كتاب جديد في تاريخ الأدب العربي
الشيخ علي أبو الحسن الندوي
وبعد، فما تحقق وظهر جلياً في العصور الأخيرة، أن تاريخ الأمم والحكومات والحضارات والثقافات، والمجتمعات، والبيئات، حتى تاريخ العلوم والآداب – بما فيها تاريخ الأدب والشعر – خاضع في كثير من الأحوال لاتجاه المؤلف وذوقه، وفي بعض الأحيان لأهدافه الدقيقة وأغراضه البعيدة، فإن الباحث يجد لكل ما يريده، مادة غنية منثورة مبعثرة في كتب التاريخ والقصص والحكايات، والمحاضرات والفكاهات، حتى في كتب الرحلات والمذكرات، لو جمعت في مكان واحد، بلباقة كتابية وقدرة تأليفية، لكونت كومة من الدلائل الواضحة والبراهين الساطعة على أنه كان يسود هناك لون خاص من الحياة على المجتمع كله، وعلى أن الأدب والشعر، والإبداع والابتكار، والعبقرية البيانية أو الخيالية، كانت تدور حول محور خاص، وتتدفق من منبع خاص، قد تكون النهامة بإشباع الغرائز، والتمتع الزائد بالحياة والاندفاع المتهور إلى التيارات أو الترفيه والتسلية، والوصول إلى أغراض مادية، فمن اقتصر على قراءة كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني وكتاب "ألف ليلة وليلة" من النثر العربي أو ديوان بشار بن برد وأبي نواس، من الشعر العربي، اقتنع بأن المجتمع الإسلامي العربي في العصر العباسي، كان مجتمعاً مترهلاً بطراً – وفق التعبير القرآني -.
يضاف إلى ذلك أن المؤرخ أو المؤلف في موضوع وصف حضارة وتحليل عناصرها وتركيبها النفسي والحضاري، لو اقتصر على كتاب البخلاء للجاحظ، أو كتب في حكايات المتطفلين، والعيارين، استطاع أن يثبت أن المجتمع في العصر العباسي مثلاً كان منصبغاً – بجزء كبير وسمة بارزة – بسجية البخل، الذي كان العرب في جاهليتهم وإسلامهم من أبعد الأمم عنه، فضلاً عما جاء الإسلام به من حث على الجود، وإيثار الغير على النفس، ومكارم الأخلاق والشهامة، واستنتج بذلك بعض المتأملين في القرآن والمتدبرين له، حكمة ورود ذم الإسراف والتبذير في القرآن أكثر من ذم البخل، حتى ورد في ذم التبذير من الكلام القوي العنيف اللاذع ما لم يرد في ذم البخل، فقد قال الله تعالى: (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين)(1) وذلك لأن البخل لم يكن من سجايا العرب، ولا يتفق مع طبيعتهم الأصيلة، ولم تكن حاجة إلى التشنيع عليه، واستهجانه لهذا القدر.
ومن قرأ كتاب الأذكياء للإمام الحافظ ابن الجوزي، وبابه الخاص بفطن المتطفلين، استنتج أنه كان للمتطفلين والعيارين دولة وصولة من هذه العصور الذهبية، مع أن ذلك كان من الحوادث النادرة التي لا يخلو منها عصر من العصور، قد ضخمها ولونها القصاصون والفكاهيون، "للسمر والتسلية" وإزالة السآمة، وإدخال السرور على المجلس وحرصاً على التنادر.
وكذلك من اقتصرت دراسته على كتاب حلية الأولياء لأبي نعيم، أو صفة الصفوة لابن الجوزي، أو "إحياء العلوم" للغزالي، أو كتب في الزهد، وأخبار الزهاد لشيخ الإسلام عبدالله بن المبارك وغيره، استطاع أن يصور للقارئ الجانب المشرق الرباني من المجتمع الإسلامي وحده، ويعطي انطباعاً للقارئ، أن المجتمع الإسلامي في بغداد وفي العواصم الإسلامية كان مجتمعاً – مئة في المئة – متبتلاً زاهداً، مقبلاً على الآخرة بالكلية، عزوفاً عن اللذات والشهوات، مع أنه كان يوجد كل هذا بنسب مختلفة، ولكن القضية قضية التناسب، وقضية المقارنة العادلة، وتجريد الفكر والقلم عن الخضوع – وبالأصح إخضاع الحوادث والمادة التاريخية – لنزعة خاصة أو أغراض غامضة أحياناً، واضحة أخرى.
ثم إن عملية الكتابة والتأليف في تراجم الرجال أو تاريخ عهد أو حضارة، أو دين ودعوة، أو حركة وفلسفة، لا تنتهي في فترة زمنية أو مدرسة تأليفية، فلا تزال هنالك حلقات مفقودة طوال قرون، يعثر عليها فجأة، أو مطمورة في ركام من التفاصيل والجزئيات، يفض عنها الغبار الذي تراكم عليها، أو الأنقاض التي غطتها، لابد من مواصلة البحث والهمة عالية، والثقة بوجود الجديد المجهول، والطريف المغمور، في المكتبة العربية الإسلامية، التي هي من أغنى المكتبات وأوسعها، فيها كتب أو مخطوطات لم تر ضوء الشمس، ولم تصل إليها يد متناول، وبذلك تقدمت الثقافات، واكتشفت الحقائق الجديدة، وتغيرت الآراء والنظريات وأصلحت الأخطاء، وأُنصفت دعوات وحركات، وأسر وشخصيات، أو مجتمعات أو حضارات، ولا تزال المكتبات في الشرق والغرب تطلع بالجديد المجهول الذي كان يتسامع به علماء ذلك الفن، ولا يجدونه فلابد من الإفادة من ذلك.
ترجع الحكاية إلى الثلاثينيات الأولى من القرن الميلادي الجاري، حين أسند إلى الكاتب – مع ما أسند إليه من دروس في التفسير والحديث واللغة والأدب – تدريس كتاب "تاريخ الأدب العربي" للأستاذ أحمد حسن الزيات، فكان ذلك هو الكتاب الحديث الأحدث في موضوعه، وكان كتاباً له قيمة أدبية موضوعية، واشتغل الكاتب بتدريسه في صف من صفوف دار العلوم التابعة لندوة العلماء عدة سنين، هذا مع اطلاع سابق على كتاب "تاريخ آداب اللغة العربية" لجرجي زيدان، وغيره من كتب ألفت في هذا الموضوع، فكان مع تقديره لهذا الكتاب الذي جمع بين بحث رصين، واختيار موفق للنماذج الشعرية والنثرية، وكتابة أدبية في أسلوب عربي عصري جميل، يشعر بحاجة إلى تأليف جديد في تاريخ الأدب العربي يحتوي على مادة جديدة وزيادات تستخرج مما كتب في تاريخ الأدب والأدباء والشعر والشعراء، من العصر الجاهلي إلى العصر الحديث أصالة، ما لم يكتب في هذا الموضوع بالتحديد، ولكنه يتصل به بنسب قريب أو بعيد، أو لا يتصل به أصلاً ولكنه يفاجئ القارئ والباحث بجوانب جديدة، أو يجعله يتأمل فيما آمن به، واقتنع من نظريات وآراء في منازل الأدباء والشعراء، والنزعات التي كانت تسود عصرهم وبيئتهم، وتعمل عليها في شعرهم وتفكيرهم.
وكنت أحب أن أتفرغ لهذا العمل وأغامر بنفسي في هذه الرحلة الطويلة المثيرة لكثير من الاستغراب والاستنكار، وأعطي بعض الأقطار التي تكونت فيها مدرسة أدبية شعرية نقدية جديدة، ومثلت دوراً خاصاً في تاريخ الأدب والشعر، والبحث والتحقيق، والمعاجم والشروح، وشرح المصطلحات العلمية وعلم البلاغة، أخص منها شبه القارة الهندية التي انتهت إليها رئاسة بعض العلوم الدينية والأدبية، بعد القرن الثامن الهجري بصفة عامة وهجوم التتار على الشرق البعيد الذي كان موطن العلوم ومركز الدراسات الإسلامية، والشرق العربي بما فيه العراق ومصر والشام بصفة خاصة، فقد أغفل ذلك أكثر المؤرخين للثقافة الإسلامية والأدب والشعر، لا عن عصبية جنسية، أو نزعة سياسية، ولكن لقلة وجود المصادر العربية في هذا الموضوع(2)، ولكن صرفت عنه صوارف منها أعماله التأليفية في تعليم اللغة والأدب في بلاد كالهند، منها سلسلة "قصص النبيين للأطفال" و"القراءة الراشدة" وكتاب "مختارات من الأدب العربي" ومنها أنه كان يستعظم هذا العمل ويعتبره عملاً مجمعياً، موسوعياً يقوم به مجمع علمي أو جماعة من الأساتذة الذين مارسوا تدريس هذه المادة سنين طوالاً، واتسع اطلاعهم على مصادره ومظانه.
ولكن رغم تهيبه لهذا العمل العملاق الكبير كانت فكرة استعراض المكتبة الأدبية العربية – النثرية والشعرية – من جديد، وإثارة الكنوز الدقيقة فيها، وإدالة الأدب المطبوع النابع من أعماق حر سليم، من الأدب المصنوع المتكلف – إذا لم نقل المحترف الانتهازي – وإعطاءه حقه من العناية والتقليد، والإجلال والتقدير، وكانت تنتابه وتتردد في خاطره، فيكتب مقالاً لمجلة اللغة العربية، مجلة "المجمع العلمي العربي"(3) بدمشق حين اختير الكاتب عضواً مراسلاً فيه سنة 1957م بعنوان: "نظرة جديدة إلى التراث الأدبي العربي" وقد استرعى هذا المقال انتباه المعنيين بالأدب وعرضه من جديد، وإعداد البحوث العلمية فيه، وأولوه من التقدير والاهتمام ما لم يكن يتوقعهما كاتب المقال.
ولم تزل فكرة وضع كتاب جديد أو سلسلة كتب في تاريخ الأدب العربي في مختلف الأدوار، ومختلف الأقطار، تراود خاطر الكاتب وتتردد بين حين وآخر، ولعل هذه العملية الفنية كانت تتأخر ولا تتحقق أصلاً، لعلو سن الكاتب وانصرافه إلى مجالات أخرى من التأليف والدعوة ومسؤوليات نيطت به في بلاده وخارج بلاده، ولكن أراد الله أن تناط هذه العملية التحقيقية البحثية التي هي في صميم تعليم اللغة العربية وآدابها بندوة العلماء، التي كان لها شرف الدعوة إلى تعليم اللغة العربية، على الطريقة القويمة الصحيحة، ودراستها كلغة حية، نامية دافقة بالقوة والحيوية تقضي حاجات النفس كما هي تقضي حاجات العصر، وأن تكون مكتفية في تعليم تاريخ الأدب العربي، كما كانت مكتفية في عدد من أقسام العلوم والمجالات العلمية والتعليمية.
فكانت للكاتب مفاجأة سارة حين علم أن أستاذين بارزين من أساتذة جامعة ندوة العلماء، وهما الأستاذ محمد الرابع الندوي والأستاذ واضح رشيد الندوي، قد تكفلا بوضع منهج دراسي، وتأليف سلسلة من الكتب في تاريخ الأدب العربي، واستقل الأستاذ واضح رشيد الندوي بقسم العصر الجاهلي من تاريخ الأدب العربي وقرر الاستمرار في إتمام هذه السلسلة إلى أن تصل إلى الدور المعاصر، وإلى إبراز قسط شبه القارة الهندية في إثراء المكتبة العربية الأدبية والعلمية، ومعطياتها في بعض المجالات والميادين، وبذلك تكمل هذه السلسلة الذهبية بإذن الله تاريخياً وجغرافياً، وشمولاً واحتواءً، وقد ساعدهما على ذلك إلمامهما باللغة الفارسية والإنجليزية، فضلاً عن الأردية لغة الهند العلمية الدينية، واطلاعهما على المصادر الحديثة في تاريخ العلوم والآداب، والنظريات العصرية، وزيادة على ذلك: النظرة الإسلامية البعيدة عن تقديس الغرب والاعتماد عليه الاعتماد الزائد والتطفل على كتابات المستشرقين، وإعطائهم مالا يستحقونه من التفخيم والتقدير، والنقل والتقليد.
وأخيراً نسأل الله تعالى جاهدين مخلصين التوفيق لإتمام هذا العمل الجليل، وأن يمد في عمرهما ويأخذ بيدهما لينتهيا بهذا العمل إلى غاية سديدة رشيدة، سليمة كريمة، وأن يكتب التوفيق لدور التعليم العربي والديني في شبه القارة للانتفاع بمجهود بعض زملائهم، فالمدارس والجامعات الدينية العربية كلها، أسرة واحدة، والعاملون فيها زملاء في الوصول إلى غاية واحدة، والله ولي التوفيق.
(1) سورة الإسراء آية 27.
(2) وذلك الذي حمل العلامة السيد عبد الحي الحسني (م1341هـ) والد كاتب هذه السطور، على أن يؤلف كتابه الكبير "الثقافة الإسلامية في الهند" الذي لا يزال المرجع الوحيد لإنتاج علماء الهند العلمي الديني والأدبي بعد دخول الإسلام في هذه البلاد إلى وفاة المؤلف وقد صدرت له طبعتان من مجمع اللغة العربية في دمشق.
(3) مجمع اللغة العربية حالياً.