قراءة في المجموعة الشعرية  قصائد بصرية

قراءة في المجموعة الشعرية  قصائد بصرية

للشاعر الدكتور أمين عبدا لجبار

عبد الزهرة لازم شباري

[email protected]

ما الذي يستطيع الناقد ان يستنتج عند قراءته لمجموعة الشاعر الدكتور أمين عبدا لجبار (( قصائد بصرية )) ففي مجموعته الأولى التي أسماها آخر الأشعار كتبنا على هامش سارية الدخول إليها بأنها مجموعة ذات

قيمة جمالية وفنية يطرزها الإبداع والصور الجميلة لتكثيف المعاناة التي يعيشها الشاعر بمجتمعه ، وكذلك الذي ميز قصائد المجموعة وأضفى عليها الجمال هو خلوها من التعقيد والألغاز لأنها تتصف بالشفافية والسلاسة وفيها وضوح متميز لانحدارها إلى التأمل الصوفي !!

لكنه فاجأنا بالمجموعة الثانية (( قصائد بصرية))  الذي يمتلك فيها إمكانية محاكاة الرواد في القصيدة العمودية ويعيد لهيأتها وقوامها زمنها الأول التي كانت تتمرد فيه على كل العصور التي مرت عليها وبدون منازع .

وعلى هذا أستطاع الشاعر أن يكسر الطوق الذي طوق القصيدة العمودية هذه الأيام وجعلها جزيرة نائية لا يؤمها إلا من تمرس السفر إلى ما وراء خط الاستواء !!

ويمكن أن نقول هنا إنه أستطاع أن يفند الأصوات المندفعة بكافة أسلحتها ضد القصيدة العمودية ، والتي تهمس قائلة : أن القصيدة العمودية آخذت إلى الذبول والانحدار !!

فالقصيدة عند الشاعر الدكتور تنم عن تجربة أصيلة متماسكة محكمة في ضبط معانيها وفبركة الصور التي يرسمها عند ارتياده آفاق القصيدة الجمالية ، لأنه يمتلك المفتاح السري للمخزون الشعري الذي قد تكدس طيلة حياته في المعاناة والغربة التي ألفها بعيداً عن أهله ووطنه !

حيث ان الخيال والمجاز هما أداتان ضروريتان للعملية الشعرية وهم يساعدان على التجريب والمغامرة واختراق اللغة السائدة التي تقلد نموذجها في الماضي والحاضر !

فشعرا لدكتور أمين في متناول القارئ كما هو أسلوبه وشكله مفهوم من الوهلة الأولى التي يباشر بقراتها المتلقي ، حيث يستخدم لغته الراقصة وأسلوبه المحبب الذي يطرب المستمع ، لما فيه من إيقاع موسيقي طروب ، وهذا يرجع للعلاقة التي أعتاد عليها مع النمط الخليلي ! الذي قد يراه مناسبا" للأهارصات التي تكمن داخل نفسيته  وإحساسه ! أي ما يكتبه الدكتور الشاعر مشبع حتى آخر نفس بالرؤية التقليدية للشعر هذه الرؤية التي تبحث عن الصورة الشعرية خارج اللفظة التي تؤدي إلى اختلاط الرمزية بالإبداع . وعليه لن يكون غريبا عليه  أن يتمرس في كتابة القصيدة العمودية التي تبحث عن الأخيلة والانطباعات المجنحة التي تنقل القارئ إلى فضاءات واسعة وبعيدة المدى ، لما فيها من صورة مجازية متأتية من الواقع المرير الذي يعيشه.

وألا فما هو الشعر بنظر المتلقي والسامع ؟ وهل من المعقول أن يدخل كاتب الشعر إلى هذا المعترك وهذا البحر المتلاطم الأمواج من  دون أن يملك القدرة على إيجاد المقومات الأساسية لكتابة القصيدة ؟ على اقل ان يكون لديه قلنسوة السباحة التي تقيه الغرق من بحور الشعر !! 

فالشاعر أمين عبد الجبار آثر على ان ينفصل بشعره ويبقى سابحا" في البحر الخليلي العميق ، وان  يبقى ملازما للقيود المحكمة التي تقيد القصيدة العمودية مما يجعلها غير سهلة في متناول كاتب الشعر !! فهو يفتتح قصائده الجميلة بمنهجه الخاص وطريقة مخاطبته للإحياء والجمادات التي تحيطه بقلب الشاعر المتألم فتراه يخاطب صحابة رسول الله تارة ثم ينتقل إلى الأقصى ومن ثم إلى أبيه والمرأة والوطن والى ما إليه :. فقصيدته التي يناجي بها (أبو ذر الغفاري ) الصحابي الجليل وينعته بالالق والشموخ الذي يتمتع به الثائرين ، وبالعزة التي يتجلبب بها الزهاد والراكعون لوجه الله تعالى ، ثم يطبق نبوءة رسول الهدى محمد (ص) إذ قال (ص) تموت لوحدك ... وتبعث لوحدك ! بقوله :

أبا ذر يا ألق الثائرين .،

ويا عزة الراكع الزاهد، 

تموت لوحدك قال الصفي الأمين

وتبقى لوحدك في الموعد !

ويستمر يشرح هذه السيرة العطرة لهذا الصحابي الجليل مؤكدا" على ان أصحاب الحق لايعتدون ولايموتون .. وهم الشهداء الحقيقيون في الآخرة ،هم السعداء مطمئنين بالوعد الذي وعده الله تعالى لهم .. فيقول

هو الحق والحق ماتبتغيه

ومن سار بالحق لايعتدي !

وكنت على قدر من علاه ...

فأنت القريب فطب وأسعدي !

ثم ينتقل انتقالة المتلهف لوطنه وبيئته التي عاش فيها مخاطبا " شجرة الحناء ناعيا لها الجفاف الذي أصابها ، جفاف الأنهار وموت الأسماك  واندثار هذه الشجيرات واختفائها وتذريتها مع الرياح العاتية ، الرياح  التي أودت بحياة الناس وجعلتهم حطاما" وهنا يذهب بهذه الانعطافة إلى  الحروب التي دارت رحاها على ارض البصرة والفاو والسيبة وما حولها والتي حولت المناطق الزاهرة بأشجارها ونخيلها وشجيرات الحناء إلى ارض يباب ينعق عليها البوم والغراب  فيقول ..

شجيرة الحناء .. ياشجرة الحناء

أدركك الموت وفيك استخلف الخواء ،

في موطن كان واحة الحناء والنخيل ..

في الفاو والسيبة في المدينة الفيحاء

كم اختفت قبلك من إحياء.......

فظلت الأسماك في العراء !

وهكذا ظل الشاعر المبدع ينتقل بصوره و أفكاره من زهرة لزهرة مرة مخاطبا" الأقصى ومرة يخاطب البصرة ، وثالثة يخاطب الوطن ، ثم يلوي عنان فرسه إلى المرأة التي هي الأم والحبيبة والزوجة والأخت مخاطبا وموضحا لمن حوله بفضلهن ومركزهن بقوله :.

هن وما أدريك ما هن

الحافظات فروجهن

الحابسات دموعهن -  القانتات بصبرهن

الشامخات بزهوهن

العارفات بمالنا – والمبصرات بمالهن

نبع الحياة وسرهن .. نبض الزمان حديثهن

فهو يوصي من حوله بهن بقوله :

سكن لنا ياصاحبي فرفق بهن

فإذا أشحن وجوههن

فأخفض جناحك دونهن !!

ثم ينتقل مخاطبا" أبيه  مرمزأ" له بحصاد السنين القاحلة بحلوها ومرها ، وبدمعة الحنين التي تفيض شوقا" وألما و حزنا" لفراق محبيه فيقول :.

أبي يا أبي ياحصاد السنين ،

بحلو ومر وما بين وبين ،

ومن كان يصحبني في الصباح ..

لمدرسة من نبات وطين !!

ثم يندمج بعد تعب وآلم به مخاطبا" قلبه الذي على ما يبدو ظل يخفق كالطير ويعاتبه بهذه الكلمات الشعرية النابضة !

ياقلب هل ضاقت عروقك ... بالله أم وهنت جيوبك

أم جاء من درب المنية ما يعيقك .. أنت العطوف أنا رفيقك

من قارب السبعين يؤرقه خفوقك !!

وأخيرا لابد من التنويه هنا في هذه القراءة النقدية البسيطة والإشارة الصريحة ان أجمل ما كتبه الشاعر أمين عبد الجبار في مجموعته التي أصدرها بعد عودته من المنفى ، هو قصائده البعيدة عن المدح السياسي والمناسبات ووقائع شخصياتها سوى ان كان مدحا أو ذما" ، بل التجأ إلى محاورته إلى الداخل الإنساني في رؤاه ومشاعره الخالية من الزيف ، فراح يمتدح الصحابة الأتقياء وإلام والطبيعة والحالات الإنسانية الروحانية الشفيفة ، التي يعبر بها عن روحه الطيبة وصفاء نفسه المطلقة المحبة للخير والسلام وهذا ان دل على شي ء إنما يدل على ان الشعر عنده جزء من هوية عربية نقية صحيحة المنبع والأصل يجب الحفاظ عليها !!

ومن الملاحظ في شعر الدكتور في هذه المجموعة وأنت تقلب وريقاتها وتسافر مع قصائدها ، تجد انشغاله بالبلاغة واستنطاق المكان في جل قصائده ، عليه أرى ان شعره بحاجة إلى وقفة نقدية مع الذات الشاعر والقاريء النقدي ليتسنى لنا جميعا ان نكشف إسرار ورموز بعضا من قصائد مجموعته ( قصائد بصرية)

ومن الله التوفيق !!