شِعريّة المكان في تجربة شاعر الشمال 2

د. عبدالله الفَيْفي

شِعريّة المكان في تجربة شاعر الشمال

(مدينة عَرْعَر نموذجًا) 2

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

[email protected]

تبدو تجربة الشاعر سلمان بن محمّد الفَيفي من حيث اللغة والأسلوب تراوح بين الجزالة- إلى حدّ الإغراب في بعض الحالات- وميلٍ في بعض نصوصه إلى سهولة الأسلوب، إلى درجة الاقتراب من اللهجة الدارجة، كاستعماله صيغة "عيوني"، مثلاً، بدل "عينيّ"، في قوله:

يا أسيلَ الخَـدِّ  يا أَحْلَى  وأَغْلَى  مِنْ عيوني(1)

أو قوله:

كُلَّمَا "دَقَّ" طَيَّرَ النَّوْمَ عَنِّيْ         وإذا ما اسْتَراحَ نامَتْ عُيُوْني(2)   

فقد جَمَع "العينين" هنا لضرورة القافية، وجَرْيًا مع الاستعمال الدارج في العامّيّة.  أو استعماله "مُتُون"، بدل "متنَين"، في قوله:

ثُمَّ لَمَّتْ شَعْرَها المَسدُولَ مِنْ فَوْقِ المُتُوْنِ(3)

ونحو هذه من الاستعمالات التي تجاري محكيَّ اللغة.  هذا فضلاً عن استعمالاتٍ عاميّة خالصة في بعض النصوص، يحاكي بها لغة الناس اليوميّة، كما في قصيدة "رنين وأنين"(4)، مثلاً.

وفي مجال الموسيقى الشعريّة، يُلحظ ثراء التنوّع الموسيقيّ لدى الشاعر.  فلقد استخدم معظم البحور الشعريّة، ونَظَمَ على شتّى القوافي، وزاوَج بينها ونوّع.  وكان بذوقه يُلبِس الوزن القديم خفّةً تُذهب عنه غُلواء الجَرْس، حتى إنه في استخدامه البحر المديد مثلاً- وهو من بحور استثقلها القدماء وتخفّفوا منها- يستعمل منه محذوف العَروض والضرب مخبونهما، في قصيدة "لوحة من بلدي"(5)، فيأتي وزنه في غاية العذوبة والانسياب.

أمّا إذا تجاوزنا جانب العَروض من البناء الموسيقي، فسنقف على وعي الشاعر بما للغة الشِّعريّة من صنعةٍ خاصّة، وذلك من خلال احتفائه، غير المتكلّف، بموسيقى الشِّعر الداخليّة.  وظاهرة الموسيقى الداخليّة لديه كانت تُضفي على شعره غنائيّة عذبة، حتى في قصائد المناسبات، كقصيدة "في رحاب الشمال"(6)، على سبيل المثال.  كما تمكن الإشارة إلى مثال آخر واضح أيضًا في توظيف صوت (الفاء) في آخر نصٍّ بعنوان "مواقف متوهجة"، وما أدّاه هناك من وظيفة إيحائيّة في تصوير التغيّر والتصوّح، الذي جاء النص معبّرًا عنه.  في قوله:

بَدَأَتْ تَسْقُطُ في الأَرْجَـاءِ أَوْرَاقُ الخَرِيْـفْ

وتَوَارَتْ رَوْعَةُ النَّضْرَةِ في الوَادِيْ  الرَّفِـيْفْ

وذَوَى الغُصْنُ وماتَ العُشْبُ والظِّلُّ الوَرِيْفْ

واخْتَفَى الطَّلُّ وجَفَّ النَّهْرُ  أَفْنَـاهُ النَّزِيْـفْ

وفَحِيْـحٌ مِنْ هُبُوْبِ الرِّيْـحِ يَغْتَالُ  الحَفِيْفْ

وصَدَى بُـوْمٍ وغِيْـلانٍ وأَشْـباحٌ تُخِيْـفْ

هَمْهَمَاتٌ أَحْدَثَتْ في قَلْبيَ القاسـيْ الوَجِيْفْ

فاستحالَتْ ذِكْرَياتُ الأَمْسِ كالطَّيْفِ الطَّرِيْفْ

وبقايا الحُبِّ صارتْ غَيْمَـةً  في يومِ صَيْـفْ

وغِنَاءُ البُلْبُلِ  النَّاعِـمِ  في الدَّوحِ  الكَثِيْـفْ

كنَعِيْقٍ مِنْ غُرَابٍ صَاحَ بالصَّوْتِ  العَنِيْـفْ(7)

وعلى صعيد الصورة الشِّعريّة ظلّ الشاعر أقرب إلى المحافظة على التقاليد الفنّيّة، ضمن أنماطها الحديثة.  حتى إنه في غَزَله قد يميل إلى وصف التجربة الواقعيّة بشكلٍ مباشر.  بل لقد عَبَّر في بعض نصوصه الشِّعريّة- كما ورد في مقابلةٍ معه- عن موقفه النقديّ والثقافيّ الحادّ من التحديث في الشِّعر، حسب التيارات المعاصرة.  ولذلك لم يكن مُسْتَغْرَبًا أنْ لم يكتب قصيدةً تفعيليَّة قط.  فبقيَ أمينًا لبيئته المعرفيّة الأُولَى وانتمائه التراثيّ الخالص.

[ونواصل]

               

(1(1) الفَيفي، سلمان، (2007)، مرافئ الحُبّ، تح. عبدالله بن أحمد الفَيفي (جازان: النادي الأدبي)، 176.

(2)  م.ن، 269.span>

(3)  م.ن، 176.

(4)  م.ن، 269.

(5)   م.ن، 72.

(6(6)  م.ن، 42.

(7)  م.ن، 187- 188.