قوة العلاقة بين المعنى ووظائف اللغة-3
قوة العلاقة بين المعنى ووظائف اللغة
(3)
عبد السلام حامد
أستاذ مشارك بجامعتي القاهرة وقطر
من أهم التفسيرات التي يمكن أن تبين سر اهتمام الدارسين بالمعنى أن المعنى في أحد أهم جهاته ما هو إلا وظيفة اللغة التي هي غايته، وإذا عرفنا أن اللغة ليست لها وظيفة واحدة، بل لها وظائف متعددة؛ أدركنا عندئذ أننا عندما نعتني بدراسة المعنى فهذا أمر مقبول جداً وبحثه من الأهمية بمكان؛ لأننا في الحقيقة نكون حينئذ باحثين ـ بوعي أو بغير وعي ـ في مجال الغايات ( أي هذه الوظائف المتعددة للغة ) ونكون محاولين أيضاً دراسة ا لمشكلات التي تعترض تحقيقها كاللبس والغموض([1]). يؤكد هذا التعليل في الاهتمام بدراسة المعنى أننا عندما نقوم بدراسة اللغة نفسها، سنجد أن دراستها من حيث وظائفها تمثل إحدى الزاويتين اللتين تتم هذه الدراسة من خلالهما، وأعني بهذا زاوية الدراسة الوظيفية للغة، وهي تتعلق بالوظائف التي تؤديها اللغة في المجتمعات البشرية، أما الزاوية الأخرى فهي الزاوية الشكلية، وتتعلق "بالشكل أو بالبنية الظاهرة، أي بالطرق أو القواعد التي تستخدم في اللغات المختلفة لتنظيم أصوات اللغة ومفرداتها بحيث تؤدي المعاني المطلوبة. وهذه الناحية هي التي تطرق لها معظم اللغويين القدامى"([2]).
وليس أدل على قرب العلاقة ووجود الشبه بين المعنى ووظيفة اللغة من أن سؤالاً مثل: لماذا نتحدث؟ يمكن ـ مع قدر من التجاوز ـ أن يجاب عليه من جهة المعنى فيقال: لأداء معنى كذا؛ بالإضافة إلى الإجابة الأصلية من جهة وظيفة اللغة بقولنا مثلاً: لأداء وظيفة كذا وكذا. والظاهر على كل حال أن العلاقة بين وظائف اللغة والدلالة ـ من هذه الزاوية وفي إحدى جهاتها ـ تشبه إلى حد ما العلاقة القائمة في التصنيف بين الجنس وما يندرج تحته من أنواع، وسوف ندرك هذا تلقائياً من خلال عرض التحليل الآتي لوظائف اللغة، وهو الأمر الأساسي الذي أتكئ عليه هنا لبيان أهمية بحث المعنى في ضوء علاقته بوظائف اللغة.
والتحليل الذي أود أن أتوقف عنده هو التحليل الشهير لرومان جاكوبسون، حيث إنه يظل الأهم والأدق والأشمل في بيان وظائف اللغة بالنسبة لغيره من الآراء التي ذكرت في هذا الصدد. وهو تحليل أفاد فيه جاكوبسون من الجهد السابق عليه لعالم النفس الألماني كارل بوهلر([3])؛ فقد طور رأيه ووضع تحليله الخاص به على أساس البدء أولاً بتحديد العوامل أو العناصر المكونة لأي عملية اتصال لغوي، وقد جعلها ستة هي:
1) المرسِل متحدثاً أو كاتباً.
2) المرسَل إليه، وهو المخاطب والمقصود بالكلام.
3) المرجع أو المحال إليه، وهو الشيء الذي نتحدث عنه والحقائق التي نشير إليها.
4) الرسالة نفسها، وهي العلامة اللغوية منطوقة أو مكتوبة .
5) الشفرة أو النظام، وهو نسق القواعد المشترك بين المرسِل والمرسَل إليه والذي من دونه لا يمكن أن تكون الرسالة مفهومة.
6) الاتصال، وهو ما يسمح بقيام التواصل وبقائه فيزيائياً ونفسياً عبر قناة مادية ورابطة نفسية.
وبناءً على هذه العناصر الستة يحدد جاكوبسون ست وظائف للغة ترتبط كل واحدة منها بواحدة من هذه العناصر على الوجه الآتي([4]):
أ- الوظيفة المرجعية:
ويُطلق عليها أيضاً الوظيفة الإرجاعية والدالة والفكرية والوظيفة المُعَرِّفة والتعيينية. وهي ترتبط بعنصر المرجع، ويقصد بها أننا نتحدث لنخبر بشيء ونعرّف به ونشير إليه. وتعد هذه هي الوظيفة الأساسية في اللغة. والمعيار الذي تعرف به صحة السؤال عن جملتها بقولنا: أصحيح هو أم خطأ؟ ومثال ذلك قولنا: لقد شرب؛ حيث يصح أن نسأل: هل صحيح أنه شرب؟
ب- الوظيفة التعبيرية:
وتسمى أيضاً الانفعالية، ولكن يُفضل مصطلح " التعبيرية " لأن التعبير عن الذات لا ينحصر في حدود الانفعال. ومن الواضح أن هذه الوظيفة تتعلق بعنصر المرسِل، ويقصد بها أننا نتحدث لا لنخبر فقط بل لنعبر عن ذواتنا أيضاً بالأحاسيس المختلفة كالإحساس بالغضب أو السرور أو المفاجأة أو نقل الشعور بالتهكم أو التعجب، كما في " واهاً " مثلاً. وهي تظهر بوضوح في كل منطوق يوجد فيه ما يدل على الناطق مثل: " أنا " و " في رأيي ". ومعيار هذه الوظيفة سؤال: أصادق هو أم كاذب؟
ج- الوظيفة الإيعازية:
وتسمى الأمرية أيضاً، وهي تتعلق بالمرسَل إليه؛ إذ إنها تعني حثه على أن يقوم بفعل ما كما يحدث في حالات الأمر والنصيحة والرجاء والرفض والمنع، وتقاس هذه الوظيفة بمعيار سؤال: أمشروع هو أم غير مشروع؟
د- الوظيفة الشعرية:
يحدث أحياناً أن يكون هدف الرسالة هو الرسالة نفسها من حيث هي واقع مادي " بمعزل عن معناه . وهذه هي الشعرية التي لا تنحصر في الشعر بمعناه المحدد، والتي يمكن أن نسميها بالوظيفة البلاغية، تظهر هذه الوظيفة بمجرد أن يكون للدال أهمية معادلة لأهمية المدلول أو بمجرد أن يكون للدال أهمية أكبر من أهمية المدلول "([5])، وهذا ما يجعل الترجمة ظالمة للنص الشعري لأنها تقوم بإحلال دوال محل أخرى. وهذه الوظيفة الشعرية التي يتوجه فيها الاهتمام إلى الرسالة سؤالها الخاص الذي يبين حقيقتها هو: أجميل هو أم قبيح؟.
هـ- الوظيفة القولية:
تتعلق هذه الوظيفة بعنصر الاتصال لذا تسمى أحياناً الوظيفة الاتصالية، كما تسمى أيضاً الاجتماعية، وهي توجد عندما لا يكون ثمة هدف في الحديث إلا إقامة الاتصال الاجتماعي أو الحفاظ عليه أو قطعه. مثال ذلك أن عبارات مثل " نعم، صباح الخير، أهلاً بكم " إنما تستعمل مداخل عبر المكالمات الهاتفية، وعبارة مثل " نعم، هل تسمعني؟ " أو " تحدث بصوت عال " توظف لإطالة التواصل وإبقائه، أما عبارات مثل " أصغوا جيداً " و " أعيروني انتباهكم " و " انتبهوا " فهي تستخدم للتأكد من أن الاتصال يسير بانتظام، وفوق هذا نجد عبارات أخرى يلجأ إليها المتكلم لوضع حد للاتصال مثل: " بلغ تحياتي للشقيق " أو " قبّل الصغار عني ".
إن جاكوبسون يسمي هذه الوظيفة " القولية " ليبرز أننا نتحدث لا لنقول شيئاً بل نتحدث لكي نتحدث ويظل التواصل الاجتماعي قائماً بيننا، لذا تقوم هذه الوظيفة بدور خطير في المجتمعات البشرية، وشواهدها واضحة وملموسة في الاحتفالات والمراسم والمسامرات العائلية وأحاديث الحب والمجاملة وهي تظهر أول ما تظهر لدى الطفل، حيث يتحدث قبل أن يستطيع إيصال شيء ما لأن الهدف الأول من كلامه حينئذ هو الدخول في جماعة وخلق إمكانية التواصل ([6]).
و- الوظيفة الواصفة للغة:
باللغة نستطيع أن نتحدث عن اللغة، وهي وحدها من بين كل أنساق الاتصال الأخرى التي تسمح بالتحدث عن نفسها بنفسها. وتكون الرسالة اللغوية ذات وظيفة واصفة للغة عندما تكون كذلك، أي عندما يكون مضمونها متعلقاً بالنظم والقواعد والقوانين التي تتحدث عن اللغة وتجعل الرسالة مفهومة. وتسمى هذه الوظيفة أيضاً الوظيفة فوق اللغوية. وما فوق اللغة ليس بالضرورة هو اللغة العلمية أو الجبر المنطقي؛ لأننا في الحقيقة " نمارس ما فوق اللغة يومياً حين نتحدث عن اللغة التي نستعملها، وحين نضع تواصلنا في علاقة مع القواعد التي تجعل التواصل ممكناً تقريباً، مثلما يتوقف لاعبو الشطرنج ليتساءلوا عن هذه القاعدة أو تلك من قواعد اللعب. وبإيجاز فإن الوظيفة فوق اللغوية تظهر في أسئلة مثل: ( ماذا تريد أن تقول؟ ) وفي التعريفات والتسميات، وتعلم اللغة يمر عبر هذه الوظيفة "([7]). والسؤال الذي يسأل به عن هذه الوظيفة هو: أموافق لقواعد اللغة هو أم غير موافق؟
ويمكن بإيجاز وبصورة واضحة إجمال وظائف اللغة الست لجاكوبسون مع عناصرها وقيمها المعيارية في الجدول الآتي:
عنصر التواصل |
الوظيفة |
القيمة المعيارية |
المرجع |
المرجعية |
الحقيقة |
المرسِل |
التعبيرية |
الصدق |
المرسَل إليه |
الإيعازية |
المشروعية |
الرسالة |
الشعرية |
الجمال |
الاتصال |
القولية |
المجاملة |
القواعد ( الشفرة أو النظام ) |
الواصفة للغة |
موافقة القواعد |
إن العلاقة بين الدلالة ووظيفة اللغة تكشف لنا أن الاهتمام بدراسة المعنى لغوياً، جزء منه يرجع إلى حاجتنا إلى معرفة الدلالات والمعاني الرئيسة من زاوية وظائف اللغة وهي موزعة على عناصر الاتصال ومكونات المعنى، وأهم ما يمكن إدراكه في ذلك أن من جهات اختلاف المعاني اختلافها بحسب الوظيفة اللغوية وأن من أسباب تنوعها رجوع كل وظيفة إلى عنصر معين من العناصر المكونة لعملية الاتصال وارتباطها به. وعلى هذا: إذا كان القصد من الكلام متجهاً لعنصر المرجع فالدلالة الأساسية ـ وهي تختلف عن المحتوى الفعلي للكلام ـ مرجعية والوظيفة مرجعية كذلك، وإذا كان القصد متجهاً لعنصر المرسل فالدلالة الأساسية تعبيرية مهتمة بالذات والوظيفة كذلك، وإذا كان القصد متجهاً لعنصر المرسل إليه فالدلالة إيعازية أي غرضها الحث والوظيفة تكون كذلك، وإذا كان القصد متجهاً ناحية الكلام المنطوق نفسه باعتباره أصواتاً وتراكيب وجملاً، فالدلالة الأساسية شعرية أي بلاغية والوظيفة بلاغية كذلك، وإذا كان القصد متجهاً ناحية بقاء الاتصال المادي والنفسي بين المتكلم ( المرسِل ) والسامع أو المتلقي ( المرسَل إليه )، فالدلالة الأساسية قولية والوظيفة قولية كذلك، أما إذا اتجه القصد تلقاء الحديث عن نظام اللغة نفسه، فالدلالة واصفة للغة والوظيفة تكون كذلك.
ولعلنا من خلال هذا الإيضاح ندرك قوة
العلاقة التي أشرنا إليها بين الوظيفة اللغوية والدلالة، وتتمثل هذه العلاقة أوضح
ما تتمثل في أن الوظيفة يصح أن نقول عنها إنها دلالة أساسية في اللغة تختلف
باختلاف التوجه إلى عنصر معين من عناصر التواصل اللغوي. مثال ذلك أن متكلماً في
سياق عادي حينما يقول: ( هجرني حبيبي ولم أعد أراه ) فهجر حبيبه وعدم رؤيته هما
دلالة هذا الكلام المباشرة ومضمونه الذي يشير إليه، لكن هذه الدلالة نفسها إذا
نظرنا إليها من جهة كونها مشيرة إلى حقائق ( الوظيفة المرجعية ) أو معبرة عن الذات
(( الوظيفة التعبيرية ) أو أي جهة أخرى من جهات وظائف اللغة ـ فسوف نصفها بأنها في
المقام الأول دلالة مرجعية، أي مخبرة بحقيقة معينة هي هجر الحبيب وعدم رؤيته، وهذه
الدلالة المرجعية أساسية لا فرعية كالدلالة الأولى المباشرة، ولذا نقول إن هذه
الدلالة المرجعية الأساسية هي الوظيفة اللغوية لهذه الجملة في الوقت نفسه. وهذه
الدلالة الوظيفية أو الوظيفة الدلالية هي التي تجعل كلاماً مختلفاً عن كلام حتى حين
تكون الدلالة الأولية المباشرة فيهما واحدة أو كالواحدة، والشاهد على ذلك مقارنتنا
بين المثال السابق ومطلع نونية ابن زيدون الشهيرة:
أضحى التنائي بديلاً من تدانينا |
|
وناب عن طيب لقيانا تجافينا |
إننا مع قدر من الافتراض والتجاوز يمكننا أن نقول إن الدلالة الأولية المباشرة للشطر الأول في هذا البيت لا تختلف كثيراً عن مثيلتها في المثال السابق "هجرني حبيبي ولم أعد أراه"، ومع ذلك فثمة بون واسع بين الشطر والمثال في المعنى يرجع إلى اختلاف الدلالة الأساسية الوظيفية أو الوظيفة اللغوية؛ فهي في المثال ـ كما ذكرنا ـ مرجعية في المقام الأول وهي في البيت ـ في المقام الأول أيضاً ـ شعرية، أي أكثر توجهاً ناحية الكلام نفسه بوصفه صواتاً وتراكيب.
وثمة ملحوظتان مهمتان أود أن ألفت إليهما الأنظار أخيراً في سياق هذه المسألة:
الملحوظة الأولى: أنه من الصعب عملياً اقتصار رسالة لغوية على وظيفة واحدة مما سبق ذكره؛ حيث إن الوظائف ينضم بعضها إلى بعض في الكلام الواحد؛ فقد نجد مع الوظيفة المرجعية تعبيراً عن الذات فتكون الوظيفة مزدوجة: مرجعية تعبيرية، وفي الشعر يمكننا أن نجد الوظيفة شعرية مرجعية تعبيرية، وهكذا.
الملحوظة الثانية: أن رأي جاكوبسون في وظائف اللغة الذي ركزنا عليه رغم ما يبدو فيه من دقة واستيعاب، يقصر عن الإحاطة بكل الوظائف، لذا أشير إلى أن هناك آراء أخرى لا تعدم التنبيه إلى وظائف أخرى مهمة، كالوظيفة الرمزية، أو وظيفة الاتصال لنقل المعلومات (communication) ([8])، أو الوظيفة الإنجازية أو وظيفة كون اللغة أداة للتفكير.
ومن هذه الوظائف أيضاً وظيفة جديرة بأن نتوقف عندها هي الوظيفة اللعبية([9])، ويقصد بها إمكان استعمال اللغة في باب اللعب بالألفاظ والمعاني لغرض التسلي بالأحاجي والألغاز أو التجنيس أو المداعبة والتفكّه.
ومن أمثلة ذلك في التسلي بالأحاجي والألغاز الأحاجي النحوية، وقد أسهم في بابها نحاة منهم ابن هشام، وقسمها قسمين: قسماً يراد به تفسير المعنى، وقسماً يراد به تفسير الإعراب. ومن أمثلة القسم الأول لغز " أين تلبس الذكران براقع النساء وتبرز ربّات الحجال بعمائم الرجال ؟ "، وجوابه أن العدد من ثلاثة إلى عشرة تكتب فيه التاء مع المذكر وتحذف مع المؤنث. وكذلك اللغز الذي يشتمل عليه قول ابن حزم:
تجنب
صديقاً مثل ما واحذر الذي |
|
يكون
كعمرٍو بين عُربٍ وأعجم |
فإن
صديق السوء يُزري وشاهدي |
|
كما
شَرِقت صدرُ القناة من الدمِ |
وجوابه أنه يريد بـ " ما " الصديق الناقص، ووجه الشبه بينهما أن " ما " ناقصة وذلك إذا كانت موصولة حيث إنها تفتقر إلى عائد، كما أنها تنقص حرفاً إذا كانت استفهامية ودخل عليها حرف كما في قوله تعالى: " فيم أنت من ذكراها " [النازعات:43] . أما الصديق المحذّر منه فهو المكثّر بما ليس له مثل لفظ " عمرو " حيث يأخذ الواو في الرفع والجر مع أنها ليست ثابتة في نطقه ولا هجائه، وأما الشاهد الذي استشهد به على إزراء صديق السوء فهو عجز بيت الأعشى:
وتَشْرَق بالقول الذي قد أذعتَه |
|
كما
شَرِقَتْ صَدْرُ القناة من الدمِ |
وتقرير الشاهد فيه أن التأنيث سرى من المضاف إليه ( القناة ) إلى المضاف المذكر (صدر) ودليل ذلك إلحاق الفعل تاء التأنيث.
ومن أمثلة ألغاز القسم الثاني الذي يراد به تفسير الإعراب عند ابن هشام قول الشاعر:
لقد
قال عبدَ الله شرَّ مقالةٍ |
|
كفى
بكِ يا عبدَ العزيزُ حسيبُها |
وحل هذا أن " عبدالله " مثنى " عبد " مضافاً إلى اسمه تعالى، وحقه أن يكتب بألفين: عبدا الله، و" عبدَ " الثاني مرخم ( عَبْدَة ).
وكذلك قول الآخر:
أيُّ
علمٌ تزكو به النفسُ أولى |
|
من
سباق في حَلْبة الجهّالِ |
والتقدير في هذا: يا أيوب، فحذف حرف النداء، ورخم المنادى بحذف آخره([10]).
وأما التلعب في الكلام لأجل التجنيس فله نظرة مختلفة، حيث إنه في البلاغة العربية يعد من وجوه الفصاحة اللفظية ما دام جيداً، وهو من أقسام البديع. وهو إما تام وإما ناقص، والناقص له ضروب كثيرة منها المختلف بالحركات والمختلف بالأحرف، ومنها المركب ومنها المزدوج. فمن أمثلة التام قول الشاعر المعروف بالمغربي:
لو
زارنا طيفُ ذاتِ الخال أحيانا |
|
ونحن
في حُفَر الأجداث أحيانا |
تقول
أنتَ امرؤٌ جافٍ مغالطةً |
|
فقلتُ: لاهوّمت أجفانُ أجفانا |
لم
يبق غيرَكِ إنسانٌ يُلاذ به |
|
فلا
برحتِ لعين الدهر إنسانا |
ومن أمثلة المركب قول البستي([11]):
إذا
ملكٌ لم يكن ذاهبه |
|
فدعه
فدولته ذاهبه |
وكذلك ما ورد في الشطر الثاني من قول الشاعر([12]):
ناظراه فيما جنى ناظراه |
|
أو
دعاني أمت بما أودعاني |
ومن الأمثلة النثرية للمزدوج قولهم: " من طلب شيئاً وجدّ وجد، ومن قرع باباً ولجّ وَلَج". ومنه في الشعر قول البستي([13]):
أبا
العباس لا تحسب لشيبي |
|
بأني
من حُلى الأشعار عارِ |
فلي
طبعٌ كسلسال معينٍ |
|
زُلال من ذُرا الأحجار جارِ |
إذا
ما أكبتِ الأدوارُ زَندا |
|
فلي
زندٌ على الأدوار وارِ |
إن هذه الوظيفة التي نصفها بأنها لعبية تستوعب كثيراً من أشكال اللعب بالألفاظ وحدها أو بالمعاني وحدها أو بهما معاً. ونحن نرى ذلك جلياً أيضاً في شعر الدعابة والفكاهة([14]). ومع ذلك تبدو هذه الوظيفة ذات صفة شكلية واضحة. ولعل هذا اللعب الشكلي بالألفاظ الملحوظ هنا هو ما يستدعي في الذهن بصورة غير واهية الربط بين هذه الوظيفة ووظيفة الشعر الذي يعد في وجه من وجوهه ضرباً فنياً راقياً من اللعب والعبث المنظم باللغة، وأظن أن شعر الموشحات ـ رغم أنه فن جاد كغيره من الشعر الجاد ـ يصدق عليه هذا الوصف أكثر من غيره.
([1]) انظر: د.عزمي إسلام، مفهوم المعنى دراسة تحليلية ص125، 156 (حوليات كلية الآداب بجامعة الكويت ـ الرسالة 31-1985).
([2]) د. نايف خرما: أضواء على الدراسات اللغوية المعاصرة ص 207 ( سلسلة عالم المعرفة بالكويت 1979م).
([3]) انظر: يوسف غازي، مدخل إلى الألسنية ( منشورات العالم العربي الجامعية بدمشق ـ ط1) 51، 52.
([4]) انظر: اللغة، نصوص مختارة، إعداد وترجمة محمد سبيلا وعبدالسلام بنعبد العالي ( دار توبقال بالدار البيضاء ـ ط2) 52-55.
([5]) السابق 54.
([6]) انظر: يوسف غازي ( مدخل إلى الألسنية ) 55، واللغة، نصوص مختارة 54.
([7]) اللغة، نصوص مختارة: 55.
([8]) انظر: رمزي بعلبكي ( معجم المصطلحات اللغوية ) 203، ونايف خرما ( أضواء على الدراسات اللغوية) 208-215.
([9]) انظر: يوسف غازي ( مدخل إلى الألسنية ) 56، 57.
([10]) انظر: ابن هشام، من رسائل ابن هشام النحوية، تحقيق حسن إسماعيل ( دمشق ـ ط1 ) 110ـ113،116، 120، وانظر أيضاً: السيوطي، الأشباه والنظائر ( دار الكتب العلمية ـ بيروت )3/7 وما بعدها.
([11]) انظر: يحيى بن حمزة العلوي، الطراز ( دار الكتب العلمية ـ بيروت ط1 ) 273، 274.
([12]) عبدالقاهر الجرجاني: أسرار البلاغة، قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر ( مطبعة المدني ـ ط1 ) 7.
([13]) العلوي: الطراز 376.
([14]) من أوضح الأمثلة على ذلك ما كتبه حسين شفيق المصري في هذا الباب.