دلالة بناء الجملة في شعر الدكتور جابر قميحة
دلالة بناء الجملة في شعر الدكتور جابر قميحة
"ملحمة النسر واليمامة نموذجا"
أ.د/ جابر قميحة |
د. نعيم محمد عبد الغني |
الدكتور جابر قميحة شاعر مصري له نتاج في الأدب والنقد، ويهمنا في هذا المقام نتاجه الشعري؛ فله العديد من دواوين الشعر منها: (لجهاد الأفغان أغني – على هؤلاء بشعري بكيت - حديث عصري إلى أبى أيوب الأنصاري - حسبكم الله و نعم الوكيل - الزحف المدنس (شعري في نكبة الكويت)- لله والحق وفلسطين - محكمة الهزل العليا (مسرحية شعرية) - أسماء الله الحسنى ( ترجمة شعرية لديوان الباكستانية نيار إحسان رشيد)...إلخ
ونختار من هذا النتاج الشعري قصيدته (ملحمة النسر واليمامة) لتحليل بناء الجملة فيها لسببين:
أولا: ما لاحظته في شعر الدكتور جابر قميحة من تأثير البعد الإسلامي عليه بحيث كانت عنده ظواهر فنية كاستدعاء الشخصيات التراثية والتناص واستخدام معجم شعري خاص، وهذا من شأنه أن يوقفنا على مدى تفاعل المفردات مع الوظائف النحوية لبناء جملة شعرية ذات ظلال فنية مكثفة.
ثانيا: نسبة القراءة لقصائد الدكتور جابر كبيرة، وذلك قياسا لما يقرأ من إبداع على الساحة الآن، فبنظرة إلى بعض قصائده المنشورة على مواقع الإنترنت نجد أن بعض القصائد تجاوز أربعة آلاف قارئ كالقصيدة التي نحن بصدد تحليلها، ومن ثم فدراسة بناء الجملة في مثل هذه القصائد التي تستهوي القارئ توقفنا على مدى تفاعل القارئ والمبدع، مع العلم بأن معيار الكثرة والقلة لقراءة العمل الأدبي ليست معيارا للحكم على العمل الفني، بل يعد أحد المعايير الذي ينبغي أن يضعها المبدع في حسبانه؛ لأن إبداعه ينبغي أن يكون مصورا لحياة الناس، فالشعر كان وما زال ديوان العرب الذي يصور آلامهم وآمالهم.
ثالثا: تتخذ الجملة منطلقا لكل دراسة نحوية تهدف إلى وصف اللغة وتقعيدها؛ "فهي الإطار الذي يحتوي ما عداه من الوحدات، والمحور الذي تدور حوله سائر العناصر، والبنية التي تنعكس عليها معظم المؤثرات"([1]).
وهذا البحث ينقسم إلى جزأين الأول نظري، أتحدث فيه باقتضاب عن الجملة وتقسيماتها ودور المفردة في بناء الجملة بصفة عامة، ثم أطبق ذلك في الجزء الثاني على قصيدة "ملحمة النسر واليمامة".
أولا: المفردة وبناء الجملة
1-مصطلح الجملة
ما زال الخلاف قائما حول تعريف الجملة وتقسيماتها؛ مما ترتب على ذلك اختلاف وجهات النظر للباحثين بالنسبة للجملة العربية بصفة عامة؛ "فلقد اجتهد الباحثون منذ أفلاطون حتى عصرنا الحاضر على اختلاف منازعهم ومناهجهم، في تحديد مفهوم الجملة، بما هي مصطلح؛ فقدموا لنا عددا ضخما من التعريفات أربى على ثلاثمائة تعريف"([2]). غير أنه يمكن تصنيف تعريفات النحاة للجملة في ثلاثة اتجاهات:
الأول: يركز على الإفادة، والثاني يركز على الإسناد، والثالث يركز على الإفادة والإسناد، فالاتجاه الذي يركز على الإفادة في تعريف الجملة يرى أنها أقل قدر من الكلام يحسن السكوت عليه([3]) ، والاتجاه الذي يركز على الإسناد في التعريف انقسم إلى فريقين: الأول لا يفرق بين مصطلحي الجملة والكلام؛ "فالكلام هو المركب من كلمتين أسندت إحداهما إلى الأخرى، وذلك لا يتأتى إلا في اسمين كقولك: زيد أخوك، أو فعل واسم، نحو قولك: زيد وانطلق بكر، ويسمى الجملة"([4]). والثاني: يفرق بين الجملة والكلام؛ حيث إن "الكلام هو القول المفيد بالقصد، والمراد بالمفيد ما دل على معنى يحسن السكوت عليه، والجملة عبارة عن الفعل وفاعله، كقام زيد، والمبتدأ وخبره كزيد قام، وما كان بمنزلة أحدهما نحو: ضرب اللص، وأقائم الزيدان، وبهذا يظهر لك أنهما ليستا بمترادفين"([5]).
أما الاتجاه الثالث الذي يجمع بين الإفادة والإسناد فيرى أن "الجملة تقوم على أساس من الإسناد يؤدي إلى إحداث فكرة تامة"([6]).
2- تقسيم الجملة
وقد ترتب على الخلاف في مفهوم الجملة اختلاف في تقسيمها؛ فقد انطلقوا من منطلقات مختلفة في هذه التقسيمات، فمنهم من انطلق من منطلق وظيفي عام، فقسم الجملة إلى خبرية وإنشائية، ومنهم من انطلق من منطلق تركيبي يعتمد على ما تبدأ به الجملة من مفردات، فإن بدأت باسم كانت اسمية، وإن بدأت بفعل كانت فعلية، وإن بدأت بوصف كانت وصفية، ومنهم من انطلق من النظر إلى احتمالات موقعية الجملة، كأن تكون في موقع خبر، أو نعت، أو حال..إلخ، ومن ثم فالجملة إما أن يكون لها محل من الإعراب، وإما أن لا يكون لها محل من الإعراب.
وقسم ابن هشام الجملة إلى صغرى وكبرى؛ "فالكبرى هي الاسمية التي خبرها جملة نحو: زيد قام أبوه، وزيد أبوه قائم، والصغرى هي المبنية على المبتدأ كالجملة المخبر عنها في المثالين"([7])، "والجملة الكبرى تنقسم إلى ذات وجه وذات وجهين، وذات الوجهين هي اسمية الصدر، فعلية العجز، نحو: زيد يقوم أبوه ...وذات الوجه نحو: زيد أبوه قائم"([8])
وقد اقترحت دراسات حديثة تقسيمات جديدة للجملة، وذلك بالنظر إلى الإسناد والإفادة معا، نأخذ منها مثلا تقسيم الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف، الذي يرى أن الجملة تنقسم إلى: جملة تامة إسنادية، وهي التي يكون الإسناد فيها مقصودا بالذات، وهذه الجملة تنسب إلى صدرها؛ فهي إما اسمية أو فعلية، وجملة تامة موجزة يذكر فيها عنصر واحد من عناصر الإسناد، ويحذف العنصر الثاني، حذفا واجبا، أو غالبا، وتضم: الجملة الفعلية الموجزة، والجملة الاسمية الموجزة، والجمل الجوابية، ويعني بها كل ما كان إجابة لسؤال، وكان مكتفيا بنفسه([9]).
ويلاحظ على هذه التقسيمات المختارة أنها قسمت الجملة بالنظر إلى حجم الجملة، فابن هشام يقسم الجملة إلى صغرى وكبرى، ويحلل عناصر الجملة؛ ليبين كيفية بناء الجملة الكبرى من خلال طول أحد عنصري الإسناد بإحلال جملة محل هذا المفرد، والدكتور محمد حماسة عبد اللطيف نظر أيضا في هذا التقسيم إلى طول الجملة، معتبرا وجود الإسناد عنصرا مؤثرا في طول الجملة.
3- دور المفردة في بناء الجملة:
هناك فرق بين النظام النحوي الذي يعد هيكلا تجريديا والحدث اللغوي الذي يعد الواقع الفعلي للغة، ويحدث التفاعل بين خانات النظام والمفردات التي تملأ هذه الخانات، ولذلك فهناك تأثير وتأثر بين الوظيفة النحوية التي هي وحدة بناء النظام وبين المفردة التي تملأ هذه الوظيفة، وهذه العملية أخذت جهدا كبيرا من الباحثين قديما وحديثا لبيان آليات هذا التأثير والتأثر؛ فالبلاغيون العرب قديما يضعون تقسيمات للمفردات في حقول دلالية في محاولة معرفة مسلك الكلمة داخل الوظيفة النحوية، فكلامهم مثلا عن طرفي التشبيه بأنه إما أن يكون مستندا إلى الحس كالخد عند التشبيه بالورد في المبصرات، وكالنكهة عند التشبيه بالعنبر في المشمومات، وإما أن يكون مستندا إلى العقل كالعلم إذا شبه بالحياة، أو يكون التشبيه في الوهميات المحضة كتشبيه المنية بالمخلب([10]).
وفي العصر الحديث نرى محاولات مثل ياكبسون الذي وضع قاعدة لكيفية تعويض المفردات داخل الوظيفة النحوية، فيذكر أنها تتم على أساسين: الأول يتمثل في عملية التشابه الذي يعوض فيه الشيء بمعادله، كتعويض الفتاة بالخيزران في مثل رأيت فتاة خيزران، وتعويض المجاورة الذي يفترض علاقة إسنادية، ونتيجة هذه التشابهات تنشأ مجازات التشابه أي الاستعارة، ومجازات التجاور أي الكناية، وجميع المجازات تقوم على هذين الأساسين([11]).
وهذه كلها اجتهادات جعلت عبد القاهر يقول: "وإنا إن بقينا الدهر نجهد أفكارنا حتى نعلم للكلمة المفردة سلكا ينظمها وجامعا يجمع شملها ويؤلفها، ويجعل بعضها بسبب من بعض غير توخي معاني النحو وأحكامه فيها طلبنا ما كل محال دونه"([12])
ومع هذا فإن الناظر إلى تفاعل المفردات مع الوظائف النحوية يمكن أن يلاحظ ما يأتي:
أولا: تؤثر البنية الصرفية والمعجمية في تحديد الوظيفة النحوية في الجملة
ثانيا: تكون الوظيفة النحوية في ثبات وتحرك، فثباتها نابع من أنها محددة سلفا في كتب النحو، وتحركها يكون بما يحدث فيها من تفاعلات رأسية تتمثل في الاستبدال بين المفردات داخل الوظيفة النحوية بحيث يؤدي إلى إطالة الموقع وتتمثل في الحذف والتقديم والتأخير بين هذه الوظائف في بناء الجملة([13])
ثالثا إن تفاعل المفردات مع الوظائف النحوية يتشكل على أربعة أسس هي:
1- وظائف نحوية بينها علاقات أساسية تمد المنطوق بالمعنى الأساسي .
2- مفردات يتم الاختيار من بينها لشغل الوظائف النحوية السابقة .
3- علاقات دلالية متفاعلة بين الوظائف النحوية، والمفردات المختارة .
4- السياق الخاص الذي ترد فيه الجملة سواء أكان سياقا لغويا أم غير لغوي([14])
إذا هذه نبذة موجزة عن تعريف الجملة وتقسيماتها ودور المفردة في بناء الجملة وأثر ذلك دلاليا بصفة عامة، وفيما يأتي تطبيق على قصيدة "ملحمة النسر واليمامة"([15]).
أولا: موضوع القصيدة
القصيدة خمسة وعشرون بيتا أتت على بحر المتقارب، تحكي مفارقة تصويرية في حال النسر الذي يتمتع بالقوة والعلو، تلك القوة التي جعلت منه شعارا للجيوش، غير أن هذه القوة التي هي مصدر العزة صارت مصدرا للذلة إذ استخدمت في التعدي على اليمامة التي قد نقرؤها في القصيدة رمزا للضعفاء.
ويصور الشاعر حالة الاعتداء، وما خلفه النسر من آلام على اليمامة تصويرا يشبه اعتداء الجيوش الأقوياء على الضعفاء من المرضى والشيوخ والأطفال الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، وبذلك فإن رمزية النسر واليمامة للبطش والطغيان على الضعفاء حققت أهدافها في رسم الصورة المأساوية لما يجده المسلمون الضعفاء في العصر الحالي للبطش والطغيان.
هذه ربما الرسالة التي أراد الشاعر أن يبعثها من خلال الصورة الدرامية التي رسمها في ملحمته النسر واليمامة، وفي سبيل ذلك كان تشكيل بناء الجملة في هذه القصيدة له عدة خصائص نحوية ودلالية تفاعلت فيها المفردات مع الوظائف النحوية، وكان هذا التفاعل أفقيا بحيث شمل التقديم والتأخير والحذف والفصل وكان رأسيا ليشمل إطالة الموقع النحوي، وخرق قوانين الاختيار بين المفردات والوظائف النحوية ليحدث المجاز.
ثانيا: طبيعة الجملة في القصيدة
قبل البدء في ظواهر التفاعل الأفقي والرأسي في بناء الجملة الشعرية عند الدكتور جابر في ملحمة النسر واليمامة ينبغي أن نشير إلى أنه رغم تنوع الجمل في القصيدة بين الطول والقصر، إلا أن الجمل الطويلة كان لها نصيب موفور في القصيدة بحيث لا تكاد تجد بيتا إلا وبه جملة طويلة بل إنك قد تجد جملة تستغرق أكثر من بيت فمثلا نجد جملة شعرية استغرقت أربعة أبيات فيها تصوير لهجوم النسر على اليمامة، وفيها يقول الدكتور جابر:
وفي السفح تشهد أيكا كئيباً
ضرير الفؤاد.. حطاماً أصم
ونسرًا تخلى عن الناطحات
ليهبط منها .. على قاعها
ويزحف زحف الأفاعي اللئام
كأني به صيغ من طبعها
وينزل ضيفاً عزيزاً عليها
فتكرم مثواه في ربعها
لقد بدأت الجملة بالمضارع (تشهد) الدال على التجدد والاستمرار، وهو ببنيته المعجمية يتطلب مشاهد متنوعة ومن ثم جاء المفعول به (أيكا) طويلا بالنعت والعطف، فأما النعت فقد وصف الأيك بأنه (كئيبا –ضرير الفؤاد-حطاما –أصم) ثم طالت الجملة بالعطف فالمشاهد أيك به الصفات الأربع المذكورة آنفا ثم نسر وصف هو الآخر بجملة فعلية بدأت بالفعل (تخلى) وطالت بلام التعليل وحروف العطف لتستغرق هذه الجملة ثلاثة أبيات.
وهذه الإطالة التي رأيناها في جملة واحدة رصدناها فقط على المستوى الأفقي في بناء الجملة أما على المستوى الرأسي فإننا نلحظ أن الوظيفة النحوية طالت في نفسها فحل في مكان المفرد المركب والجملة في ظاهرة سميت بالتعاقب([16]) فنجد النعت الثاني لكلمة (أيكا) مركبا إضافيا (ضرير الفؤاد)، ونجد الجملة التي وصفت النسر البادئة بالفعل (تخلى) إلى نهاية البيت.
وهذه جملة شعرية واحدة حدثت فيها كل هذه الوسائل التي أطالت الجملة، وكان الشاعر موفقا فيها إلى حد كبير؛ فالمقام يتطلب الإطالة لا يتطلب الإيجاز، لأن القصيدة بها تصوير، والتصوير يحتاج إلى هذه الإطالة؛ لترسم الصورة في الخيال وكأنها واقع محسوس.
ثم كانت الجملة الشعرية أيضا طويلة بوسائل غير التي ذكرت في الجملة الآنفة؛ حيث إن الشاعر أجاد استخدام الإطالة بترتب جملة على أخرى([17]) في قوله:
فلما هبطت كحلم كئيب
يسد عليها دروب الهرب
تَهرَّبَ من شفتيها الهديل
وأخرسها منك سيف الرَّهَب
حيث نجد البيتين السابقين جملة واحدة مركبة من جملتين ترتبت إحداهما على الأخرى، فكانت الجملة الشرطية البادئة بأداة الشرط (لما) وجملة الشرط (هبطت كحلم كئيب يسد عليها دروب الهرب) وجواب الشرط (تهرب من شفتيها الهديل....إلخ).
وطالت الجملة أيضا بالنعت في قول الشاعر: (لك السحب والأنجم الباذخهْ - تروّع منه الذرا الشامخه - يزلزل أطوادها الراسخه). فكانت الباذخة والشامخة والراسخة نعوتا طالت بها الجملة.
ملامح تفاعل المفردات مع بناء الجملة في القصيدة
إذا تبين أن الجملة في القصيدة يغلب عليها الطول بمظاهر متعددة عرضنا بعضا منها، وستتجلى باقي وسائل الإطالة عند عرض ملامح التفاعل الأفقي والرأسي في بناء الجملة عند الدكتور جابر قميحة في ملحمته النسر واليمامة على النحو الآتي:
أولا: ملامح التفاعل الأفقي:
سبق أن بينا في المهاد أن التفاعل الأفقي يتم من خلال الفصل بين العناصر المتلازمة أو من خلال التقديم والتأخير أو من خلال حذف بعض الوظائف، وهذه الظواهر لم تكن موجودة كلها بل وجد التقديم والتأخير والحذف، أما التقديم والتأخير فإن أغلبه كان في الجملة الاسمية ليؤكد على ملكية النسر لأشياء كثيرة تجعله يبتعد عن الظلم، ولكنه آثر البغي والعدوان فجار على من لا قوة له حيلة، وهذا يبين سر الاستفهام عند الشاعر بعد هذه الجمل الاسمية التي كثر فيها تقديم شبه الجملة فمثلا يقول:
لك الوكرُ والمجدُ والراسيات
لك السحب والأنجم الباذخهْ
لك السهل
واستخدم التقديم والتأخير في الجملة الاسمية المقيدة بالنفي ليبين طغيان النسر الذي أراه يرمز للطواغيت من الحكام والبغاة المحتلين فيقول: فليس له منك غير الردى. ليكون الردى اسم ليس مؤخرا في نهاية الجملة، ليس فقط موافقة للقافية، وإنما إمعانا في وعيد من تسول له نفسه بالهجوم على النسر فقدم شبه الجملة (له) لتكون خبرا، ثم أتى بشبه جملة تقيد الفعل الناقص لتبين سطوة النسر (منك)، لتأتي أداة الاستثناء (غير) دون بقية أدوات الاستثناء لتوحي بالغيرية إذ النسر ليس عنده إلا خيار واحد يتمثل في الردى لمن يفكر في أن يقتحم عليه الجواء. أما أدوات الاستثناء الأخرى فقد توحي بأن هناك جملة استثناءات يمكن الأخذ منها.
وفي الجملة الفعلية كان التقديم والتأخير تصويرا لحالة الضحية عند افتراسها، يقول الشاعر:
فلما هبطت كحلم كئيب
يسد عليها دروب الهرب
تَهرَّبَ من شفتيها الهديل
وأخرسها منك سيف الرَّهَب
فالشاعر في جملة (فلما هبطت كحلم كئيب) اختزل مشهدا بأكمله تفاصيله أن الضحية كانت آمنة في سربها، وادعة لا تتوقع غدرا، ثم هبط فجأة عليها وأصبح كابوسا يفزع نومها، وهذا الهبوط الفجائي الذي لم يسبق بإنذار فيه دلالة على جبن القوي، وفجأته في افتراس ضحيته لتكون النتيجة في تصوير اعتمد على التقديم لشبه الجملة (من شفتيها) – (منك). فظهر طرفا الصراع في هذا التقديم وكأنهما في حرب كل في مواجهة الآخر، ولكن مواجهة غير متكافئة بها عنصر المفاجأة الذي جعل الهديل يهرب من شفتيها وأصابها بالخرس من سيف الرهب.
وأما الحذف فإنه كان خاصا بالضمائر فقط التي تكون في وظيفة الفاعل أو اسم كان، وذلك لأن القصيدة بها حكاية عن صراع بين طرفين، والحكاية يكثر بها الحذف واستخدام صيغ الفعل التي يأتي الحذف غالبا مقترنا بها، فمثلا حذف الفاعل في الحديث عن النسر وكان تقديره (أنت) في قول الشاعر:
كذلك كنت, فكيف هويت
مغيراً .. تجور على عشها
وتزحف كاللص في ليلها
لتستل بالغدر من قشها
ففي البيتين السابقين حذف للفاعل وكان تقديره أنت (تجور على عشها) والتقدير تجور أنت على عشها، (وتزحف كاللص) والتقدير (وتزحف أنت كاللص)، (لتستل بالغدر) والتقدير (لتستل أنت)
وكان تقدير الفاعل أيضا في الحذف (هو) في قوله: (فما عاد يدعى (مليك الطيور) فالفعل عاد فاعله تقديره (هو) والفعل يدعى نائب فاعله أيضا تقديره (هو)، وكان الضمير أيضا في وظيفة اسم كان في قول الشاعر: (وكانت تعانق شوق الحياة)
ثانيا: ملامح التفاعل الرأسي
أما ملامح التفاعل الرأسي في القصيدة فيلاحظ أن بناء الجملة في القصيدة قائم على المجاز الذي يتميز بخرق قانون الاختيار بين المفردات والوظيفة النحوية ليدهش القارئ بأمور غير متوقعة، واستطاع الشاعر توظيف هذا الخرق ليصور حالة الظلم الواقع على اليمامة التي هي رمز للضعفاء.
فيقول مثلا:
نهوم بزرع الأسى والجراح
خسيس بغيُّ الهوى مجحف
فأمتع ما يشتهيه الدماء
إذا ما الجراح بها تنزف
ويطلع فجر مريض الضياء
على (صوصوات) الأسى والألم
وبعض من الريش فوق الغصون
وبعض من القشّ يعلوه دم
ففي المقطوعة السابقة تصوير لانقضاض النسر على ضحيته، ذلك الانقضاض الذي أتى به الشعر إثر تصويره لحال النسر في قوته وجبروته في التعامل مع الكون المحيط به، ذلك الجبروت الذي يبدأ بملكية الأشياء التي هي مشاع لكل البشر، فله المجد والجبال الراسيات والنجوم ...إلخ.
إثر هذه الجبروت الذي أراد الشاعر أن يصوره بملكيه لأشياء يملكها كل من في الكون يصور انقضاضه على اليمامة الضعيفة، فهو طامع في إخضاع كل شيء له ومن ثم ستنكسر قوانين الطبيعة ومعها قوانين اللغة، من استعمال مجازي للمفردات في وظائف نحوية معينة؛ فالنهم والزرع لم تعد مقترنة بالطعام والخير الذي يجلب السعادة بل قرنت بالأسى والجراح، فقال: (نهوم بزرع الأسى والجراح)، فطغيان النسر جعله شاذا عن قوانين الطبيعة التي تستخدم النهم في كل شيء جميل وأصل استعماله في الطعام والشراب، وتستخدم الزرع للخير والنماء، ولكن بات الآن للأسى والجراح، ولم يقل الشاعر مثلا، شغوف، إذ الشغف في وقعه أقل من النهم فهو يصور جشعه وطمعه، ولم يقل في جلب الأسى والجراح، ليوحي بتمكن زراعته للأسى والجراح عند اليمامة.
ويظل الشاعر مصورا شذوذ النسر عن الطبيعة باستخدام المفردات استخداما مجازيا فيقول: (فأمتع ما يشتهيه الدماء) فجاء في الجملة بمفردتين (فأمتع) و(ما يشتهيه) وتوقع السامع أن يأتي بشيء من دروب المتعة المألوفة والشهوة المعروفة) ولكنه قال: (الدماء) التي تدل على القتل والبطش، فيدهش القارئ ويشمئز من هذا الطاغية.
وتكون النتيجة أن الطبيعة تتغير قوانينها، فيطلع (فجر مريض الضياء)، فالفجر الذي يستخدم رمزا للفرج بعد الشدة، لم يعد يمثل هذه الرمزية، بل وصف بصفة لا تسند إلا لمن تصيبه العلة والمرض، ولكن يبدو أن الشاعر تأثر بصورة غير مباشرة بالقرآن الذي قال: (والصبح إذا تنفس) فكان الصبح في الحياة والروح، والبهجة والأمل، ولكن هذا الطاغية أحال كل شيء إلى السواد واليأس، فالفجر لم يعد مصدر روح وصحة، بل بات مصدر علة ومرض. فلم يبق من اليمامة إلا صوصوات الأسى والألم، وبعض من الريش فوق الغصون، وبعض من القشّ يعلوه دم.
ويلحظ تأثر الشاعر في بناء جمله بالموروث الديني، ولكن هذا أتى بصورة غير مباشرة، فقال:
وإما زعقتَ فصوت المصير
يزلزل أطوادها الراسخة
فالمركب الإضافي (فصوت المصير) فيه إسناد المضاف إلى مفردة لا تناسب حقله الدلالي؛ إذ المصير الذي يعني المآل، وينصرف في تطوره الدلالي إلى الموت، ليدل بهذا المركب على أن صوت النسر هو نذير الموت، كما في حديث أم زرع الذي رواه البخاري: (إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك) أي أن إبل أبي زرع من شدة كرم الرجل ونحره الإبل للضيفان عندما يحسون بقرب الأضياف وصوت النار توقن أنهن مذبوحات.
ولم يقتصر المجاز –الذي هو خرق لقانون الاختيار بين المفردات والوظائف النحوية كما تبين- على مثل النموذج السابق، في عدم المناسبة الدلالية بين المفردات والوظائف النحوية، وإنما امتد أثر هذا الخرق إلى إطالة المواقع الوظيفية بالمركب الإضافي، واستطاع الشاعر أن يوظف هذه الإطالة توظيفا يؤكد فيه على بطش النسر باليمامة، واحتل هذا المركب العديد من الوظائف النحوية فكان في موقع المفعول به في قول الدكتور قميحة:
وتحصد رزقك أنى تشاء
ولكن من القمم العاليه
وجاء في موقع المبتدأ في قوله:
وعند انقضاضك عصف عتيٌّ
وفي موقع اسم ليس في قوله:
فليس له منك غير الردى
وفي وظيفة الحال في قوله:
وعشت عيوفاً كريم المقام رفيع المرام... أبيَّ الشَّمم
وفي موقع النعت في قوله:
ويطلع فجر مريض الضياء
فهذه المواقع التي تضخمت بالمركب الإضافي يلاحظ فيها أن الشاعر لم يكن مضطرا إليها بل كان يمكنه أن يختار وسائل أخرى ومفردات أخرى ويكون الوزن مستقيما، فمثلا يقول: فليس له منك إلا الردى، وكان من الممكن أن يقول: فليس له إلا الموت، ولكن القافية ستختل، فضلا عن أن الردى أشد وقعا في النفس من الموت؛ إذ الردى في معناه الهلاك بعد معاناة، أما الموت فإنه قد يأتي فجأة.
ومقام الوصف يحتاج إلى طول، ومن ثم جاء الوصف إما بالحال أو في الجمل الخبرية أو في النعت، وجاءت هذه المواقع طويلة بالمركب الإضافي، فضلا عن الطول الأفقي الذي بيناه سابقا، ففي تصوير الهجوم قال: (وعند انقضاضك) وإضافة الكاف بما توحيه من إلصاق الجريمة بالنسر، تصف هذه الحالة مع البنية الصوتية للفعل انقض الذ تتباعد حروفه من النون التي تخرج من ذلق اللسان إلى القاف التي تخرج من اللهاة ثم الضاد التي يصعب نطقها من بين الأضراس، وكأن النطق فيه قوة ويحتاج إلى دربة عالية ومهارة كبيرة، ومن ثم أتت هذه المفردة ببنيتها الصوتية والتركيبية بإضافة الكاف إليها مصورة لوحشية النسر في هجومه على اليمامة فريسته.
الخبر)([18])، لتصوير شراسة النسر؛ فهي تعطي خبرا، به حال ونعت.
تلك كانت بعض اللفتات في بناء الجملة في شعر الدكتور جابر قميحة وهي قصيدة واحدة والأمر يحتاج إلى دراسة أكثر عمقا من خلال دراسة الموضوعات الشعرية وهذه الوظائف التي حلت فيها في مقام الوصف كان أغلبها (النعت – الحال –التي كتب فيها الدكتور ومدى قدرته على توظيف اللغة للوصول إلى غايته وقد نقوم بذلك في عمل قادم إن شاء الله.
نص القصيدة
لـك الـوكرُ والمجدُ وعـند انقضاضك عصف عتيٌّ وإمـا زعـقتَ فصوت المصير لك السهل والنجد - غير الفضاء ومـن يـتـقـحم عليك الجواء ويـغـدو هـبـاء شريد الدماء وتـحـصـد رزقـك أنى تشاء مـلـيـكـا قـويامهيب الجناح فـعـرشـك حيث يكون العلاء وعـشـت عـيوفاً كريم المقام لـذلك صرت (شعار) الجيوش ورمـز الـكفاح السعير المرير * * * كـذلـك كـنت, فكيف هويت وتـزحـف كـالـلص في ليلها نُـخَـاعَ صـغار ضعاف رقاق وكـانـت تـعانق شوق الحياة فـلـمـا هـبطت كحلم كئيب تَـهـرَّبَ مـن شـفتيها الهديل فـيـا ويـلها إذ دهاها الغشوم نـهـوم بزرع الأسى والجراح فـأمـتـع مـا يـشتهيه الدماء * * * ويـطـلع فجر مريض الضياء وبعض من الريش فوق الغصون وفـي الـسـفح تشهد أيكا كئيباً ونـسـرًا تخلى عن الناطحات ويـزحف زحف الأفاعي اللئام ويـنـزل ضـيفاً عزيزاً عليها ألـم تـره بـاحـثاً في التراب أسـيـر الـهبوط الذميم الحقير فـما عاد يدعى (مليك الطيور) | والراسياتلـك الـسحب والأنجم تـروّع مـنـه الـذرا الشامخه يـزلـزل أطـوادهـا الراسخه مـديـد الرحاب رحيب المدى فـلـيـس له منك غير الردى ويـصـبـح درسـاً لمن هدّدا ولـكـن مـن الـقـمم العاليه تـهـون عـليك القوى العاتيه وغـيـرك لـلـسفح والهاويه رفـيـع الـمرام... أبيَّ الشَّمم يـرفـرف فـوق نواصي الأمم إذا دِيـسَ مـنـها بأرض حَرَم * * * مـغـيـراً .. تجور على عشها لـتـسـتـل بـالغدر من قشها تَـمـتّـعـن بالدفء في ريشها ويـهـزج فـي جانبيها الزَّغَب يـسـد عـلـيها دروب الهرب وأخـرسـها منك سيف الرَّهَب ومـخـلـبـه القاتل.. الأعقف خـسـيس بغيُّ الهوى مجحف إذا مـا الـجـراح بـها تنزف * * * على (صوصوات) الأسى والألم وبـعـض مـن القشّ يعلوه دم ضـريـر الفؤاد.. حطاماً أصم لـيـهـبط منها .. على قاعها كـأنـي بـه صـيغ من طبعها فـتـكـرم مـثـواه في ربعها عـن الـدود أو عن بقايا الرِّمَم ذلـيـل الـجـناح كسيح الهمم ولـكـن.. عـدوَّ الـعلا والقمم | الباذخهْ
[1] - مدخل إلى دراسة النحو العربي، د. علي أبو المكارم، دار الوفاء ط،1980ص: 12
[2] - السابق ص: 14
[3] - انظر: الخصائص، ابن جني، تحقيق: الشيخ محمد على النجار، ط" الهيئة العامة للكتاب 1999، 1/18، من أسرار اللغة، د: إبراهيم أنيس، مكتبة الأنجلو، القاهرة، ط:6، 1978، ص: 276-277، العلامة الإعرابية، الدكتور: محمد حماسة عبد اللطيف، دار غريب، 2001، ص: 57
[4] - المفصل 1/18
[5] - مغني اللبيب 2/42
[6] - في النحو العربي نقد وتوجيه، د: مهدي المخزومي، الطبعة الأولى، بيروت 1964م
[7] - مغني اللبيب 2/45
[8] - السابق 2/46
[9] - انظر: العلامة الإعرابية، (78-95)
[10] - انظر: مفتاح العلوم 332
[11] - انظر: السابق ص82
[12] - دلائل الإعجاز 316
[13] - انظر: تفاعل المفردات مع الوظائف النحوية وأثره في إنتاج الدلالة في الجملة القرآنية، نعيم محمد عبد الغني، رسالة دكتوراه، مكتبة دار العلوم بجامعة القاهرة 2009 ص14 -35
[14]- النحو والدلالة، الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف، دار الشروق، الطبعة الأولى، (1420هـ -2000م)، ص52
[15] - في نهاية البحث ملحق به نص القصيدة
[16] - التعاقب مصطلح يعني إحلال شيء محل آخر، واستخدم في كتب النحو القديمة في التعاقب بين الحروف والأصوات وعرفه الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف بأنه إحلال الجملة محل المفرد، واستخدمته هنا بمعى إحلال المركب أو الجملة محل المفرد. انظر بناء الجملة العربية ص
[17] - الإطالة بترتب جملة على أخرى مصطلح يقصد به أن تكون الجملة الثانية طالبة للأولى ومتربة عليها وهذا يكون في أساليب نحوية بعينها هي: أساليب الشرط والقسم وجزم الفعل في جواب الطلب وفاء السببية وقد استخدم الشاعر منها أدوات الشرط فقط، انظر بناء الجملة العربية، دكتور محمد حماسة عبد اللطيف ص
[18] - هناك فرق بين الصفة والوصف، فهناك وظائف نحوية تأتي للوصف وهي الخبر والنعت والحال، وقد عقد عليها عبد القاهر فصلا في دلائل الإعجاز بعنوان (الفروق بين الصفة والحال والخبر)فالوصف عموم والصفة أخص