القصة في أدبيات الإمام الشهيد حسن البنا
القصة في أدبيات الإمام الشهيد حسن البنا
الإمام الشهيد حسن البنا |
أ.د/ جابر قميحة |
من التعريفات الموجزة الجامعة للقصة أنها حادثة أو مجموعة حوادث تجري لشخصية أو عدة شخصيات تختلف أساليب عيشهم، وأنماط تفكيرهم اختلافها على أرض الواقع، يعيشون في بيئة مناسبة زمانا ومكانا، وتعرض القصة بأسلوب نثري، وتوضح نظرة الكاتب وآراءه([1]).
ويقسم سيد قطب العمل القصصي إلى: رواية، وقصة، وأقصوصة، وهو ترتيب تنازلي تبعا للطول([2]).
فالأقصوصة تدور على محور واحدة، في خط سير واحد، ولا تشمل من حياة أشخاصها إلا فترة محدودة، أو حادثة خاصة، أو حالة شعورية معينة، ولا تقبل التشعب والاستطراد إلا ملابسات كل حادث، وظروف كل شخصية، إذا كان ذلك يوجه النظر بعيدا عن الشخصية الأساسية أو الحالة الأساسية([3]).
فالأقصوصة هي أقصر الأعمال القصصية، والرواية أطولها، والقصة تكون وسطا بين الرواية والأقصوصة. وإن كنا نرى أننا يمكن اعتمادا على معيار الطول أن نضيف نوعا رابعا يأتى بين القصة والأقصوصة هو القصة القصيرة، فيكون الترتيب على النحو التنازلي التالي:
الرواية- القصة- القصة القصيرة- الأقصوصة.
(Novel- Story- Short story- Short Short story )
وهناك من النقاد من يأخذ – في التعرف إلى هذه الأنواع- بالتحديد الكمى الصارم، فيرى أن القصة القصيرة- على سبيل المثال- لا تزيد على عشرة آلاف كلمة([4]).
ولكننا نرى أن الازدواجية المعيارية –كما وكيفا- هي الأجدر والأدق في تحديد مفهوم العمل القصصي.
هذا، وبالنظر إلى المحور الأساسي للعمل القصصى وهدفه، أو غايته. يمكن أن يصنف في الأنواع الآتية:
1- قصة الحدث.
2- قصة الشخصية.
3- قصة المغزى.
فالأولى تهدف –بمنهج فني- إلى تصوير واقعة سياسية، أو اجتماعية، أو تاريخية.
والثانية تهدف إلى تقديم شخصية ذات أبعاد يحرص القاص على أن يعيشها القارئ حبا واعتزازا، أو كراهية ومقتا.
والثالثة تحرص على إبراز قيم أخلاقية أو دينية، أو تربوية سلوكية، لذلك كانت هي أنسب الأنواع للتلاميذ في مجال التربية والتعليم.
***
وما كتبه الإمام الشهيد يصدق عليه –مع شيء من التجاوز- وصف "الأقصوصة"، فالواحدة لا تتعدى الصفحتين، وهي من النوع الثالث الذي يهدف لتحقيق أهداف نبيلة، وغرس قيم راقية، حتى إن إحداها صُدرِّت صراحة بالعبارة الآتية:
"يراد من نشر هذه المحادثات إثارة أذهان الشعب في موضوعات الوطنية، وتثقيفه إلى درجة ما في شئون السياسة العامة للأمة، مع ربط النظريات الحديثة بالفكرة الإسلامية دائما، وبيان فضل الثانية على الأولى([5]).
وغير "عم سيد" و "فوق المصطبة" كتب الإمام الشهيد من الأقاصيص "كامل"([6]) و "حديث الجمهور" في جزئين([7]).
وقد أشرنا آنفا إلى أنها كلها –دون استثناء- من أقاصيص المغزى، أي أن طرح القيم الإنسانية والإسلامية والخلقية يحتل المكانة الرئيسية الأولى، ولو جاء ذلك على حساب الملامح والطوابع الفنية أحيانا. وأهم هذه الطروحات:
1- النشء هم نبتة اليوم، وشجرة المستقبل، لذا كان على الأمة أن تهتم به، وتربيه على القوة، والصبر، والمصابرة، وعزة النفس، واستعلاء الإيمان.
2- الاعتزاز بالإسلام –عقيدة وعملا- هو السبيل الأقوم لتحقيق القوة الذاتية، والنهوض، والنصر في شتى المجالات.
3- حب بالوطن والعمل له من أهم ملامح المسلم الحق الصادق الأمين.
4- هلاك الأمم والدول رهين بسقوطها الخلقي، وتخليها عن قيم دينها، والاستجابة للمغريات، والمفاسد، واللهو، والمتع الحرام.
5- اليأس هو أعدى أعداء الإصلاح والنهوض والتقدم. وعلى المسلم أن يكون آملا في الله، ثابت القلب، قوي العزيمة، متفتحا للحياة، عاملا –في جد وصدق- لما يصلح الأمة، وينهض بها.
6- المراء لا يأتي بخير، وإذا ناقش المسلم غيره، وجب أن يكون ذلك بحثا عن المعرفة، والحقيقة بسماحة وطيب نفس.
7- فساد الحاكم، وتسلطه على الرعية ظالما مستبدا يُشرك الرعية في المسئولية إذا ما استسلمت لهذا الظلم، ولم تتصدّ له بالمقاومة، أو الهجرة إلى أرض عدل وحرية.﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾[النساء:97].
* * *
وشخصيات هذه الأقاصيص "شخصيات مسطحة" يدرك القارئ أبعادها في سهولة ويسر دون حاجة إلى تعمق واستبطان.
وهي من الشخصيات التي لها وجود في المجتمع المصري، وخصوصا البيئة الريفية، وهي مجرد آلية لإبراز القيم الدينية والخلقية.
فعمّ سيد – في القصة التي عرضت باسمه- يمثل شخصية واعية للرجل الطاعن في السن، الخبير بتجارب الحياة في صورتها التلقائية العفوية، فهو يتسلى، ويُسلي الآخرين بالحكايات النافعة، دون البحث عن حظها من الصدق التاريخي.
والغلام الأندلسي نموذج للصبي المسلم الذى تكثفت فيه قيم الإسلام من عزيمة وإصرار.
و "كامل" نموذج للعامل المسلم الأمين الذى يهزم بقيمه الروح الاستعماري المنهوم المتمثل في شخصية "الخواجة".
والشيخ علي نموذج للأخ المسلم البسيط الذي تفيض نفسه بالأمل في الإصلاح والتقدم، إذا ما تمسكنا بالعقيدة والقيم الخلقية.
وهناك الشخصيات النقيض: سيد أفندي، والشيخ صالح، وعم إبراهيم، وهم يمثلون صوت الاكتئاب،واليأس من الإصلاح بعد أن عم الفساد.
ثم حضر الجلسة التالية شيخ يدور في الفلك نفسه هو الشيخ عبد السلام الذى يحرص على الجدل والمراء،حرصا منه على حيازة غلبة وانتصار على من يتصدى له، وليس من همه الوصول إلى الحقيقة.
* * *
وليس هناك واقعة –في المعروض القصصى- تشد النظر؛ لأن أغلبها جلسات مكررة يستغرقها الحوار. والحوار ذو طابع واقعي، لا مجال فيه للتزين والتنميق التعبيرى.
وهذه الأقاصيص تعتمد في أدائها التعبيري على الحوار والمعروف – نقديا بصفة عامة - أنه يقوم برسم الشخصيات، وإبراز أعماقها الدفينة، وأحاسيسها الكامنة، وخلق التلاحم بين الشخصيات، كما يقوم بخلق التفاعل بين الشخصيات والاحداث وتطويرها.
ويجب أن يؤدى الحوار بلغة تناسب الشخصيات في مستواها العلمي والاجتماعي والنفسي.والحوار في هذه الأقاصيص يؤدّى بلغة سهلة واضحة، وبأسلوب عربي ليس فيه كلمة غريبة واحدة، ولكنه – وهذا عيب من عيوبه في نظري - لا يخلوا من عبارات عامية مثل العبارات التي جاءت على لسان المعلم صالح ".. يا عم الشيخ علي، اعمل معروف، جمعية إيه؟ وجريدة إيه؟ همّ الناس في هذه الأيام نافع فيهم وعظ أو كلام أو جمعيات.."
ومما جاء على لسان سيد افندى "هو ما فيش إلا البنات والحفلات؟ ماهيّ الدنيا كلها صارت فساد.."([8])
ولكن الحوار – إ ذا استثنيا العبارات العامية- يمضى بأسلوب عربي سهل دارج، متفاعل مع طبيعة الشخصيات والبيئة.وأعمق وأدق ما نلقاه من حوار هو ما دار بين الشيخ علي والشيخ عبد السلام وموضوعه الفرق بين النقاش الهادف والمراء من أجل إحراز التغلب والنصر.. ومما جاء في هذا الحوار:
"فالنبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الجدل والمراء في الدين،
وغضب على أولئك الذين كانوا يتجادلون غضبا
شديدا.. فأنا لهذا أكره الجدل، وأنفر من
المناقشات التي تدور حول المراء، وذلك
كثيرا ما يؤدي إلى الخلاف والبغضاء، وإفساد
ذات البين، وإنما هلك السابقون باختلافهم
وتباغضهم."
فقال الشيخ عبد السلام:
"هذا كلام غريب يا شيخ علي، وما الفرق بين
المناقشة للجدل، وبين المناقشة للتفاهم؟ أو
ليس كل هذا جدل وخلاف؟"
فقال الشيخ علي:
" يا عزيزي الشيخ عبد السلام، الفرق بينهما
عظيم؛ فإن كنت تناقشني للتغلب علي بالحق
أو الباطل، وتقصد بذلك
أن تظهر أمام الإخوان، وتغضب
إذا رأيت الحق فى غير صفك فهذا الجدل
الممقوت. وإذا كنتَ تقصده الوصول
للحق فقط سواء أكان معي أو معك،
وتملك نفسك فلا تغضب، ويتسع صدرك
لذلك، وتمشي مع الدليل بدون مكابرة،
فهذا هو النقاش للوصول للفهم، وهو لا
بأس به، أفليس الفرق بينهما عظيما أيها
الأخ المفضال؟..."([9])
ولم يعدم الحوار عبارات تراثية شعبية، وهي قليلة مناسبة لوقائع الأقصوصة التاريخية، وبيئتها الأندلس، وهي عبارات تكثر في القصص الشعبي التاريخي كقصص "ألف ليلة وليلة". فجاء في أقصوصة "عم سيد":
"وكان لهم (لأهل الأندلس المسلمين) أعداء بجوارهم من الكفار، فأرادوا أن يأخذوا بلادهم، ويستولوا على ملكهم، فنادى الملك وزيره وقال: دبرني يا وزير، فقال له لبيك يا ملك الزمان.."
* * *
وهذه الأقاصيص –كما أشرت- تعيش في الواقعية الاجتماعية حيث بيئة الريف بعاداتها وتقاليدها، ولكن بصمات بيئة منطقة القناة حيث كان الاستعمار الإنجليزي يضرب أطنابه، وكان عسكر الإنجليز، وكبار موظفيهم يتحكمون فى العمال المصريين، وينظرون إليهم نظرة السيد إلى المسود، وقد رأى الإمام الشهيد ذلك رأى العين، إذ أنه قضى في الإسماعيلية خمس سنين مدرسا، بعد تعيينه بها مدرسا في سبتمبر 1927م.
* * *
والمفروض أن خاتمة الأقصوصة، وهي ما يسمى – بلحظة التنوير - يجب أن تبرأ من المباشرية والافتعال، وأن تكون نتيجة طبيعية للأحداث.
ولكن المباشرية والافتعال واضحان في خواتم هذه الأقاصيص. وخصوصا أقصوصة "عم سيد". مما يبعدها إلى حد كبير عن طبيعة الفن القصصي، ويجعل منها ما يمكن أن نسميه "المقال القصصي". فتحقيق ما ترمي إليه هذه الأعمال من قيم دينية، وخلقية، وإنسانية وسلوكية هو همها الأول، ولو كان ذلك على حساب الفن القصصي وأصوله.
* * *
وعودا على بدء نذكر أن أهم ما يتسم به العمل القصصي في أدبيات الإمام الشهيد:
1- القصر والإيجاز.
2- الواقعية الاجتماعية: فشخوصها –غالبا من البيئة المصرية، وإن شئت فقل: إنها من الشخصيات اليومية التى يقابلها الإنسان، ولا يخلو منها أي مجتمع، ومن ثم لم تكن غريبة على المتلقي.
3- الاعتماد الأساسي على الحوار الهادف المنتج، حتى لتكاد تخلو من الحديث الأخاذ، وذلك على حساب التعقيد الفني، فالأقصوصة تمضي في انبساط حواري لإبراز قيم معينة، فكانت أشبه بالصورة القصصية الممتدة، وقد يصفها بعضهم بالمقال القصصي.
4- وهي ليست من قصص الشخصية، أو قصص الحدث، بل هي من قصص المغزى التى وضعت لتحقيق هدف ديني وعقدي، أو سلوكي تربوي. ومن ثم كانت بهذه المضامين أنسب للناشئة والشباب.
([1] ) الشامل671
([2] ) قطب: النقد الأدبي: أصوله ومناهجه93.
([3] ) قطب: السابق94، ومجدى وهبة: معجم مصطلحات الأدب518.
([4] ) الموسوعة العربية الميسرة1383.
([5] ) فوق المصطبة: النذير –السنة الأولى- العدد***- 30 من ربيع الأول 1357- 30 من مايو 1938. وانظر آخر فقرة من أقصوصة "عم سيد" –جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية- السنة الاولى- العدد9- 18 من ربيع الآخر 1352- 10 من أغسطس 1933.
([6] )
([7] )
([8] ) من أقصوصة "حديث الجمهور"
([9] ) من الجزء الثاني من "حديث الجمهور"