تحديد دور المعنى في نظرية النحو-2
تحديد دور المعنى في نظرية النحو
(2)
عبد السلام حامد
أستاذ النحو والصرف والعروض بجامعتي القاهرة وقطر
من الأسباب الشديدة الأهمية التي تدفع إلى العناية بدراسة المعنى في النحو العربي، محاولة تحديد دور المعنى في نظرية هذا النحو بدقة من جميع الوجوه. وينبغي أن تأتي هذه المحاولة مع مراعاة ثلاثة أمور:
الأمر الأول: الوعي بالنتائج التي أفادتها الدراسات والإشارات السابقة في هذا الشأن، كتقرير أن سيبويه كان يعتمد في تقعيده وتحليله وتعليله على مراعاة المعنى وعناصر المقام المختلفة([1])، وكالقول بأن كلام سيبويه أيضاً كان يكمن فيه بذور نظرية نحوية دلالية([2])، أو القول بأن المعنى يعد ضابطاً من ضوابط نظرية النحو العربي يؤثر في تشكيل بنيتها التي تتكون من عامل ومعمول ويؤثر أيضاً في تشكيل مكونات المنهج المتبع في صياغتها والذي يتمثل في القياس والتعليل([3]).
الأمر الثاني: أن محاولة الإلمام بالجوانب المختلفة لنظرية المعنى في النحو العربي تحتاج إلى جهد جاد غير قليل؛ وذلك بسبب الامتداد التاريخي الطويل لهذا النحو وكثرة نحاته، بالإضافة إلى قضايا تطويره وتحديثه، وهذه أمور جديرة بوجود معالم وعلامات ومناحٍ مختلفة للدلالة في مسيرة النحو العربي؛ رغم ما يمكن أن يقال أو يبدو من إمكان اختصار هذا في كلام محدود.
الأمر الثالث: ضرورة توسيع دائرة النحو المضيقة؛ حيث يكاد يكون من المشهور في بيان غاية النحو العربي حصرها في دائرة تعليمية ضيقة تعني بتصويب ممارسة الكلام وما يتصل بذلك من الاحتفاء بالإعراب والبناء. وهذا الفهم غير المنصف للنحو الذي شاع عن بعض المتأخرين([4]) و انتقلت عدواه وانتشرت إلى عصرنا الحديث فهم مرفوض نظرياً وعملياً أيّا كانت أمثلته؛ لأن غاية النحو كما تتجلى في مستوى ضمان صحة الجملة، تتجلى أيضاً ـ وسنعود إلى هذا فيما بعد ـ في تفسير النصوص وتحليلها([5]). وهذا يعني أننا أولاً ينبغي على المستوى النظري إيضاح دور النحو في إفهام معنى الكلام ووصل موضوع علم النحو بموضوع علم المعاني للاتصال الوثيق بينهما([6])، ويعني ذلك ثانياً على المستوى التطبيقي أننا ينبغي أن نستغل طاقة النحو وقدرته في مهمة تفسير النصوص، وبذلك يتم توسيع دائرة النحو العربي التي ضيقت ظلماً وعدواناً وحصرت في قضية الصواب والخطأ والإعراب، وهي مسألة صحيح أنها مهمة لكنها ليست كل شيء.
ومن هذا المنطلق ينبغي عند تحليل النصوص أن نتجاوز التحليلات الإعرابية الشكلية المثقلة بمظاهر الصناعة النحوية وألا نتوقف عندها كثيراً، وينبغي ـ في مقابل ذلك ـ أن نوجه أنظارنا صوب فهم المعنى ومحاولة كشف الوجه الحقيقي المشرق لمعاني النحو ودلالاته.
فمن أمثلة مالا ينبغي أن نتوقف عنده كثيراً إجازة وجه يتعارض مع القاعدة والمعنى والتكلف لتأويله، من غير أن ينص من يجيز ذلك على اعتماده صراحة على الرواية في هذا، ومن ذلك إجازة وجه الجزم ـ إلى جانب الرفع ـ فيما ورد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض "([7])؛ فقد قال ابن مالك: "ويجوز في "يضرب " الرفع والجزم "([8])، وورد في كلام العكبري قوله: " ويجوز أن يُروى ( يضرب ) بالجزم على تقدير شرط مضمر، أي: إن ترجعوا كفاراً يضربْ بعضكم رقاب بعض ... إلا أن أكثر المحققين لا يجيزون الجزم في مثل هذا الحديث لأنه يصير المعنى: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب . وهذا ضد المعنى، بل لو قال: لا ترجعوا بعدي كفاراً تسلموا وتوادوا، كان مستقيماً لأن التقدير: إن لا ترجعوا كفاراً تسلموا. ونظير ذلك قولك: لاتدنُ من الأسد تنجُ، أي: إن لا تدن... وهذا صحيح، ولو قلت: لا تدن من الأسد يأكلْك ( أي بالجزم ) كان فاسداً، لأن التباعد منه ليس بسبب في الأكل. فإن قلت: فلم لا تقدر: إن تدن، بغير لا، قيل: ينبغي أن يكون المقدر من جنس الملفوظ به، وقد ذهب قوم إلى جواز الجزم ههنا على هذا التقدير، وعليه يجوز الجزم في الحديث "([9]).إن مثل هذا التحليل لا ينبغي أن يُشغل به لأنه محاولة لتسويغ وجه بعيد في النحو والمعنى، وأظن أنه بعيد في الرواية أيضاً، وحتى مع افتراض ورود روايته ( أي بجزم يضرب ) فيكفي أن يقال: إن هذا كسر للإعراب لأي سبب واللبس مأمون، وذلك لأن أهم ما ينبغي أن نهتم به هنا هو فهم معنى الحديث وتصوره بشكل صحيح مقبول، بناءً على إعراب مستقيم، الفعل " يضرب " فيه مرفوع، وجملته إما أن تكون مثل " كفاراً " خبراً آخر لترجع، وإما تابعاً لـه. وهذا الفهم يقوم على أحد احتمالين : الأول: النهي عن الكفر وضرب بعض الرقاب لبعض، حيث يوجد المنهى عنه بفعل أحد الأمرين، إلا أنهما إذا اجتمعا كان النهي أشد. والثاني:أن المنهى عنه ليس الكفر، بل هو الاختلاف المؤدي إلى القتل، وعلى هذا يكون " يضرب " تفسيراً للكفر المراد بالحديث([10]).
إن جعل معنى " ثم " في الآية والبيت هو الاستبعاد تفسير غير مألوف وإعراض عن المعنى الأصيل الذي يعرف به هذا الحرف وهو التراخي، وهذا ما جعل أبا حيان يصرح أكثر من مرة في تفسيره بأنه لم يقرأ هذا المعنى إلا للزمخشري([13])، ومع كل ذلك يعد هذا التفسير أدعى للقبول من غيره لدقته ومناسبته للسياق وكونه يفجر دلالة مكثفة عند تصور المعنى وتذوقه. وهذا يعني ضرورة استنفار معاني النحو المعروف منها والمختبئ عند تفسير النصوص وتحليلها، مما يترتب عليه إضافة كل ما ينتج عن هذا العمل إلى دائرة النحو لتوسيعها وتجديد مقولاته ولتطوير نظريته وقواعده.
([1]) انظر: د. نهاد الموسى، نظرية النحو العربي في ضوء مناهج النظر الغوي الحديث (1987) 97 وما بعدها.
([2]) انظر: د. محمد حماسة، النحو والدلالة (2000) 65 وما بعدها.
([3]) انظر: د. لطيفة النجار، منزلة المعنى في النحو العربي 182.
([4]) ) انظر: حاشية الصبان على شرح الأشموني ( دار إحياء الكتب العربي بالقاهرة ) 1/16.
([5]) انظر: د. محمد حماسة، النحو الدلالة 25-35.
([6]) أشرت إلى هذا من قبل في كتابي: الشكل والدلالة، دراسة نحوية للفظ والمعنى ( دار غريب بالقاهرة ـ 2002) ص35-39
([7]) موسوعة السنة: المجلد 14- سنن الترمذي- ج5 - الحديث 2193 ص286 والمجلد22 - مسند أحمد – ج4 ص351.
([8]) ابن مالك: شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح، تحقيق د. طه محسن (العراق ـ 1985م) 198.
([9]) العكبري: إعراب الحديث النبوي، تحقيق عبدالإله نبهان ( دار الفكر بدمشق ـ 1989م) 212، 213، وانظر: المبرد، المقتضب 2/81، وابن يعيش، شرح المفصل 7/48، وابن هشام، شرح قطر الندى: 82.span>
([10]) انظر: السابق نفسه.
([11]) انظر: المرزوقي، شرح ديوان الحماسة ( نشر لجنة التأليف بالقاهرة - 1967) 1/50.
([12]) الزمخشري: الكشاف ( مطبعة الحلبي بمصر ـ 1972م) 3/246.
([13]) انظر:أبا حيان، البحر المحيط ( دار الفكر ببيروت ـ 1978م) 7/204، والمرزوقي: شرح ديوان الحماسة 1/50، ود. محمد الخضري: من أسرار حروف العطف في الذكر الحكيم " الفاء وثم " ( مكتبة وهبة بالقاهرة ـ 1993) 157،158،160، والأستاذ محمود شاكر: نمط صعب ونمط مخيف (مطبعة المدني بالقاهرة ـ 1996م) 212.