المنهج المقاصدي

الشيخ العلامة يوسف القرضاوي

رغداء زيدان/سوريا

[email protected]

يقدم الإسلام منظومة فكرية ورؤية شاملة للكون والحياة. وهو ليس مجرد دين عبادي فقط, ولكنه نظام وتشريع.

ويأتي الحديث عن مقاصد الشريعة ليبين أن الإسلام كنظام فكري متكامل قدم للإنسانية, من خلال رؤيته للكون وما فيه, فلسفة لها خصائصها ذات الملامح الواضحة, والتي يمكن تلمّسها من خلال تشريعاته وعباداته وأوامره ونواهيه.

والدارس لتشريعات الإسلام يرى بوضوح أنها تشريعات جاءت لتحقق تلك الرؤية الإسلامية العامة, من خلال تحديد وتنظيم علاقة الإنسان مع ربه ومع الكون وما فيه من إنسان وحيوان ونبات وجماد.

لذلك فإن البحث في مقاصد الشريعة يكتسب أهمية خاصة, ليس لأنه يبين ويحدد هذه الرؤية الإسلامية, ولكن لأنه يفتح المجال واسعاً أمام إبداعٍ واجتهادٍ دائمين للتعامل مع مستجدات الحياة بشكل عام.

وقد اهتم العلماء بالبحث في مقاصد الشريعة منذ زمن بعيد, ولكن الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله كان أول من تكلم عن علم مستقل اسمه "مقاصد الشريعة الإسلامية", ثم توالت الأبحاث والكتابات في هذا العلم المهم.

ويأتي كتاب الأستاذ محمد شاويش (المنهج المقاصدي عند الشيخ يوسف القرضاوي) والذي صدر حديثاً عن دار الفكر في دمشق, ليضيف للمكتبة العربية بحثاً جديداً, تناول فيه المؤلف مقاصد الشريعة بشكل عام, وتحدث فيه عن المنهج المقاصدي للشيخ يوسف القرضاوي كمثال على منهج لمفكر مقاصدي استخدم مقاصد الشريعة لفهم النص الإسلامي من جهة, وكأداة اجتهادية لاستنباط أحكام جديدة من جهة أخرى.

وقد جاء هذا الكتاب في بابين, كل واحد منهما مؤلف من عدة فصول: تحدث المؤلف في الأول منهما عن المقاصد الإسلامية بشكل عام, فقدم تعريفاً للمقاصد, ومعنى المصالح والمفاسد, وقدم نبذة عن تاريخ النظر المقاصدي منذ العصر النبوي, وتوقف عند اعتراضات ابن حزم الظاهري على تعليل الأحكام وناقشها, ثم عرض لمناقشة ابن الجوزي للصوفية في كتابه (تلبيس إبليس) لأنهم شطبوا قسماً كبيراً من مقاصد الشريعة بحجة التعبد والتقرب لله, ثم تناول نظرية الشاطبي في (الموافقات), إلى أن وصل في حديثه إلى مقاصد الشريعة عند الشيخ الطاهر بن عاشور في كتابه (مقاصد الشريعة الإسلامية) وعلال الفاسي في كتابه (مقاصد الشريعة ومكارمها).

وخصص الأستاذ محمد الباب الثاني من كتابه لشرح المنهج المقاصدي الذي اتبعه الشيخ القرضاوي في كتابه (الحلال والحرام) الذي أثار ردود أفعال وانتقادات كثيرة حوله. فبين أن الشيخ القرضاوي كان يميز بين منهجين في الفقه الإسلامي:

1 ـ يسمي الأول منهما (المنهج المقاصدي) ويقصد به المنهج الفقهي الذي يفهم النصوص بمقاصدها, ولا يكتفي بالوقوف عند ألفاظها.

2 ـ أما المنهج الثاني فهو (المنهج الظاهري) وهو لا يقصد به المذهب الظاهري المعروف, بل يعني به ذلك المنهج الذي يقف عند ظواهر النصوص ولا يهتم بمقاصد الشريعة فيها.

والقرضاوي حسب وجهة نظر الأستاذ محمد صاحب منهج مقاصدي بمعنيين مترابطين:

الأول: يتحدث عن مقاصد الأحكام المختلفة ويهمه ذكر هذه المقاصد إن اقتنع بأنها هي حقاً مقاصد الشارع من هذه الأحكام. فهو هنا يستعمل المنهج المقاصدي في فهم حكمة الأحكام والتشريعات المختلفة مثل الحكمة من تحريم أكل الميتة أو شرب الخمر, أو الحكمة من تشريع الزواج وإباحة تعدد الزوجات وغيرها من الأحكام الناظمة لحياة الإنسان.

أما الثاني: فهو يأخذ بالمقاصد كوسيلة من وسائل الاجتهاد لاستخراج الحكم الشرعي في النوازل المختلفة, كما فعل عندما تحدث عن حكم التدخين أو حكم الصور الفوتوغرافية, أو حجاب المرأة وزينتها, أوتحديد النسل وغيرها من تلك الاجتهادات التي أثارت حوله كثيراً من الانتقادات, وقد أظهر الأستاذ محمد أنها اعتراضات ناتجة عن اختلاف الرؤية المنهجية بين من يستهدي بمقاصد الشريعة فيقدم رأياً متوافقاً مع نظام الإسلام ومناسباً لظروف الواقع, وبين من يقف عند ظواهر النصوص ولا يقبل تجاوزها, بل إن هؤلاء وصلوا لمرحلة تجاوزوا فيها ظواهر النصوص وتشددوا في أحكامهم دون مراعاة منهم لمقاصد الشرع أو لاختلاف المكان والزمان.

وفي ختام الكتاب وصل الكاتب إلى أن الشيخ القرضاوي يعد من أكثر الفقهاء المعاصرين فهماً لظروف العصر وضروراته, وكتابه (الحلال والحرام) هو من أكثر الكتب الفقهية المعاصرة منهجية وسهولة في التناول رغم أنه لا يخلو من أخطاء ناتجة أحياناً عن التراجع عن المنهج المقاصدي, وأحياناً عن عدم أخذ كل ملابسات القضية بعين الاعتبار.

ومع علمي بأن هذا الكتاب كُتب منذ سنوات طويلة, وقد قدمه الأستاذ محمد كبحث أكاديمي, وهذا يعني لمن يعرف شروط وقيود مثل تلك الأبحاث أن الكاتب لم يقدم كل ما يريده التزاماً بتلك الشروط والقيود الأكاديمية, إلا أنني كنت أتمنى لو أن الأستاذ محمد قد أضاف على بحثه القيّم هذا إضافاته المفيدة قبل نشره, والتي أزعم أنها كانت ستغني الكتاب كثيراً.

فالدارس لفكر الأستاذ محمد يعرف أن اهتمامه بمقاصد الشريعة هو اهتمام ينصب ضمن تفكيره التأصيلي العام الذي يهتم بالسلوك العملي الفاعل, وعلى هذا فإن تقسيم المقاصد الشرعية إلى ضروريات وحاجيات وتحسينات, واعتبار أن التحسينات هي كل ما تقتضيه المروءة والآداب وإن فقدت لا يختل نظام الناس كما لو فقدت الضروريات, ولا ينالهم الحرج كما لو فقدت الحاجيات, ويدخل ضمنها معاملة الناس بالحسنى والعفو عند المقدرة وتحريم المقاطعة بين المسلمين.... وغيرها من تلك السلوكيات التي ينادي بالتزامها الأستاذ محمد في معظم مقالاته وكتبه لهو تقسيم كان يجب التوقف عنده ونقده لأن غياب هذه السلوكيات هو ما أوصل مجتمعاتنا إلى هذه الحالة من الانحطاط الحضاري, فاختل نظام الناس ونالنا الحرج والمشقة ومازالت العقول المستنيرة تستنكره دائماً.

ولكن كما قلت, فالبحث قديم, وهو يظهر لنا مراحل التفكير التأصيلي عند الأستاذ محمد, والذي تبلور في كتبه ومقالاته اللاحقة.