الذاتية التي ظهر منهجها الخاص في كتاب "في مسيرة الحياة".

ونفهم من الفقرات التي ينقلها "الندوي" عن مصنف والده: نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر الخاص بترجمة أعيان الهند، أن أسلوبه يمضي على شاكلة أدب التراجم القديمة من حيث دقة المعلومات والأسلوب، وحتى في استعمال السجع فيما نقله إلى اللغة العربية، وربما كان اهتمامه بهذا الكتاب عاملاً جعله يقبل على إصداره في طبعة جديدة بعنوان: الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام(20).

ويحدد أبو الحسن الندوي مجموعة من المعايير والشروط لمؤلفي التراجم والسير باعتبارها ليست من الأغراض الأدبية السهلة، أو مواضيع الوصف الهينة، وإنما تحتاج إلى كثير من المؤهلات العلمية، والسجايا الأخلاقية، منها(21):

 1- المعرفة الشخصية للمترجم له معرفة واعية ناقدة، سواء عن طريق المعاشرة والصحبة، أو عن طريق الدراسة وتتبع الأخبار، وقد كان المصنفون القدامى يهتمون بهذا الجانب اهتماماً كبيراً، ويخلعون ألقاباً خاصة على من تجمعهم بهم المعاشرة والدراسة، فيقولون في الأستاذ: شيخنا، وفي قرين الدراسة: صاحبنا، وفي رديف المواطنة: بلدينا.

2 - القدرة على التعبير وتصوير أحوال المترجم له، وبيان أخباره وآثاره، ولا يتأتى ذلك إلا بتملك الثروة اللغوية، والقدرة الكافية على تطويع هذه الأداة.

3 - الدقة في نقل الخبر، والأمانة عند روايته، والشعور بالمسؤولية والصدق عند إلباس المترجم له لباساً على قياسه.

4 - توافر الدافع النبيل، والرغبة الملحة عند كتابة الترجمة أو التعريف بشخصية، للدفاع عن المترجم أو رد الاعتبار له، أو الوفاء له بالفضل.

5 - اختيار الكلام المعبر عن حقيقة المترجَم له، ووضع الكلمات والمصطلحات في مكانها لتدل على الوصف المناسب، أو الذكاء، أو قوة الشخصية أو الدرجة العلمية المناسبة.

إن الغرض من هذه المعايير كلها هو تحرّي الدقة والصدق عند الحديث عن عالم أو داعية إسلامي أو مصلح أو مجدد، بعيداً عن التزلف والرياء، ووصف الشخص بما ليس فيه، والصدق وتبني الحقيقة هما من مواصفات منهج الدعوة الإسلامية ودعائمها، ولقد كتب أبو الحسن الندوي في كل مجال يتعلق بقضية الدعوة، وكانت هذه المسألة الدعوية من وراء هذا الزخم الهائل من الدراسات والمؤلفات والرسائل المختلفة، فمن يقرأ له في الفكر الإسلامي وقضايا المسلمين يجده منظّراً إسلامياً ثاقباً، ومن يقرأ له في العمل الدعوي يلقاه داعية عظيماً، ومن يقرأ له حول أدب التراجم والسيرة والتاريخ يجده موثقاً دقيقاً، وكان اهتمامه بقضية الدعوة ونشرها والعمل من أجلها، والتفاني في إعلاء كلمة الله، والذود عنها، وبذل جميع الجهود من أجل نشرها، مسألة قناعة ذاتية، جاءت نتيجة النظام التربوي العام الذي نهل منه المؤلف، ومن النشأة الإسلامية الصافية التي نشأ عليها، ومن النمط الثقافي الأصيل والمعاصر الذي تلقاه وصقل مواهبه، لذلك اصطبغ هذا الطابع بجميع مقالاته ومؤلفاته، وارتسم في كل أفكاره وخطبه، ولذلك أيضاً ظهر هذا المؤشر فيما كتبه في أدب التراجم بحيث تبدو أهداف الدعوة واضحة ظاهرة، وسواء تعمّد المؤلف ذلك أم لم يتعمده، فإن نَفَس الدعوة إلى التجديد يتماشى جنباً إلى جنب، مع كلمات وفقرات التعريف بحياة المترجَم له.

إن غزارة المعارف والعلوم عند الندوي، واتساع ثقافته التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وكثرة كتبه ومؤلفاته تستدعي منه تجديداً في موضوع الفكر الدعوي ووسيلة تبليغه، في أنواع الفنون الأدبية التي يمارس الكتابة فيها، أو أنواع العلوم الأخرى التي يعالج قضاياها، ومن ذلك أدب التراجم.

إن عنصر التجديد في التراجم عند الندوي قائم على معطيات جديدة استحدثها العصر الذي نعيش فيه، واقتضتها ضرورة المسؤولية والأمانة التي يعمل من أجلها، فإذا كان المصنفون في القديم يعتمدون على جملة من المعلومات التي تتألف منها الترجمة، كتحديد الاسم والنسب، وذكر الجد الأعلى إمعاناً في التحري والضبط، وذكر اللقب والكنية وسنة الميلاد والوفاة، وبعض أعمال المترجم وأشعاره، وما إلى ذلك من العناصر التي سبقت الإشارة إليها – في هذا البحث- فإن المشتغلين بالتراجم اليوم قد أغنتهم دفاتر الحالة المدنية المستحدثة والمضبوطة من الوقوف على كل هذه المعلومات بالنسبة للمترجمين الذين يعاصرونهم من الشيوخ والأقران والتلاميذ، كما أن المصنفات الكثيرة والمعاجم الأدبية المتوافرة في الخزانات والمكتبات العربية والإسلامية تعفي هؤلاء من تكرار ما ورد فيها بالنسبة لمن ترجم لهم من الأقدمين، ثم إن اهتمام الإنسان بقضايا الجماعة أكثر من مشاكل الأفراد في الوقت الحاضر أدى إلى تغيير موضوع الخطاب وأسلوبه على السواء.

من هنا نرى أن أدب التراجم عند أبي الحسن الندوي ينهج نهجاً جديداً يختلف عن الأساليب القديمة ليلائم الفكر المعاصر، ويخاطب العقلية الحاضرة ويؤدي الوظيفة والغاية التي أنشئ من أجلها، دون المساس بعناصر الأصالة، لذلك لا نعتبر الجهود التي قام بها المؤلف في التراجم عملاً يستهدف الترجمة لذاتها – كما كان الشأن في القديم - ولا يقف عند حدود التعريف بالعلماء والأشخاص الذين يتحدث عنهم، ولكن نرى أن جهده هذا إنما يقوم سنداً لعمله الدعوي ولفكره الإسلامي، يخدمه ويعاضده، وهو يشير إلى ذلك عندما يقول: "وهي مجموعة مقالات في التراجم – يتعرف بها القراء على تراجم هؤلاء الفضلاء والعاملين لرفع شأن الإسلام والمسلمين والمربين الكبار وقادة أكبر الحركات الإسلامية في عصرهم، ويترحمون عليهم، ويدعون لهم، ويتعلمون منهم الكثير من الإخلاص والأخلاق وعلوّ الهمة، والاهتمام بالأمة..".

ولو كان هدفه الترجمة لذاتها، لترجم للنبهاء والخاملين، والمشهورين والمغمورين، وكبار العلماء ومتوسطيهم، والصوفية والفقراء، ولكن الترجمة عنده تشكّل عنصراً مهماً داخل قضية من القضايا الفكرية أو الدينية أو الاجتماعية التي تشغل الأمة الإسلامية.

ليس من الميسور أن نجد عند المشتغلين بأدب التراجم الآن حفاظاً صرفاً على النمط التقليدي الذي كان عليه منذ قرون، لأن هذا الفن أصبح محكوماً بروح العصر الذي نعيش فيه، ولهذا انتشر عمل المعاجم، والموسوعات العلمية، ودوائر المعارف العالمية. ولكن مع ذلك يبقى لهذا الفن أهميته وأصالته، وتشبّث كثير من الكتّاب بأساليبه، والعمل على بعثه من جديد – كما هو الشأن بالنسبة لأبي الحسن الندوي - وإنه في حلة جديدة وغرض جديد – نظراً للفوائد الأدبية والمقاصد التعليمية والتربوية التي ظل يحملها عبر القرون، وقد كان في فترة من الفترات هو الأسلوب السائد في كتابات القدماء، يستوعب جل العلوم والآداب، ويضم ذخائر التراث، وهو إلى الآن المورد الأساسي الذي يرجع إليه الباحثون والدارسون.

إن المؤلف لا يقتفي أثر القدامى عند تقديم عناصر الترجمة، وإنما يستثمر العناصر الجديدة التي تتسع لفكرته وتخدم هدفه الذي يريد أن يصل إليه، ويجعلها ملائمة لفكرة القارئ، مفيدة لذهنه، محولة لسلوكه، عاملة – بالتالي - على خدمة المثل العليا والمصالح الكبرى للإسلام، فهو لا يركز على اسم المترجم له، وأصله ونسبه، ومشايخه وتلاميذه، وكتبه وشعره ونثره – بحيث ترد هذه المعلومات أحياناً، أو لا ترد بكثير من التفصيل - وإنما يشتغل أكثر بشخصيته الدينية والعلمية، وبأخلاقه وصفاته، ومركزه الإشعاعي في مجتمعه، ومقدار أعماله ومآثره، وتضحياته وجهاده في سبيل الإسلام، فيحلل هذه العناصر تحليلاً ضافياً يجعل القارئ يزداد حباً بهذا الشخص، وعرفاناً بخدمته للإسلام والمسلمين، واعترافاً بدوره ومنزلته في المجتمع، ثم يربط ذلك بأحداث العصر وقضايا الأمة الإسلامية التي ينجذب إليها القارئ والمتتبع، ويصوّر تأثر المترجم له وتأثيره في هذه الأحداث والقضايا، ليصبح بعد ذلك قدوة يُتّبع ونبراساً يحتذى، ولذلك نعتبر أن أدب الترجمة عند – الندوي - ليس موجهاً للمتخصصين في هذا المجال يعودون إليه عند الحاجة أو عند البحث في حياة الأشخاص، وإنما هو أكثر من ذلك موجه إلى الفئات القارئة المهتمة بشؤون الإسلام والمسلمين، والشخص المترجَم له هنا من العلماء أو الرواد أو المجددين في القديم وفي الحديث لا يقدّم كشخص يُعرف به لمجرد التعريف، أو الاطلاع على مآثره الأدبية والعلمية بقدر ما يقدم كموضوع أنموذج للمعرفة، ومجال واسع للتعلّم والتربية، ومدرسة في العمل من أجل الإسلام والدعوة إلى الله.

إن القدرة التي منحها أبو الحسن الندوي على النظر الثاقب، والوصف الدقيق، تجعله يكتب ترجمة للأشخاص الذين عاصرهم وعاش إلى جانبهم، أو سيرة عن الأعلام والمصلحين الذين يُقتدى بهم، فيقدم عنهم صوراً دقيقة عن البنية الجسدية، والهيئة النفسية والمكانة العلمية، وينظر إلى هذه المساحات نظرة الخبير العارف، ورؤية عالم النفس المقتدر، وفراسة المؤمن المتمكّن، فيبسط أمام القارئ هذه الصفات السمحة والأخلاق الكريمة، والهمم العالية، والأعمال الجليلة، والتضحيات العظيمة، مما يتصف به المترجم له، ويحببه الكاتب إلى القارئ الذي لا يملك إلا أن تسمو نفسه، ويعتز بنسبه إلى الإسلام ورجاله، ويصبح عضواً عاملاً وفعالاً في حقل الدعوة وإنه – لعمري - أسلوب قويم في التربية نستخلصه من دروس الندوي في الترجمة.

وإذا كنا نعتبر كتاب: شخصيات وكتب نموذجاً لعمل التراجم، وكتاب: رجال الفكر والدعوة نموذجاً للتراجم والسيرة في آن واحد، فلابد أن ننظر في بعض التراجم والسير في هذين النموذجين، فالدارس لترجمة الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي(22) أو شيخ الحديث محمد زكريا الكاندهلوي(23)، يسترعيه الوصف الدقيق للجوانب الخلقية والخُلقية للمترجَم له، والترتيب المتدرج لذكر تاريخ الميلاد والنسب والشيوخ والمنزلة العلمية، والجهاد في سبيل الدعوة وتاريخ الوفاة، ويستهويه من جانب آخر التركيز على جانب الدعوة، والبحث عن الطريقة الملائمة للجهاد في سبيلها، وهذا الأسلوب يذكرنا بطريقة لسان الدين بن الخطيب في الترجمة عندما يقدم صوراً عن أساتذته أو تلاميذه، ومن هم حوله من الأشخاص بتلك النظرة الثاقبة والوصف المتناهي في الدقة حتى لا يكاد يمحى من الذاكرة.

 ولكن الندوي لا يلتزم دائماً بترتيب العناصر المؤلفة للترجمة في سائر تراجمه، فعندما يتحدث عن مولانا حسين أحمد المدني (24) أو سيد سليمان الندوي(25) يخرج عما رأيناه في الترجمة الأولى، ويصبح القارئ أمام نسيج من الحديث عن الذكريات المرتبطة بالمترجم له وعن الأعمال التي قام بها في مجال السياسة أو في مجال الدرس والدعوة، ويكتفي ببعض الإشارات المقتضبة من الأوصاف الجسدية التي يوردها في آخر الترجمة، وهذا ينسحب على معظم تراجم الكتاب. وهو الأمر الذي يشجعنا على إثبات الرأي الذي ذهبنا إليه، وهو تقديم المترجم له في صورة أنموذج للعمل الدعوي أكثر من تقديمه في صورة ورقة تعريف.

وعندما يترجم لأخيه السيد عبد العلي الحسني يقدمه في صورة حدث عظيم هز أرجاء العالم الإسلامي، وهز مشاعر المؤلف الذي ينقل هذا الإحساس إلى نفس القارئ ويشعره بأهمية الحدث. يقول مثلاً: "في اليوم الحادي والعشرين من ذي القعدة عام 1389هـ (السابع من شهر أيار مايو 1961) فقدنا علماً من أعلام العالم الإسلامي ونادرة من نوادر الأيام في الجمع بين الثقافتين الشرقية والغربية ومحاسن القديم والجديد"(26).

وبعد ذلك يعرف به تعريفاً شاملاً ويذكر مشاهير أسرته، وما اشتهرت به في مجال العلم والمعرفة، ثم يتحدث عن نشأته وعن مسيرته العلمية، والدرجات التي نالها وحظي بها، والأعمال الجليلة التي قام بها في حياته العملية.

ومثل هذا التأثير يوقعه المؤلف في ذهن القارئ وهو يحدثه عن ترجمة الدكتور مصطفى السباعي عندما يقول: "مات مصطفى السباعي.. بهذه الكلمات فوجئنا أمس إثر إحدى جلسات مجلس إدارة المركز الإسلامي في جنيف.. ولكن هل درى الناعي وهل شعر الناس بما وراء هذا الحادث من معان وتأثير في المجتمع الإسلامي وفي آفاق العلم، والدعوة والجهاد؟"(27).

إن اختيار أبي الحسن الندوي لهؤلاء الرموز من رجال الفكر والدعوة الذين نذروا أنفسهم لخدمة الدين وإعلاء كلمة المسلمين من أصحاب التأثير العلمي والديني، والأخلاقي – رغم وجود الفوارق الزمانية والمكانية بينهم – يدخل في نطاق البحث عن أساليب وتجديد الدعوة الإسلامية، ووضع السبل لهذه الحركة التجديدية ومحاولة دفعها إلى الأمام لمقاومة التيار المادي الغربي الذي يعصف بالدول والمجتمعات الإسلامية.

ولذلك يرى المؤلف أن "خير وسيلة لإشعال المواهب وإثارة الروح وتقويم الأخلاق والعزم على مكافحة البيئة الموبوءة والمجتمع الفاسد، والتسامي لمعالي الأمور هي سير عظماء الرجال، وزعماء الإصلاح والتجديد، والربانيين والصديقين.."(28).

فلقد كان عمر بن عبد العزيز أعدل أمير للمسلمين وأصفاهم سيرةً في تاريخ الإسلام بعد الخلفاء الراشدين إلى الآن، ومن حق الندوي أن يجعل منه قدوةً وزعيماً للإصلاح والتجديد في القرن الأول. وطبقت شهرة الإمام الغزالي الآفاق، فكان متكلماً وناقداً للفلسفة، ومصلحاً اجتماعياً كبيراً، وكان العلماء المسلمون في الهند ممن ترجم لهم المؤلف من كبار رجال الدعوة والعزيمة والجهاد في تاريخ الإسلام، وكان الشهيد حسن البنا وسيد قطب من أكبر الداعين المصلحين في الشرق العربي الذين قاوموا فساد السلطة وفساد الأخلاق، وأحدثوا في المجتمع الإسلامي ثورة إصلاحية تجديدية.

وعندما يكتب الندوي ترجمةً لعمر بن عبد العزيز, بل جزءاً من سيرته، لا يلتفت كثيراً إلى عناصر الترجمة المعهودة عند المترجمين، وإنما يعنى بالجوانب الأخرى التي تتصل بمواقفه الرائدة في إصلاح نظام الحكم وإخضاعه للتشريع الإسلامي، عوض قوانين الفرس والروم، ويذكر بأخلاقه الإسلامية النبيلة التي كان عليها الخلفاء الراشدون والسلف الصالح من القناعة والاقتصاد وإشاعة الفضل بين طبقات الأمة، والتي تعد مرجعاً زاخراً للمثل العليا.
وفي ترجمة أحمد بن حنبل مهد بالحديث عن المعتزلة وآرائهم، ومسألة خلق القرآن، وحمل الرعية على الاعتقاد بذلك، بتعضيد من المأمون ملك الإمبراطورية العباسية، وما تعرض له الناس من امتحان حول هذه المسألة الكلامية بما في ذلك الفقهاء والقضاة وعامة الشعب، وفي ظل هذه الأزمة والمحنة كان لا بد من إيجاد مخرج من المأزق، وظهور مرشد يوجه المسلمين إلى الطريق الحق، ويدافع عن السنة وينصر الملة، فكان ظهور أحمد بن حنبل –وهكذا ترد ترجمته في  سياق قضية كبرى من قضايا الفكر الإسلامي، وهي قضية خلق القرآن وما نتج عنها من محن. ثم انتصار الفكر السني المعتدل على المذهب الفلسفي في النهاية.

وجاءت ترجمة أبي الحسن الأشعري في طي قضية أخرى هي التحول الهائل الذي حصل في عقيدته الاعتزالية بعد اعتناق دام أربعين سنة، وتبنيه لمذهب أهل السنة، وما نتج بعد ذلك من تغيير في المواقف وتحول في علم الكلام، وكان بمثابة تركيز للسنة المحمدية الأصيلة، ودفع لكل ما هو خارج عنها.

ويستعرض الندوي – في ترجمته للإمام الغزالي - قضية تهم التحول الذي حصل في شخصيته عندما حاول البحث عن العلم اليقيني، وتحول من عيش الرفاه والشهرة والجاه إلى حياة الغرباء والفقراء، وهو يعاني ذلك الصراع في الواقع انعكاساً للخلل الحاصل في المجتمع الإسلامي الذي كان يبحث عن الإصلاح والعودة إلى المنبع الصافي. وللقارئ أن يستنبط من هذه الترجمة إشارات المؤلف إلى صفاء الإسلام من الشوائب التي علقت بسائر العلوم التي حصلها الغزالي مثل علم الكلام والفلسفة، وعلوم الباطنية ومذهب التصوف. وقد تحقق ذلك لدى الغزالي، ولذلك عمل الندوي على تقديم هذه الشخصية الإسلامية الكبيرة إلى القراء كشخصية لها دورها في تاريخ الإصلاح والتجديد، وأدى الغزالي رسالته كعالم وناقد ومصلح ومتعلم وداعٍ(29).

إن نظرة أبي الحسن الندوي إلى قضايا الإسلام من خلال تراجمه للأعلام والمصلحين، نظرة شمولية من حيث المكان والزمان، فهو يترجم لعمر بن عبد العزيز في القرن الأول الهجري المتوفى سنة 101 للهجرة، كما يترجم للدكتور مصطفى السباعي في القرن العشرين الميلادي المتوفى عام 1964م. فهو لا يلتزم بالتسلسل التاريخي، ولا يميز قطراً إسلامياً دون آخر. كما أن تراجمه تمتد عبر مساحة العالم الإسلامي كلها من شبه القارة الهندية إلى الأقطار العربية في مصر والشام وفلسطين والأقطار الإسلامية الأخرى، حيث ينقل من جانب إلى قراء العربية مآثر العلماء المسلمين في الهند وتضحياتهم في سبيل الإسلام، وينقل من جانب آخر إلى الهند أخبار المصلحين والرواد في العالم العربي. ولقد كان من الصعب أن يتعرف العرب والمسلمون بشكل عام على هذه الجماعات والأسر الهندية المسلمة التي نبغت في اللغة العربية، لولا تراجمه لأعلام الهند وصلحائها.

وإذا كان المصنفون القدامى يضعون شرطاً أو شروطاً يتقيدون بها عند تصنيف التراجم، كأن يلتزموا بتقديم مترجميهم بارتباط مع أحداث الحوليات، أو بتحديد تاريخ البدء والنهاية، كأن يبدأ أحدهم حيث ينتهي الآخر فيما كان يسمى بالصلات وصلات الصلات والذيول، أو يلتزم بالترجمة لطبقة دون أخرى أو يشترطون دخول البلد كما نجد في شرط ابن عبد الملك وهو دخول قرطبة، أو لسان الدين وهو دخول غرناطة. أو ما إلى ذلك، فإن شرط أبي الحسن الندوي – وهو شرط لم يصرح به - وإنما نستنبطه من قراءتنا لأسلوب تراجمه، وهو الاشتراك في عمل الدعوة الإسلامية، والانخراط في حركة الإصلاح والتجديد.

وتختلف طريقة الندوي عن طرق القدامى أيضاً من حيث أسلوب الكتابة، بحث يتميز بسهولة الألفاظ ووضوح المعاني، والمتعة في القراءة، والاستفادة من المعلومات الكثيرة الواردة ضمن القضايا التي يتعرض لها ويناقشها بعيداً عن أساليب السجع والتأنق اللفظي، فينقل القارئ عبر مناطق العالم الإسلامي وأقطاره ومدنه، ويحدثه في جولات سياحية مختلفة عن أخبار المسلمين وقضاياهم ومشاكلهم وآمالهم وأعمال رجالهم، ويحبب إليه صور الإيمان، وصفاء الخلق والثبات على المبدأ والتضحية في سبيله، ويجعله يعيش متعةً روحيةً من خلال حياة الأشخاص الذين يترجم لهم بطريقة تنفذ إلى أعماق النفس، وتؤثر في الوجدان، مما يدل على تمكنه من مادته، وأخذه بناصية اللغة التي يكتب بها.

ثم إنه لا يهتم بكل الأحداث والأخبار، غثها وسمينها، مما يعتبر خليطاً من العلوم العقلية والنقلية، والطرف والفكاهات، والألغاز والأساطير والغرائب التي نعثر عليها في كتب التراجم، وإنما يختار الأحداث الهادفة والمناقشات الجدية والمعارك الفكرية والعقدية، بمثل ما ينتقي الأشخاص ذوي القدرة على التأثير والمنفعة العامة، وهذا الانتقاء هو الذي دفعنا إلى القول بارتباط التراجم بأدب الدعوة.

خاتمة

وأخيراً، إلى أي حد يمكن أن نعتبر ما كتبه الندوي راجعاً إلى أدب التراجم؟ هل لا بد للمؤلف في هذا الباب أن يكون له مصنف أو عدة مصنفات على غرار وفيات الأعيان، أو الدرر الكامنة أو الذيل والتكملة، أو الإحاطة..؟

إننا نعتقد أن المفهوم الواسع لأدب التراجم يجعله يستوعب كل الكتابات، التي تلتزم بالترجمة للأشخاص رغم اختلاف العناصر، وتباين الأهداف والمقاصد، وإن كنا نقر بضرورة الفصل بين الترجمة، والسيرة، والمعجم، والسيرة الذاتية فصلاً منهجياً، كما أنه لا بد من الاعتراف بوجود أواصر قرابة بين عناصر هذه الفنون جميعاً, فقد نطلق لفظ الترجمة على بضعة أسطر ترد عن شخص مغمور في كتاب الدرر الكامنة، أو الكتيبة الكامنة للسان الدين بن الخطيب. كما نطلقه تجاوزاً على كتاب المؤلف من عدة مجلدات "كنفح الطيب" الذي وضعه أحمد المقري في أخبار لسان الدين بن الخطيب، أو أزهار الرياض الذي يتحدث فيه عن أخبار القاضي عياض.

ولأسرة الندوي كتاب في التراجم من قبيل هذه المصنفات التي أشرنا إليها، يعتز به المؤلف كثيراً، وهو "نزهة الخواطر، وبهجة المسامع والنواظر" في ثماني مجلدات، يسير فيه صاحبه على طريقة الأقدمين. وللندوي تراجم كثيرة في الكتب والمؤلفات التي ألفها بالأردية والعربية وكذا في شتى المقالات والمجلات المختلفة أشار إليها في كتابه: "شخصيات وكتب" وقد تجمع هذه التراجم كلها، فتشكل مصنفاً من هذا النوع.

والذي نسجله باطمئنان: هو أن الشيخ أبا الحسن الندوي خاض فن التراجم والسير، وأدلى فيه بدلوه، وكتب فيه بطريقته، وجعله يستجيب للأهداف النبيلة والأغراض السامية التي حاولنا استخلاصها – حسب فهمنا المتواضع – من منهجه وأسلوبه. والله تعالى أعلم.

              

الهوامش

* من كتاب: (الشيخ أبو الحسن الندوي: بحوث ودراسات).

* أستاذ في كلية الآداب – الرباط – المغرب.

(1) نسبة إلى ندوة العلماء في الهند.     

(2) شخصيات وكتب، ص 7.

(3) في مسيرة الحياة 1/96.

(4) حركة التأليف عند العرب. ص 175.

(5) حركة التأليف عند العرب. ص 229.

(6) التراجم والسير: سلسلة فنون الأدب العربي ص 12.

(7) انظر: المغرب في حلى المغرب: تحقيق شوقي ضيف (خطبة المؤلف).

(8) انظر الذيل والتكملة. السفر الثامن. القسم أ (مقدمة المحقق).

(9) شخصيات وكتب. ص 7.

(10) شخصيات وكتب. ص 186.

(11) نفسه، ص 189.

(12) نفسه، ص 56.

(13) نفسه ص 70.

(14) شخصيات وكتب ص 8.

(15) انظر نفس المرجع: ص8-9، الوردة الرشيقة. ذكرى الأيام الماضية.. إلخ.

(16) نفسه ص9.

(17) في مسيرة الحياة 1/25.

(18) شخصيات وكتب ص 121.

(19) جميع هذه الإشارات وردت في مؤلفه: شخصيات وكتب.

(20) شخصيات وكتب ص 159.

(21) نفسه ص 6- 7.

(22) انظر: شخصيات وكتب. ص 15.

(23) انظر: شخصيات وكتب. ص 41.

(24) نفسه. ص 23.

(25) نفسه. ص 55.

(26) نفسه. ص 63.

(27) شخصيات وكتب. ص 113.

(28) رجال الفكر والدعوة في الإسلام ص 6.   

(29) رجال الفكر والدعوة ص 182.

(30) نفسه ص 205.

المصادر والمراجع

- الإحاطة في أخبار غرناطة: لسان الدين بن الخطيب، تحقيق، محمد عبد الله عنان، مكتبة الخانجي – القاهرة 1974.

- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة: ابن حجر العسقلاني. دار الجيل. بيروت.

- الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة: ابن عبد الملك المراكشي. تحقيق محمد ابن شريفة.

- كشف الظنون: حاجي خليفة. مكتبة المثنى، بغداد.

- المغرب في حلى المغرب: ابن سعيد المغربي – تحقيق شوقي ضيف، دار المعارف 1978.

- وفيات الأعيان، ابن خلكان، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت.

- الأعلام: خير الدين الزركلي. دار العلم للملايين، بيروت 1979.

- إذا هبت ريح الإيمان: أبو الحسن الندوي.

- التراجم والسير: محمد عبد الغني حسن، دار المعارف.

- حركة التأليف عند العرب: أمجد الطرابلسي.

- رجال الفكر والدعوة في الإسلام 1،2: أبو الحسن الندوي دار القلم الكويت.

- السيرة النبوية. منشورات المكتبة العصرية. بيروت 1979.

- شخصيات وكتب: أبو الحسن الندوي، دار القلم دمشق.

- ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: أبو الحسن الندوي، دار المعارف.

- الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية: أبو الحسن الندوي، دار القلم. الكويت.

- في مسيرة الحياة 2،1 أبو الحسن الندوي، دار القلم، دمشق.