المسجد دوره ومكانته
المسجد دوره ومكانته
في موضوعات القصة الإسلامية المعاصرة
يحيى بشير حاج يحيى
عضو رابطة أدباء الشام
حفلت السيرة النبوية والأحاديث الشريفة بالحديث عن المسجد، فعُرف دوره داراً للعبادة والقيادة، ومكاناً للقضاء بين الناس، ومركزاً لانطلاق الجيوش ومدرسة للعلم والتعليم، ونادياً للحوار والمذاكرة.. واستمر يؤدي مهمته في مختلف العصور كما في الأزهر الشريف وجامع الزيتونة، ومسجد بني أمية، وكثير من المساجد، فقد كانت مراكز إشعاع وقاعات مؤتمرات وأندية مباحثات تُدرس فيها أوضاع الأمة، ويتخذ فيها أهم القرارات في حياة الأمة واقعاً ومستقبلاً.
وقد أبرزت القصة الإسلامية المعاصرة هذا الدور، ووضحت مكانة المسجد في حياة المسلمين، فبقي المسجد في ذاكرة القاص المسلم يستلهم من روحانيته، ويستمد من إشعاعه ويمكن أثره في حياة الفرد والجماعة، مجاهدين ينطلقون من ساحاته، وتائبين يتأوهون في محرابه، وعلماء يصدعون بكلمة الحق فوق منابره، ودعاء يهزون أعماق الشاردين بمواعظهم وإرشادهم، وشباباً يؤوبون بعد أن انغمسوا في ملذات الحياة، حتى ليكاد تيارها يدفعهم إلى الأعماق لولا نقطة الضوء التي غرسها المسجد في قلوبهم تضيء لهم طريق العودة والفرار إلى الله.
ويظل المسجد رمزاً للطهر، وعنواناً لمواجهة الباطل، ومنارة خير يهتدي بها الخابطون إلى بر الهدى والأمان، ففي خضم الحياة، ومع تجاذب تياراتها للشباب يكاد الفتى "يسار" كما في قصة "حديث الشيخ" لداود سليمان العبيدي، ينزلق في الهاوية بعد أن راهن أحدهم على إغوائه عن طريق جارية حسناء تتعرض له في الطريق بحجة إعانتها على مشكلة حلت بها، ويتأرجح الفتى يسار، وقد شغلته، فيستدرجه المراهن إلى منزله، ليطلعه على مخطوط نفيس، ويجمعه بالجارية، ويقدم له كأساً من الخمر، وهو يقول: اشرب.. يا يسار، لقد أقسمت أن أسقيك بنفسي، وبذلتُ للجارية ألف دينار؟ فيرتاع يسار وتلوح له صورة المسجد يطهره وروحانيته، ويتذكر صورة إخوانه وثقة الشيخ به، فينفجر غاضباً، يركل الطاولة، ويمضي يحث الخطى إلى المسجد، ليصل إليه وقد أُديت صلاة العشاء، والشيخ لا يزال في مكانه، كأنه ينتظره، وتتحول الكلمات إلى دموع، وهو يستمع إلى قوله تعالى: (وإني لغفّار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى) (طه 82).
وفي قصة "فلا تنس الله" لليلى الحلو يصبح المسجد ملاذاً تلوذ به وقد داهمها السرطان وهي في بلاد الغرب، واستولى عليها الرعب، ولكن الله فتح لها باب اللجوء إليه، والتوجه بالدعاء، فتسافر إلى مكة المكرمة لأداء العمرة، وتنقطع للصلاة والدعاء، وتلزم الحرم وتكثر من شرب ماء زمزم، فتحس بانشراح الصدر وإشراق الإيمان في قلبها، ويمن الله عليها بالشفاء وهي في حرم مكة وتعود إلى الغرب، ويشك الأطباء أنها المريضة التي كانت تتردد عليهم من قبل.
وفي أقصوصة "نور من المحراب" من مجموعة "يا أيها الإنسان" ليوسف العظم حديث عن رجل قوقازي مهاجر مستمسك بدينه، يحرص على ابنه الذي ينحرف فترة من الزمن، ثم يؤوب إلى الله.. وفي المسجد يكون اللقاء، فقد اصطف المصلون وراح صوت الإمام رخيماً ندياً (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) (الزمر 53).
وختمت الصلاة.. وكانت مفاجأة للأب إذ كان الذي يجاوره ابنه، وعقدت الدهشة لسانه فأمسك الشاب بيد أبيه يغسلها بدموع التوبة والندم، ليقول: أبي.. لقد أمضيت ليلة البارحة هنا في عتمة الليل.. وصمت المحراب.. لقد عدت يا أبي.. نعم يا أبي.. لقد عدت إلى الله.
كما يبرز المسجد بوصفه منطلقاً للجهاد يتربى فيه الشباب على التضحية والفداء، لينطلقوا في سبيل الله كما انطلق أسلافهم يواجهون الظلم بأشكاله وأنواعه، وتجلى القصة الإسلامية هذه الحقيقة من خلال أعمال متعددة!
ففي رواية "الإعصار والمئذنة" يتحدث الدكتور عماد الدين خليل عن المواجهة بين الشيوعيين ومدينة الموصل في عهد عبد الكريم قاسم! فاتخذ المؤلف من المئذنة رمزاً لصمود المدينة المجاهدة في وجه المخرب، إذ انطلق الشيوعيون آنذاك يقيمون المجازر، وينصبون المشانق على أعمدة الكهرباء وأشجار الشوارع؟ فربط بين بطل الرواية هاشم الذي سقط من شدة التعذيب، وهو يختلج والابتسامة على شفتيه، وسبابته تنطلق من أسر القبضة لكي ترتفع قليلاً، وبزاوية مائلة رب السماء، وبين المئذنة التي ترمز إلى الإسلام يتعرض للمحن والنكبات، ولكنه يظل كمآذن ماجدة صامداً ناهضاً في وجه الأعاصير!
وهب هي ذي "فاطمة" في أقصوصة "بقعة ضوء" من مجموعة "المطر المر" لمحمد حمدان سيد، تحمل عبء المواجهة في الدفاع عن المسجد الإبراهيمي الذي دنسه الاحتلال، ووقف جنود البغي على أبوابه يهددون الداخلين إليه! جنود الغرباء القساة يمرحون ويعربدون في ساحاته، والرجال يطأطئون الرؤوس ويرفعون الأيدي للتفتيش.
تحسست فاطمة محفظتها، وأسكتت كل نداء لبقاء، فشدت طرفي غطاء رأسها على عنقها، وهي تتقدم بخطوات ثابتة وئيدة، واستلت من كمها سكيناً، وتعلقت بعنق الجندي صائحة: لقد دنستم المكان يا أوغاد، أما آن لكم أن ترحلوا؟ فشدّها من يد فاطمة.. وطعنته في عنقه، وترنح الوغد تحت وطأة جراحه، وراح يخور بصوت أجش، والتفت الناس، وقد سمعوا صوت طلقات ليروا امرأة تغرغر بالروح، وهي لا تزال تتشبث بعنق الجندي المطعون، كانت فاطمة تهمس بصوت يكاد يُسمع: ماذا فعل الوغد؟ مشيرة إليه، ثم تمتم: سمية كانت شهيدة!! أليس كذلك؟
وفي أقصوصة "متى تعود الطيور المهاجرة؟" لمحمد السيد في مجموعته "شاطئ الرؤى خضر" حديثا بين المدينة المقدسة، ومنبر صلاح الدين، فالمدينة تتطلع إلى جنده، تترقب قدومهم، المنبر يقف شامخاً في حزن!! إذ لا يجد الرجال الذين عرفهم من قبل، وأما المدينة فيكاد صبرها ينفد، وهي تتساءل: متى سيحين الوقت الذي خلص فيه من المحنة، وتفك القيد الذي كبلنا كل هذه السنين؟ ليجيب المنبر: عندما تلد الكتيبة الكتيبة، ويصبح الموت جرعة شراب مريئة، تزغرد لها النساء، ويطلبها الرجال، عندما يجتمع الصف إلى الصف، ويعضد الساعد الساعد، ويرفرف سوق كل ذلك روح صلاح الدين، ورايات عمر، شعارات قطز.
وإذا كان الكاتب قد أنطلق الجماد فهو لم يبعد كثيراً، فللمنابر قلوب وللمدن مشاعر، وتبدل القاطنين لا يفتر من واقعها شيئاً، فكيف إذا تبدل عزها ذلاً؟ وشموخها انكساراً؟ وطهرها دنساً؟ إنها جماد ولكن تحن إلى سابق عهدها المجيد، ومن قبل قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: "أحد جبل يحبنا ونحبه" إلى الرغم من الجراحات وفقد الأحبة!.
لقد أخذ المسجد حيزاً لائقاً في موضوعات القصة الإسلامية المعاصرة يتناسب مع مكانته ودوره في حياة المسلمين، وهو دور لا يزال يتجدد ويمتد، ولعل الانتفاضة التي انطلقت من رحابه كانت أصدق تعبير، كما أن فتيانها كانوا أجمل منارة في ليل الإحباط البهيم!.