التمثيل الاستعاري أو البحث عن البديل التخييلي في صراع (الأنا) مع (الآخر)

التمثيل الاستعاري أو البحث عن البديل التخييلي

في صراع (الأنا) مع (الآخر)

"اللاز" و"موسم الهجرة إلى الشمال" –نموذجا-

الأستاذ/ سليم بتقه

[email protected]

قسم الأدب العربي

كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية

جامعة محمد خيضر. بسكرة

الملخص:

تسعى هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على نظرة الروائيين العرب للعلاقة بين (الأنا) التي تمثل الذات العربية و(الآخر) الذي يرمز لحضارة الغرب وثقافته، من خلال الوقوف على نموذجين في خارطة الإبداع الروائي العربي "اللاز" للطاهر وطار، وموسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، حيث يبحث أصحابهما عن بدائل تخييلية إيهامية تثبت بها الذات حضورها وفاعليتها لإخضاع (الآخر) عبر أنماط من العلاقات التي قد تتجاوز الواقع، ليصل هذا الصراع حد القتل وخرق قوانين المجتمع وأنساقه الأخلاقية.  

Abstract:

              This study is aimed to shed light on the Arabic modern writer's point of view about relation between the "me" and the "other" in two cotemporary Arabic novels."Laz" and  "The season of Immigration to north" which were written by Tahar Ouattar and Tayeb Salah .The novelists try to find Imagination substitutes for enable the "me" to enforce himself across  relations  which overrun reality and the clash became killing,  breaking laws and morals of society.       

يمكن أن نؤرخ للموجة الجديد من علاقة الشرق بالغرب منذ اللحظة التي دقت فيها مدافع نابليون أهرامات مصر سنة (1798م)، معلنة بداية مرحلة جديدة من التاريخ العربي الحديث. وكان وعي (الأنا) (القومية) بمدى تقدم (الآخر)  الغربي وتفوقه بمثابة المرآة التي عكست مدى تخلفها، وحقيقة الهوة التي تفصلها عن الركب الحضاري العالمي، مما ولد لديها الرغبة في اللحاق بهذا الركب وعدم التخلف عنه، بعد أن حددت (بضم الحاء) طبيعة العلاقة المتوترة بين طرفين : أولهما متقدم منتصر صاعد، وثانيهما متخلف منهزم هابط.

وظل السؤال الجوهري هو: لماذا تقدم (الآخر) وتأخرت (الأنا) القومية؟ منذ تلك اللحظة أضحت أولويات الفكر العربي هي موضوع العلاقة بين (الأنا) و(الآخر) وما انطوت عليه من استجابات لم تخل من التذبذب بين الرفض والقبول، قبول المتغيرات العلمية والاجتماعية، بحثا عن مشروع نهضوي، ورفض تلك التي تسعى إلى تشويه الأسس العقائدية والأخلاقية للذات العربية الإسلامية.

وبعد أن رفع (الآخر) الغربي شعار"الاحتلال طريق الحضارة" ووظف كل الإمكانات والمعارف من أجل تحقيق أهدافه التوسعية، جاءت حصيلة سنوات من الاستعمار سلبية تماما أجهضت معها المشاريع النهضوية بجميع جوانبها، بسبب ما واجهته الأمة العربية من عنف الحضارة الغربية، وأصبحت هذه العلاقة موضع تساؤلات عن طبيعتها، وهل هي علاقة صراع وصدام؟ وكيف ينظر (الآخر) إلينا؟

يرى عبد الله إبراهيم أن الحروب الصليبية قد غذت الخيال الغربي بفاعلية تعصب ثقافي ديني ضد الشرق الإسلامي، ووجدت تجليات ذلك المخيال في مرويات شعبية غربية جعلت من العربي الإسلامي كائنا قاسيا منحرفا كافرا([1]). وما يؤكد استمرار هذه النظرة تجاه العربي، هو الزعم في امتلاك كل الحق ليس فقط في توصيف هذا العربي، وإنما في إعطاء القيمة له.

من المفكرين الغربيين الذي تناولوا مسألة العلاقة بين الشرق والغرب على أنها علاقة صراع، المفكر الأمريكي "صمويل هنتجتون"  (Samuel Phillips Huntington) (19272008)  في نظريته "صدام الحضارات" (Clash of Civilizations (The وهو عبارة عن مقال نشره الكاتب في مجلة "العلاقات الخارجية" (Foreign Affairs) سنة  (1993م) وأثار جدلا كبيرا، ثم قام بتوسيع مقالته  إلى  كتاب صدر سنة (1996م) بعنوان "صراع الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي" (The Clash of Civilizations and Remaking of World Order) وفيه تناول مفهوم الحضارات، العلاقة بين القوة والثقافة، ميزان القوى المتغيرة بين الحضارات، الصراعات التي تولدها عالمية الغرب، مستقل الغرب وحضارات العالم. وعن مفهوم الصراع يؤكد أن المحور المركزي في السياسات العالمية سيكون الصراع بين الغرب المسيحي وبين الحضارة الإسلامية الرافضة لقيمه خصوصا بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيياتي.([2])

غير أن "هنتجتون"  لم يكن الوحيد الذي تعرض لهذه القضية فالمكتبات الغربية مليئة بالدراسات التي تعكس في مضامينها وعناوينها هذه العلاقة، وهي تنطلي في معظمها على نوعين من الرؤى لدى المفكرين الغربيين: رؤية تنتصر للسياسة التوسعية والهيمنة العسكرية لبلدانهم المتفوقة في مجال التسلح والمعرفة ورؤية تقاوم هذه السياسة وتدعو إلى تبني سياسة أساسها العدل والسلام ونبذ الكراهية.

يمثل "يوشيهيرو فرنسيس فوكوياما" (Yoshihiro Francis Fukuyama) (1952م) الياباني الأصل والأمريكي الجنسية أصحاب الرؤية الأولى  الداعمة للسياسة الأمريكية القائمة على مبدأ القوة و فرض السيطرة والهيمنة تحت ذرائع مختلفة، ففي مقالته المطولة التي نشرها في دورية "المصلحة الوطنيـــة"    National)  Interest ) تحت عنوان "نهاية التاريخ"  ((The End of History سنة (1989م) حيث يعتقد  أن نهاية تاريخ الاضطهاد والنظم الشمولية قد ولى وانتهى إلى غير رجعة مع انتهاء الحرب الباردة وهدم سور برلين، لتحل محله الليبرالية وقيم الديمقراطية الغربية. هذا التاريخ لا يمكنه أن يخرج عن الإطار الذي حدد له وهو بطيعة الحال الإطار الرأسمالي الأمريكي، وأن الهوية التي يقصدها هي الهوية الأمريكية التي سوف تفرض على سكان الأرض ويستشهد على ماذهب إليه من أن الماركسية التي تهاوت بعد انهيار المعسكر الشرقي، ولم يبق لها وجود حتى في منبتها حيث يقول: "يخبرنا المهاجرون القادمون من الاتحاد السوفيتي أنه في هذا البلد لم يبق أحد عمليا على إيمان حقيقي بالماركسية الليلينية"([3]).

نشر "فوكوياما" نظريته المثيرة للجدل في كتاب أصدره عام (1992م) تحت عنوان"نهاية التاريخ والإنسان الأخيــر"(The End Of History And The Last Man).

أما أصحاب الرؤية الثانية الذين تمردوا على سياسة بلدانهم منتقدين توجهها الاستعماري الساعي إلى تكريس الأحادية القطبية انطلاقا من منطق الغلبة والهيمنة، فيمثلهم المفكر الأمريكي اليهودي الأصل " نعوم أفرام تشومسكي"  (Noam Avram Chomsky)    (1928م)الذي يسخر فيه من بلده أمريكا وشريكتها بريطانيا اللتان تنزعان إلى القوة العسكرية دون مسوغات أخلاقية في مؤلفه "النزعة الإنسانية العسكرية الجديدة"  Humanism)  (The New Military حيث علق فيه على رئيس الوزراء البريطاني السابق "طوني بلير" حينما قال "أنه علينا فعل أي شيء لوقف وحشية الطغاة" قائلا: "افترض أنك رأيت جريمة تحدث في الشارع وشعرت أنه لا يمكنك الوقوف مكتوف اليدين فتناولت بندقية هجومية وقتلت كل من له علاقة بالأمر المجرم والضحية والعابرين أفيكون علينا أن نفهم فعلتك بأنها هي الاستجابة العقلانية والأخلاقية بحسب مبدأ بلير؟"([4]).

في هذا الكتاب تحدث خصوصا عن حرب كوسوفو، وحروب أخرى كما تحدث عن إسرائيل وأمريكا ورفضهما لبند الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وعن حصار العراق.   

والكتاب يقوم أيضا على فكرة مفادها أن الولايات المتحدة الأمريكية حين تلاحق أو تطارد أو تحاصر بعض القادة المعارضين لسياساتها فإنها لا تكون مدفوعة بنزعة إنسانية كما تدعي، ولكن دافعها إلى ذلك هو نزعة انتقامية من أجل إجبارهم على أن يقولوا: يا "عم سام" ()(Oncle Sam[5]) وهي في ذلك تسعى إلى عولمة العالم (World's Quest For Global Dominance) ونهب ثرواته.

هذا عن علاقة (الأنا) مع (الآخر) في الفكر الغربي. فماذا عن تجلياتها في أدبنا العربي الحديث؟

لنبحث عن هذه المسألة في مضامين الرواية العربية خاصة إذا علمنا وأن "الأدب يظل آخر المهزومين في قضايا الصراع حين يقع، بل يتحول إلى سلاح جديد عندما تسقط الدولة عسكريا"[6]. وأن الرواية"أكثر أشكال الفن الأدبي تصويرا للمراحل التاريخية الإنسانية وللتطورات الأخلاقية والفكرية"([7]).

لقد تعرض الأدباء العرب لمسألة العلاقة بين (الأنا) و(الآخر) تشهد على ذلك إبداعاتهم التي عكست هذا الصراع بكل أبعاده وصوروه تصويرا شاملا، إلا أن زوايا الرؤية لديهم كانت مختلفة، حيث ألف طه حسين روايته (أديب)  يروي فيها عن هذا الصعيدي الذي انبهر بثقافة الغرب وحضارته فيقبل على تطليق زوجته ليتسنى له الحصول على منحة للدراسة بالخارج، وحين يصل إلى باريس يعيش حياة بوهيمية ويتعرف على "إلين" التي يكتشف خيانتها ويصاب "أديب" بمرض ويكتشف حقيقة هذه الحضارة ويقرر العودة.

أما توفيق الحكيم فقد ألف (عصفور من الشرق) حيث عرض للعلاقة بين الشرق والغرب، وجعلها منطلقا رئيسيا لتلك النزعة الإنسانية، والتي نظر الكاتب إلى أبعادها من خلال بطل الرواية "محسن" الذي يجسد الحياة الشرقية، وتمثل "سوزي" التي تعرف عليها وأحبها الوجه المشرق لحضارة الغرب. ولكن "محسنا" يصطدم بهذا الوجه الجميل للحضارة الغربية، حيث تتبدى له مأساة الإنسان مع المادة فيكون الحل بالبحث عن حل للأزمة الروحية التي يتخبط فيها الغرب من خلال الأديان والآداب والموسيقى وسائر الفنون.

لا يتسع المجال لتقديم كل الروايات العربية التي تطرقت إلى هذه الثنائية، وحسبنا أن نعرض لمؤشرين هما : "اللاز" للطاهر وطار، و"موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح.   

في روايته "اللاز" حاول (الطاهر وطار) البحث عن البديل التخييلي الذي يمكنه من تعديل ميزان القوى وبالتالي إعادة تشكيل (الأنا) الوطنية ضمن نفس المفهوم الذي وعاه (الآخر) الفرنسي أي مبدأ القوة والإخضاع، بعد أن جسده هذا الأخير عسكريا إبان فترة الاحتلال. وقد لجأ الكاتب إلى اختيار نمط معين من أنماط العلاقات بين (الأنا) الوطنية المسحوقة و(الآخر) الفرنسي رمز الهيمنة العسكرية لتحقيق هذا الغرض. إنها العلاقة الجسدية (المثلية)  (Homéopathic Rapport) التي حدثت بين "اللاز" الذي يرمز لـ(الأنا) الوطنية والضابط الفرنسي الذي يرمز لـ(الآخر) وهو الاتصال(المثلي) الذي يرمز للصدام بينهما، ذلك أن استحالة إخضاع المستعمر بالقوة حقيقة يمكن تجاوزها بالاستعارة الجنسية.

     يقول "فريدريك لاغرانج" : "فالرجل العربي مجروح رمزيا وجسديا على يد الغرب.وإذا كان خاضعا من الناحية السياسية فإنه سيكون مهيمنا من الناحية الجنسية ردا على ذلك...إنه تمثيل استعاري للصراع بين العالم العربي والغرب الكولونيالي أو –ما بعد الكولونيالي-بوصفه لقاء جنسيا ومعركة من أجل السيطرة"([8]).

يصور وطار الضابط الفرنسي على أنه مريض، وعاجز من الناحية الجسدية:

 "إنني مريض كما أفهمتك من قبل، لست مخنثا، لقد أوجب الطبيب أنه شيء ضروري لحياتي إنه علاج لا غير"([9]).

إن حالة المرض هاته التي لازمت الضابط الفرنسي لهي بداية لإظهار(الآخر)

في حالة العجز الذي يتطلب منه طلب العون، بل يصبح (الأنا) هو المنقذ الذي لا يمكن التفريط فيه: "كلا، كلا، اللاز لن أستغني عنك...لا أستطيع...اللاز ألفتك وكل الشروط تتوفر فيك".([10])

حتى في مثل هذه الحالة من الضعف التي أبداها الضابط الفرنسي، إلا أنه يحاول أن يظهر في صورة المتسلط تعويضا عن ذلك من خلال عبارات تحمل تلك الدلالات يقول:"تعرفت عليه في اليوم الثاني من لولي بهذه القرية اللعينة لعبت معه الورق وسقيته طيلة أربع ساعات... أغلقت عليه الباب، أمرته....أجبرته على احتساء قارورة كاملة .. " ([11]).

فعبارات (أمرته) و(أجبرته) ذات دلالات سلطوية، وظفها الكاتب لتزيد (الآخر) الفرنسي إهانة وإذلالا.

إذن انقلبت المعايير، وعادت (الأنا) هي الفاعلة تمتلك كامل القدرة على إخضاع (الآخر) بعدما أذاقها من قبل كؤوس الذل والانتهاك.

 يقول الضابط الفرنسي:"كان يهوي علي بالضرب كلما فرغ من مهمته"([12]).

"لم يكن في ذلك أية إهانة لو ظل اللاز لازا فحسب، أما وأنه فلاق يستغل ضعفي واستسلامي له كالعاهرة البئيسة ليؤدي دوره ويقدم الخدمات لإخوانه، فهذه هي الإهانة بعينها..."([13])

لقد أراد وطار أن يمعن في إذلال (الآخر) الفرنسي، وقهره وإثبات (الأنا) أمامه فاعلة في وجه القمع العسكري المسلط على رقاب الجزائريين، وهو نوع من التعويض الإيهامي أو البديل التخييلي لجأ إليه وطار حين لم يتسن إخضاع (الآخر) بالقوة حقيقة، وهو خيار فني يجعل  من (الأنا) تتجاوز واقع الغلبة الاستعمارية عسكريا وحضاريا لتصبح الطرف الفاعل في المعادلة، ويصب (الآخر) غير قادر حتى عن القيام بوظيفته ويعجز عن معاقبة ا"للاز":

"هذا اللعين، ماذا سأفعل به؟ لقد احترق، جريمته تستحق الإعدام الفوري، أنه فلاق وسط الثكنة، وسط الثكنة بالذات، الجريمة كبرى.الإعدام رميا بالرصاص. وكلب مات، جرذ ناقص من الحساب.

لكن من يخسر؟ أنا، أوف، أية خسارة؟ غيره كثيرون. إنهم يقولون في لغتهم: النخالة تجلب الكلاب. أنتدب واحدا لخدمتي وكفى... اللعين يحسن القيام بدوره، يشرب كثيرا ولا تعتريه ذرة خجل.

أعدم مسؤوله، وأرمي به هو في السجن بجوار غرفتي طبعا، فترة شهرين أو ثلاثة. ثم أعيده إلى الحياة الطبيعية، سأكثر له الخمور والمأكولات وأمنعه من مغادرة الثكنة".

في "موسم الهجرة إلى الشمال" يجسد الطيب صالح أزمة (الأنا) في حكايتها مع (الآخر) وحضارته الغربية واصطدامها مع عالمها المعقد.

بطل هذه الرواية "مصطفى سعيد" الذي اتخذ قرارا بالانتقام من الغرب وحضارته، بعد أن خاب ظنه فيه وهو الذي كان يحلم بإنسانية عادلة وتلاشي النظرة الاستعلائية، وأن ينظر (الأنا) إلى (الآخر) و(الآخر) إلى (الأنا) بنظرة الإنصاف.

الرواية تعالج صدام الحضارات، عبر تقنيات روائية تعتمد على ازدواجية الراوي، وتكثيف الرؤية، وتوظيف الزمن بآليات جديدة، تمثل فيه الصراعات بين الأفراد، والثقافات، وتوهج حروب الجنس، والفكر بؤرة هذا العمل الفني.

يبدأ الراوي سرد حكايته منذ لحظة العودة "عدت إلى أهلي يا سادتي بعد غيبة طويلة سبعة أعوام على وجه التحديد، كنت خلالها أتعلم في أوروبا تعلمت الكثير وغاب عني الكثير، لكن تلك قصة أخرى المهم أنني عدت وبي شوق عظيم إلى أهلي في تلك القرية الصغيرة عند منتهى النيل"([14]).

ومنذ الصفحات الأولى تصور الرواية البعد الحضاري والإنساني القائم في أذهان العامة عن الحضارة الغربية، ويتضح مثل هذا الأمر من خلال حديث الراوي مع أبناء عشيرته وأهل قريته عن إقامته في أوروبا فقد طرحوا عليه أسئلة كثيرة ودهشوا حين قال لهم :"إن الأوروبيين إذا استثنينا العض منهم يربون أولادهم حسب التقاليد والأصول ولهم أخلاق حسنة وهم عموما قوم طبيون"([15]) .

من بين الدراسات التي تناولت "موسم الهجرة إلى الشمال" تأتي دراسة أحمد الزعبي في كتابه الذي صدر بعنوان (إشكالية الموت في الرواية العربية والغربية) فقد ذهب إلى أن هذه الرواية تطرح "بشكل رئيسي أزمتين حادتين يعاني منها الإنسان المعاصر: الأولى تتعلق بضعف التواصل الإنساني الاجتماعي والعاطفي ما بين الحضارات المختلفة والثانية تتعلق بأبعاد التمييز العنصري وجوانبه المختلفة في ها العصر. ويقدم الطيب صالح في هذه الرواية صورة قاتمة لهاتين الأزمتين حيث يكون الموت نهاية مأساوية حتمية لمثل هذه الأزمات والصراعات الخاطئة المدمرة"([16]).

ويذهب الزعبي إلى أن الرواية تحكي قصة "مصطفى سعيد" بطل الرواية الشاب السوداني الأسود المسلم في رحلته للدراسة في لندن والظروف التي عاشها في عالم مختلف عن عالمه، في اللغة والدين والتاريخ والتقاليد والمفاهيم، ويتفوق "مصطفى" في دراسته مدفوعا بنظرة الغربيين العنصرية له ويصبح محاضرا في الاقتصاد في جامعات لندن، ويمكث هناك قرابة ثلاثين عاما ويعيش "مصطفى" في هذا الزمان الطويل حياة عريضة متناقضة ويغرق في تجارب متنوعة ثقافية وفكرية وعاطفية وجنسية، ويرصد الكاتب خلال تجارب "مصطفى" تلك آلامه النفسية بسبب التمييز العنصري، وأيضا أبعاد الصدام الحضاري بين عالمين مختلفين متناقضين في الماضي والحاضر([17]).

يرصد الزعبي في أحداث الموت والحياة في الرواية فهي ستة أحداث: موت البطل والشخصيات النسائية الأربع (جين موريس وآن همند وشيلا غرنيود) وحسنة بنت محمود إضافة إلى واد الريس([18]). ويرى الباحث أن مأساة "مصطفى سعيد" تكمن أساسا في أنه لم يجد المعاملة الإنسانية الطبيعية في المجتمع الأوربي فعلى الرغم من أنه تفوق على الأوروبيين، ووصل أعلى المراتب العلمية فإنه ما زال يشار إليه بالرجل الأسود الإفريقي، فعبارات جين تذكره بجوهر المأساة فهو يريد فقط أن يكون مثل الآخرين لا يستمد قيمته أو وجوده أو دوره في لونه فهذا مقياس خاطئ([19]) ولذلك فإن "مصطفى سعيد" "الذي حلم ذات يوم بالأخوة بين البشر ارتأى أن يصبح جزءا من هذا العالم المزيف المتهاوي الشرس، ومادام هذا العالم مجرما فلا بد أن يكون جزءا من هذا الإجرام"([20]).

وعن علاقة البطل بالمرأة الأوروبية، فإن الرواية أظهرت علاقة انتقامية دون أن تحاول اختبار مدى إخلاصها، ولعل ذلك يعود إلى أن البطل إنسان عبقري خارق للعادة يستطيع أن يفهم الأشياء ويختبرها على نحو سريع "كل شيء حدث قبل لقائي إياها كان إرهاصا وكل شيء فعلته بعد أن قتلتها كان اعتذارا"([21]).

ويختلف بطل "موسم الهجرة إلى الشمال" عن غيره(في أديب أو عصفور من الشرق مثلا) في أنه لم يكن يبحث عن علاقة طبيعية مع المرأة قائمة على التوازن، إنها علاقة قائمة على الاستغلال. فالفتيات كن يرين في"مصطفى سعيد" مظهرا للقوة البدائية الوافدة من افريقيا، فهو ليس إنسانا يستحق علاقة عاطفية، إنه كائن غريب، يحمل رائحة الشرق، حيوان إفريقي يستحق أن تلهو به هؤلاء الفتيات. هي علاقة تذكر بعلاقة المستعمر بالبلاد المحتلة. فليس من الطبيعي إذن أن يحب "مصطفى سعيد" مثل هؤلاء الفتيات، لقد كانت علاقته بهن علاقة جسدية ليس إلا. لقد كان على استعداد تام لممارسة الفحش والزنا والفجور"كنت مخمورا كاسي بقي ثلثها وحولي فتاتان أتفش معهما وتضحكان"([22]).

لقد صنعت الحضارة الغربية من "مصطفى سعيد" إنسانا بليدا وحولته إلى مجرد جثة على الرغم من أن "مصطفى سعيد يا حضرات المحلفين إنسان استوعب عقله حضارة الغرب، لكنها حطمت قلبه. هاتان الفتاتان لم يقتلهما مصطفى سعيد ولكن قتلهما جرثوم مرض عضال أصابهما منذ ألف عام"([23]).

لذلك وجد "سير آرثرهغنز" في قاعة المحكمة نفسه أمام إنسان مختلف "رأيت متهمين يبكون ويغمى عليهم بعد أن يفرغ من استجوابهم لكنه هذه المرة كان يصارع جثة:

-هل تسببت في انتحارهمند؟

-لا أدري.

-وشيلا غرنيود؟

-لا أدري.

وإيزابيلا سيمور؟

-لا أدري.

هل قتلت جين موريس؟

-نعم.

قتلتها عمدا؟

-نعم"([24])

"مصطفى سعيد" الذي انتحل أسماء كثيرة، فكان حسن وتشارلز وأمين ومصطفى ورتشارد هذا "المصطفى سعيد" نفسه يبحث عن حل لمأساته الإنسانية وحين وصل إلى نتيجة راح "يحاضر عن الاقتصاد المبني على الحب لا على الأرقام "([25] )وأقام شهرته "بدعواه الإنسانية في الاقتصاد"([26]).          

من خلال ما تقدم يمكن القول أن الرواية العربية وجدت في معالجتها لعلاقة (الأنا) و(الآخر) فرصة لطرح عدة قضايا تتعلق بمسألة القهر والتسلط والتمييز العنصري والاستغلال والخداع، حيث تعددت زوايا الرؤية فهذا (الآخر) المحتل الذي يمارس لعبته المفضلة مع (الأنا) الوطنية والقومية في ظل الهيمنة العسكرية والثقافية والاستلاب الحضاري، يمكن إخضاعه بواسطة أنماط من العلاقات والبدائل التي تكون تعويضا عن العجز، ومؤشرا على الانتقام، في ظل لا معقولية الطرح الغربي من خلال الخطاب الرسمي الكولونيالي أو ما بعد الكولونيالي. وحسبنا هنا ما جاء على لسان "ونستون تشرشل": نحن لسنا شعبا فتيا له سجل برئ، وميراث هزيل، بل لقد استأثرنا... بحصة غير متكافئة أبدا من ثروة العالم وتجارته، ولقد حصلنا على كل ما نبتغيه من الأراضي، كما أن ادعاءنا أننا تركنا نرتع في لذة لا يقض مضجعنا أحد لذة التمتع بممتلكاتنا الشاسعة الرائعة التي اكتسبت بالعنف أساسا، وحوفظ عليها بالقوة إلى حد بعيد. إن ادعاءنا ذاك غالبا ما يبدو أقل معقولية للآخرين مما يبدو لنا".([27])

مع استمرار المأساة  تظل (الأنا) القومية مشدودة إلى الصراع، مضطرة أن تصارع كي تنتصر لإثبات وجودها ولو كان ذلك عل المستوى التخييلي.  

               

الهوامش

1-عبد الله إبراهيم: الثقافية العربية والثقافات المستعارة ط1 المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1999م ص178

2- E: Samuel Phillips Huntington - Wikipédia.htm

3-فوكوياما فرنسيس: نهاية التاريخ، ترجمة يوسف جهماني، دار الحضارة الجديدة،ط1،بيروت، 1993م،ص32

4-نعوم تشومسكي: النزعة الإنسانية العسكرية الجديدة، ترجمة أيمن حنا حداد، دار الآداب بيروت2001م، ص12

5-نفس المرجع ص13

7-عبود شلتاغ: الأدب والصراع الحضاري، دار المعرفة، دمشق (د ت) ص89

8-فريدريك لاغرانج: المثلية الذكورية في الأدب العربي الحديث، أبواب، ع22، دار الساقي، بيروت، 1999م، ص102

9-الطاهر وطار: اللاز، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1983م، ص74

10-اللاز ص 74

11-اللاز ص 82

12-اللاز ص 82

13-اللاز ص82

14- الطيب صالح: موسم الهجرة إلى الشمال، دار الجبل، بيروت، (د.ت) ص5

15-موسم الهجرة إلى الشمال، ص7

16-أحمد الزعبي: إشكالية الموت في الرواية العربية والغربية، مكتبة الكتاني، إربد، الأردن، 1994م، ص111.

17-إشكالية الموت في الرواية العربية والغربية، ص112،111

18-إشكالية الموت، ص114

19-إشكالية الموت، ص115

20-إشكالية الموت، ص116

21-موسم الهجرة إلى الشمال، ص38

22-موسم الهجرة إلى الشمال، ص 39

23-موسم الهجرة إلى الشمال، ص 43

24-موسم الهجرة إلى الشمال، ص 46

25-موسم الهجرة إلى الشمال، ص46

26-موسم الهجرة إلى الشمال، 46

27-النزعة الإنسانية العسكرية الجديدة، ص122