قصيدة محمود درويش

فكّر بغيرك

دراسة أسلوبية

الشاعر محمود درويش

سمير الجندي/ القدس

[email protected]

وأنت تُعدُّ فطورك، فكر بغيرك                          [ لا تنس قوت الحمام]

وأنت تخوض حروبك، فكر بغيرك            [ لا تنس من يطلبون السلام ]

وأنت تسدد فاتورة الماء، فكّر بغيرك                [ من يرضعون الغمام ]

وأنت تعود إلى البيت، بيتك، فكّر بغيرك             [ لا تنس شعب الخيام ]

وأنت تنام وتحصي الكواكب، فكرِّ بغيرك    [ ثمَّة من لم يجد حيّزاً للمنام ]

وأنت تحرر نفسك بالاستعارات، فكر بغيرك     [ من فقدوا حقهم بالكلام ]

وأنت تفكر بالآخرين البعيدين، فكِّر بنفسك [ قل: ليتني شمعة في الظلام ]

 

وأنت تُعدُّ فطورك، فكر بغيرك         [ لا تنس قوت الحمام]

يعود الشاعر لمخاطبة تلك الفئة قائلا لها بأن الحياة التي تعيشونها وصراعاتكم على اكتساب ما تطاله أياديكم من خيرات الدنيا، مستأثرين بها لأنفسكم، أن هناك أناس آخرون في هذه الحياة يحتاجون إلى مصادر رزق لهم ولكنهم لا يشاركون في صراعاتكم للحصول على معيشتهم بل انهم يستخدمون وسائل سلمية للوصول إلى غاياتهم، فلا يعتدون ولا يتطاولون ويتفاعلون مع الحياة بوداعة وأريحية، ويستمر الشاعر باستخدام فعل الأمر (فكر بغيرك) فهو هنا بمثابة الحكيم والواعظ الذي يهمه نشر العدالة والمساواة بين الناس، رغم أن الشاعر ليس واعظا ولا مصلحا اجتماعيا إلى أنه يتقمص ذلك الدور قائلا:

وأنت تخوض حروبك، فكر بغيرك       [ لا تنس من يطلبون السلام ]

ويعبر الشاعر عن استيائه واستنكاره من المسرفين، وهنا يقارن الإسراف بمن يسرف في الماء ، أليس الماء هو أغلى ما في الأرض؟! وهي إشارة ذكية جدا من شاعر عبقري يستطيع تطويع الفكرة ومزجها بالعبارة واللفظة المناسبة، ولم يخرج عن سياق الفكرة الأساسية في مقارنة المسرفين في الحياة بمن هم لا يجدون قطرة ماء تشفي ظمأهم، فها هو يخاطب الفئة المسرفة، بأن يفكروا ويعودوا عن عادتهم السيئة في الإسراف بكل شيء لأنهم ليسوا وحدهم على هذه الأرض ، فهو يستخدم الفعل المضارع(يرضعون) وهذا التعبير يتناسب بشكل لا جدال فيه مع الفكرة الأساسية التي يريدها الشاعر لأن الطفل الرضيع يحاول الحصول على قطرات الحليب قطرة قطرة، وهذا بعكس الإسراف تماما، فالناس من فيهم المسرف، الجاهل، الأناني، المتغطرس عن حقوق الآخرين، لأن ما يرميه من طعام أو شراب أو غيره، فإنه يكفي لسد حاجات الكثيرين من بني البشر، فهو يقول في ذلك:

وأنت تسدد فاتورة الماء، فكّر بغيرك        [ من يرضعون الغمام ]

أما عندما يقول:

وأنت تعود إلى البيت، بيتك، فكّر بغيرك           [ لا تنس شعب الخيام ]

 فإن الشاعر هنا، يعبر عن حزنه وغضبه الدفين بين كلمات ليست بريئة كما يبدو للوهلة الأولى هي كلمات معبرة عن سخط الشاعر من تجاهل حقوق اللاجئين الفلسطينيين، التي طال مكوثهم في تلك المخيمات، وكادت قضيتهم تُنسى مع مرور الزمان، ولذلك فالشاعر يخاطب أصحاب القرار ، ويدعوهم بوقفة جادة مع قضية اللاجئين، ويحثهم على القيام بواجباتهم الأخلاقية قبل كل شيء، فهو يأمرهم بتذكر أولئك الناس باستمرار ( وأنت تعود إلى البيت، بيتك، فكر بغيرك)، وأن تكون قضيتهم من أولويات القضايا البحثية، فهي تعني ملايين الناس الذين فقدوا كل شيء ليعيشوا في تلك الخيام البائسة، المنسية.

وها هو يتذكر المشردون، الذين لا مأوى لهم نتيجة الحروب والدمار وهدم البيوت، بحيث لا مكان يسكنوا إليه، فهو يطالبنا هنا أن نتذكرهم وأن لا نركن على توفر الأمان لأطفالنا وأن ننسى أطفال من شردوا وحرموا السكن، هم أيضا بحاجة للطمأنينة والسلام، ولا يريدون إلا حيزا بسيطا على قدر قاماتهم ليسكنوا فيه ربما يستطيعون فيه رؤية الكواكب... يقول شاعرنا في ذلك:

وأنت تنام وتحصي الكواكب، فكرِّ بغيرك    [ ثمَّة من لم يجد حيّزاً للمنام ]

 وينتقل بنا الشاعر بسلاسة إلى الذين تتوفر لديهم كل أسباب التعبير عن النفس والأفكار ليقول لهم  مهلاً، هناك من لا يمكنهم الكلام ولم يعد بمقدورهم التعبير عن النفس مثلكم، وذلك لأسباب عديدة ربما تكون الاعتقال السياسي وكم الأفواه، أو الذين فقدوا ولم يعودوا موجودين بيننا، أنت أيها القادر على التعبير لماذا لا تكون ممثلا عنهم، تشرح قضاياهم، وتنقل همومهم، وآلامهم، من خلال قلمك أيها الشاعر أو الكاتب، ومن خلال ريشة فنان، او من خلال لحن من الألحان، يريد الشاعر ان يقول لكل فنان مهما اختلفت أدواته أن يستخدم فنه في خدمة الإنسانية والمجتمع، فالفن اذا لم يخدم قضية إنسانية فهو لا يعد فنا بل عبثا لا حاجة لنا به، يقول شاعرنا:

وأنت تحرر نفسك بالاستعارات، فكر بغيرك    [ من فقدوا حقهم بالكلام ]

 

وأنت تفكر بالآخرين البعيدين، فكِّر بنفسك [ قل: ليتني شمعة في الظلام ]

نلاحظ أن الشاعر قد كرر بعض الألفاظ في كل الأبيات، وخاصة كلمة( وأنت ) وجملة، ( فكر بغيرك) فقد كرر الكلمة (وأنت) سبع مرات، أي في جميع أبيات القصيدة، وكرر جملة (فكر بغيرك) ست مرات أي في جميع أبيات القصيدة ما عدا البيت الأخير، أما الكلمة فبرغم انه كررها في كل بيت إلا أن دلالاتها تختلف من بيت إلى آخر فقد استخدمها للأناني والمسرف والذي يعيش براحة واطمئنان، كما استخدمها لهادئ البال، والمبدع والفنان كما استخدمها للإنسان البسيط، فقد وظف الكلمة لتخدم الفكرة وتتلاءم مع المعنى بكل براعة واقتدار..

أأما تكرار (فكر بغيرك) فقد استخدم الجملة عنوانا للقصيدة، وهي محور الفكرة العامة التي أراد الشاعر إرسالها للمتلقي، فهي جملة فعلية، من فعل وفاعل ومفعول به، والفعل هو فعل الأمر، الذي يجعل من الشاعر واعظا ومصلحا اجتماعيا، يتمنى أن يكون المجتمع نقيا طاهرا لا عيب فيه ولا فساد، فكان تكرار الجملة في كل بيت من أبيات القصيدة تقريبا بمثابة، ناقوس يقرع به آذان الذين صُمّت آذانهم عن الحق والواجب الملقى عليهم، فجاءت دقاته بمثابة الصرخة التي توقظ ضمائرهم الغائبة.

              

المصادر والمراجع

المصادر

1-    درويش محمود، كزهر اللوز أو أبعد، ط1، بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2005.