أدب الرحلات

أدب الرحلات

الشيخ علي أبو الحسن الندوي

إن مكتبة اللغة العربية – القديمة والحديثة - غنية بكتب الرحلات والأسفار، وبكتب سجّلت فيها الخواطر، والانطباعات، فقد امتاز العرب والمسلمون بالشغف بالأسفار البعيدة، والمغامرات الخطيرة، ونبغ فيهم الرحالون والمغامرون، ومن أشهر كتب الرحلات في القديم رحلة ابن جبير الأندلسي (م614هـ) ورحلة ابن بطوطة المغربي (م677هـ) وقد حفظا لنا الشيء الكثير من صور العالم الإسلامي الذي زاراه، والمجتمع الإسلامي الذي عاصراه وشاهداه، والشخصيات التي تعرّفا بها، وعاشا معها، وهي صور وملامح تجردت عنها كتب التاريخ، الذي يدور غالباً – في الشرق- حول الملوك والأمراء وحول الأحداث السياسية، والحرب والمنافسات، والعزل والنصب، وكتب التراجم التي تدور حول العلماء والمشايخ، والمناقب والفضائل، فقد ندرت الكتب التي سجلت فيها الخواطر والآراء والانطباعات، بالنسبة إلى كتب الرحلات والسير والأخبار، واقتصر ما وجد منها على تسجيل الهواجس وخطرات النفس، والحديث معها ومحاسبتها، وتجارب الحياة، ومن أكثر هذه الكتب حيوية، وأقواها أدباً، رسالة "المنقذ من الضلال" للغزالي (م505هـ) وكتاب "صيد الخاطر" لابن الجوزي (م597هـ).

ومع الاعتراف بفضل تلك الكتب وفضل مؤلفيها في أدب الرحلات، لابد من التسجيل هنا، أن الحياة التي صوروها والبلاد التي رسموها، والمجتمع الذي سجلوه للأجيال القادمة، كان بسيطاً محدوداً متكرراً لم يشبع، ولم يتعقد، ولم يتنوع، ولم يتجدد شأن الحياة في هذا العصر، والمجتمع في هذا الزمان، ولم يعرف الثورات الفكرية، والحركات السياسية، والمؤسسات الكثيرة، والفلسفات المتناحرة، والشخصيات المتناقضة، تكاد الحياة تكون في زمانهم صورة واحدة ونغمة واحدة، فكانت مهمتهم سهلة بسيطة، لا تحتاج إلى الانتقال من أسلوب إلى أسلوب آخر، ومن جو إلى جو آخر إلا نادراً.

ثم إن أكثر هذه الكتب إنما كتبت أو أمليت بعد أن مضى على هذه الرحلات والمشاهدات زمن طويل، وكان ذلك باقتراح أمير أو صديق، وإذا كانت الذاكرة لم تخن أصحابها في تسجيل الحوادث، وتحديد الأمكنة، وتعيين المقادير، وإن كان بعض الناقدين قد ساورهم الشك في دقة هذه التفاصيل، فمما لاشك فيه أنه لا ثقة بالانطباعات التي هي أشبه بالظلال والأمواج، فلا تدوم ولا تبقى ولا يستطيع الإنسان أن يستعرض ما شاهده، ولا يستطيع أن يستعيد ما شعر به وما ترك الحادث فيه من أثر نفسي، وما هاج من إعجاب أو امتعاض أو لذة أو ألم، ولم تكن "طريقة المذكرات" أو "تسجيل اليوميات" قد حدثت بعد عند الرحالين والمؤلفين، أو أنها حدثت ولكن لم يطّلع عليها القراء، ولم تتناولها يد النشر والإذاعة.

ولقد كثرت كتب الرحلات في هذا العصر لنشاط حركة التأليف والنشر، ولتيسر السفر في هذا الزمان، وتوقّر أسباب الراحة والسرعة، والوصول إلى أقاصي البلدان، ودعاية الحكومات وتشجيعها حتى تشكلت وزارة السياحة في كثير من الحكومات، فكثرت كتب الرحلات في اللغة العربية في العهد الأخير، ولكنها –على ما تحتوي عليه من فوائد علمية وجغرافية، ومادة للسمر، وتزجية الوقت، وترويح النفس، وتعريف ببعض جوانب الحياة والمدنية والاجتماع- يغلب عليها الجانب الجغرافي، وتعتني بالآثار والمشاهد أكثر من أي شيء، ولا تصور في الغالب إلا جانباً من جوانب الحياة، يتلاءم مع ذوق المؤلف، أو يتجاوب مع غرض رحلته وهدفها، فإذا كان الرحالة أديباً اقتصر على ذكر الأدباء المشهورين، وتصوير الحياة الأدبية في هذه البلاد، ووصف النشاط الأدبي، وإذا كان رجلاً دينياً أسهب في وصف الحالة الدينية، وأغرق في التفاؤل أو التشاؤم، وإذا كان رجل سياسة أو إدارة، ذكر مقابلة رجال السلك السياسي، واسترسل في ذكر وصف الحركات والمذاهب السياسية وهلم جرّا.

ثم إن أكثر هذه الكتب يتجرد عن العاطفة والعقيدة، ومشاعر النفس وأحاسيسها، ويمثل فيها المؤلفون دور آلة التصوير، أو أداة التسجيل من غير تعليق على ما يشاهدون، أو صدى في النفس لما يسمعون، فلا يسمع القارئ من خلال كتاباتهم دقات قلوبهم، وهمسات ضمائرهم، ويمكنه أن يضع على غلاف كتاب من هذه الكتب اسم مؤلف أجنبي، لا يتصل بهذا المجتمع بثقافة أو نسب، ولا يلتقي معه على عقيدة أو ديانة، ولا يرتبط به بعاطفة أو وجدان فلا يتغير شيء، ولئن اعتبر بعض الناس ذلك فضيلة وكمالاً، ففي علماء الأدب من يعتبره نقصاً وعيباً، لأن الكتابة التي لا يستطيع القارئ أن يحدد زمانها وبيئتها، ولا يهتدي إلى عقيدة مؤلفها وفكره، والقيم والمثل التي يحبها وينتصر لها، ولا يشعر فيها بمرارة ألأم وحزن، وحلاوة إعجاب ورضا، كتابة مصطنعة لا تؤثر في النفس ولا تصلح للبقاء.

خرج مؤلف هذا الكتاب في مفتتح سنة 1951م، في رحلة إلى عواصم الشرق العربي، ليدرس وضع هذه الأقطار الديني والعلمي والاجتماعي، ويتعرف برجالاتها، وقادة الفكر فيها ويتذاكر معهم في الشؤون الدينية والعلمية، والقضايا الإسلامية، والمناهج الإصلاحية، والمشاريع التعليمية، ويعرفهم ببلاده "شبه القارة الهندية" التي أسدلت عليها حجب كثيفة، وأثير حولها نفع كثير، وعاشت في عزلة عن العالم العربي منذ فترة طويلة، ويخبرهم بتجارب الدعوة والإصلاح التي مرت بها الهند الإسلامية في عهدها الأخير، وقد كتب لها نجاح كبير، ويستفيد بما جد في العالم العربي من آراء ونظريات، ونشأ من حركات ودعوات، ونبغ من رجال وشخصيات، وقام من مدارس فكرية ومؤسسات، وظهر من أساليب، وثار من مشاكل، وقد أراد الله أن ينشأ قبل أن يزور هذا البلد نشأة دينية، علمية أدبية، مثقفاً ثقافة متنوعة، وتركبت شخصيته من عدة عناصر، وكان يتذوق الأدب والشعر، والتاريخ والاجتماع، والحضارة وفلسفة الحياة، وقد مارس الحياة العلمية، وعمل في مجال الإصلاح والدعوة، وباشر مهنة التعليم، وعالج الكتابة والتأليف، وعرف الأساليب الأدبية، والمدارس الفكرية، والاتجاهات المتعارضة في مصر والشام، فزار هذه البلاد على بصيرة وبينة من الأمر، وبعد أن لم يكن ينقصه إلا اللقاء، وأراد الله كذلك أن يزور الشرق العربي الإسلامي على إثر ظهور كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" أشهر مؤلفاته بالعربية، فعرفته الأوساط الإسلامية قبل أن يزور هذه البلاد، فيسر كل ذلك مهمته في النفوذ في المجتمع الإسلامي العلمي، فورد كل مشرع، ونهل من كل مورد، وزار كل طبقة من الرجال، وخاض في كل موضوع، وشارك في كل بحث، وكان الحديث سجالاً يأخذ ويعطي، ويقتطف وينشر.

وقد التزم في هذه الرحلة كلاها أن يسجل كل حديث، وكل انطباع في يومه غالباً، وفي أقرب وقت إذا فاته التسجيل في اليوم، وأن يتحرى الدقة في النقل، والصحة في الرواية، وتسجيل الحديث في لفظ المتحدث، ولغته بقدر الامكان، فجاءت في الكتاب صور من الأساليب والآداب المحلية، يستفيد بها مؤرخ الأدب فيما بعد، ويتمثل القارئ –بعد أن مضى عليه زمن- شخصية المتحدث، وسماته الحقيقية، ويتمثل البيئة التي دونت فيها هذه المذكرات، وما كان يجيش فيها من صراع نفسي، واصطراع فكري، واضطراب اجتماعي، وقلق وتذمر وثورة، وما كان يتمخض به هذا المجتمع من حوادث لم تقع، وشخصيات لم تولد، ومن تطورات لم تتضح، فجاءت هذه المذكرات مجموع صور ناطقة يستطيع القارئ أن يعيش بها في هذه الفترة التي لا تعود أبداً.

وكذلك التزم أن يبدي آراءه وملاحظاته وانطباعاته على أثر كل مقابلة، أو زيارة، أو حديث أو مشهد، وما أحدثه الحادث من رد فعل، أو أثر نفسي، وأن يسجل كل ذلك في أسلوب صريح مكشوف، بعيد عن الغموض والتحفظ، وعن كل مجاملة وتكلف، فهو وصف وتصوير من إنسان حي يحمل القلب والعاطفة والعقيدة ويؤمن بمبادئ وقيم ومثل، ويحب هذه البلاد التي يزورها، ويرتبط بماضيها وحاضرها ومستقبلها، ويعتبر نفسه عضواً من أعضائها، يشاركها في آلامها وآمالها، ويشاطرها في شقائها وسعادتها، ويرى الدين الإسلامي الذي أكرم الله به هذه البلاد، واختارها لتمثيله ونشره في العالم، المقياس في كل شيء، فيقيس به الأعمال والأخلاق والرجال وتلك ميزة لهذا الكتاب(1). لا يجد المؤلف حاجة للاعتذار عنها، ثم يلقي - قبل أن يغادر قطراً من الأقطار التي زارها - نظرة إجمالية على هذا القطر، ويذكر محاسنه وجوانب الضعف فيه، وما سره في زيارته، وما أحزنه وأثار فيه الاستنكار والإشفاق من غير أن يحتمل برضا أصدقائه الذين أحبهم وأحبوه، وبسخطهم وعدم إعجابهم وقديماً قال الشاعر العربي:

وفي العتاب حياة بين أقوام.

               

(1) إشارة إلى كتاب "مذكرات سائح في الشرق العربي" صدرت له طبعتان.