لاَمِيَّةُ العَرَب

( في ديوان العرب )

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

مِنَ الحقائق التي حملها إلينا التاريخ، وسرت مسرى الأمثال، قولهم: "العرب أمة شاعرة". وكذلك قولهم: "الشعر ديوان العرب". ولا مبالغة في ذلك: فالشعر هو الذي حفظ تاريخهم، وأيامهم، ومسيرة حياتهم.

**********

 عزيزي القارئ: نعيش هذه الحلقة من ديوان العرب مع قصيدة "لامية العرب". ولامية العرب مطولة شعرية من ثمانية وستين بيتًا على قافية اللام، نظمها الشاعر الجاهلي الشنفرى، وهو شاعر من شعراء الصعاليك المشهورين.

 ولهذه القصيدة شهرة لا تقل عن شهرة المقامات، بل تفوقت عليها في جوانب كثيرة، واشتهرت بهذا الاسم أي مضافة إلى العرب؛ لأنها جديرة بهذه النسبة لما فيها من قيم إنسانية، وكثير من جوانب الحياة العربية في عفوية ومصداقية، وتصوير بارع لمشاعر النفس ودخائل التراث، زيادة على وفرة المادة اللغوية مما دفع كثيرًا من العلماء إلى شرحها وإعرابها.

 **********

 واهتم بها كثير من المستشرقين، وقد قال عنها أحدهم "هي من أجمل آيات الشعر العربي".

والمضامين الفكرية الرئيسية للقصيدة، تتلخص فيما يأتي:

 غضب الشاعر على قومه، وميله بعيدًا عنهم.

 تفضيله وحوش الحيوانات عليهم إذ وجد فيها ما لم يجده فيهم.

 فخره بنفسه، وتعداد صفاته، واعتداده بصبره على الجوع.

 وصف الذئاب والقطا.

 حديثه عن ضياعه النفسي وهمومه، وصبره، وحاليْ فقره وغناه.

 ترفعه عن النميمة.

 قوته وبطشه في الليلة الباردة.

 جلده وصبره في شدة الحر.

 سيره في القفار، ووصفه الوعول.

**********

 عزيزي القارئ : من حقك علينا بعد ذلك أن نقدم إليك قطوفًا من لامية العرب تكشف عن طبيعتها وأبعادها الفكرية والفنية:

ففي مستهل القصيدة يعلن غضبه على قومه، ويطلب منهم أن يصلحوا ما اعوج من أمرهم، أو يرحلوا عنه، وعلى أية حال ينذرهم بأنه راحل عنهم إلى غيرهم، فيقول:

أقـيـمـوا  بني أميِّ صدور مطيكم
فـقـد  حُمت الحاجات والليل iiمقمرٌ
وفي الأرض منأى للكريم عن iiالأذى
لعمرك ما بالأرض ضيقٌ على امرئ



فـإنـي  إلـى قـوم سـواكم iiلأمْيل
وشـدت  لـطـيـاتٍ مطايا iiوأرحُل
وفـيـهـا  لـمن خاف القِلى متعَزَّل
سـرى  راغـبًا أو راهبًا وهْو iiيعقل

أما أهله الحقيقيون فإنه لا يجدهم إلا في وحوش الصحراء مثل الذئب ، والنمر ، والضبع ويعلل سر اتخاذه لهم أهلاً بقوله:

هم الأهلُ لا مستودعُ السر ذائع          لديهم ولا الجاني بما جر يخذلُ

ويمضي الشاعر مفتخرًا بنفسه، ولكن صبره على الجوع كان من أنبل الصفات التي يعتز بها، يقول الشنفرى:

أديـم مِـطـال الـجـوع حـتى iiأميتهُ
وأسـتـف تـرب الأرض كيلا يرى iiله
وأطوي على الخُمص الحوايا كما انطوت


وأضـرب عـنـه الـذكر صفحًا iiفأذهل
عـلـيَّ مـن الـطـوْل امـرؤٌ iiمتطوِّل
خـيـوطـةُ مـاريٍّ تُـغـار iiوتُـفـتل

 **********

 ويطرح الشنفرى بعض همومه متحدثًا عن خوضه الحرب، أو أم قسطل كما كنى عنها، وكيف أنه مطلوب بجنايات أو ثئور لا تنام عنه، وكم حاول دفع الهموم عن نفسه، ولكنها سرعان ما تعود، يقول الشنفرى:

فإن  تبتئس بالشنفرى أم iiقسْطلٍ
طـريـدُ جناياتٍ تياسرنَ iiلحمهُ
تـنـامُ إذا ما نامَ يقظى iiعيونُها
وإلـف  هـموم ما تزالُ iiتعوده
إذا وردت أصـدرتـها، ثم iiإنَّها




لما اغتبطت بالشنفرى قبلُ أطولُ
عـقـيـرتـه لأيـهـا حُمَّ أولُ
حـثـاثـا  إلى مكروهِه iiتتغلغلُ
عـيادا كحمى الربع أو هي iiأثقلُ
تثوب  فتأتي من تُحيْتٍ ومن iiعلُ

 **********

وهو  في حالي الفقر والغنى  ذو أخلاق ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، فلا يفزع لفقر ولا يفرح لغنى:

وأعدمُ أحيانًا، وأغنى وإنما         ينال الغنى ذو البُعْدة المتبذل

فلا  جَزِعٌ من خَلةٍ متكشِّفٌ         ولا مرحٌ تحت الغنى أتخيل

**********

 ويفتخر الشنفرى بثلاث صفات هي: الحلم، وعدم تطفله على الناس في سلوكهم، وتنزهه عن النميمة، وكل ذلك في بيت واحد: يقول:

ولا تزدهي الأجهالُ حلمي ولا أُرى         سؤولاً بأعقاب الأقاويل أنمُلُ

لقد كان الشنفرى أحد الشعراء الصعاليك، وهم المطاريد المطلوبون الذين يأوون إلى الكهوف، ويغيرون ليلاً طلبًا للمعاش، ويصف الشنفرى إحدى غاراته في الأبيات التالية:

ولـيـلةِ نحسِ يصطلي القوس iiرَبُّها
دعستُ على غطش وبطش وصحبتي
فـأيـمـت نـسـوانا، وأيتمت وِلْدةً
وأصـبـح  عـني بالغُميصاء جالسًا
فـقـالـوا:  لـقد هرت بليل iiكلابنا
فـلـم تـكُ إلا نـبـأة، ثـم هومت
فـإن يـك مـن جـنٍّ لأبرح iiطارقًا






وأقـطـعـه  الـلاتـي بـها iiيتنبل
سـعـارُ وإرزيـرٌ ووجْـرٌ وأفـكُل
وعـدت كـمـا أبـدأتُ والليلُ iiأليلُ
فـريـقـان:  مسئولٌ  وآخر iiيسأَلُ
فـقـلـنا  أذئب عس أم عس iiفُرعل
فـقـلـنـا  قطاة ريعَ أم ريعَ iiأجْدلُ
وإن  يـكَ إنـسٌ ما كذا الإنس iiتفعل

ويصف الشاعر ويصف كثيرًا من الحيوانات التي أنس إليها، ويختم مطولته ببتين عن الأراوي أي الوعول فيقول:

ترودّ الأراوي الصحم حولي كأنها          عذارى   عليهن    الملاء   المذيلُ

ويركدن  بالآصال   حولي  كأنني          من العصم أدفى ينتحي الكيح أعقلُ

**********

 وفي ختام هذه الحلقة نعرض هذا الخبر الغريب الطريف عن الشنفرى صاحب لامية العرب: يقال إن الشنفرى فر من "بني سلامان" غاضبًا عليهم بعد أن كان يعيش بينهم. وأقسم أن يقتل مائة منهم، ولكنه لم يقتل منهم إلا تسعة وتسعين ثم قتل، وألقيت جثته في العراء. فمر أحد بني سلامان فلما عرف أنها جثة الشنفرى ركل جمجمته بقدمه غيظًا وغضبًا، فعلقت بها شظية من عظام الجمجمة فسال دمه ومات فيها، وبذلك تمت المائة، وبر الشنفرى بوعده ميتًا.

وواضح أنها قصة موضوعة ومفتعله، ولكنها على أية حال طريفة.

**********

عزيز القارئ: نودعك الآن على أمل اللقاء بك على حب وخير وحق. وإلى اللقاء في الحلقة القادمة من ديوان العرب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.