استعارات

استعارات \"الفروسية\" لأحمد المجاطي (2)

حرفية أسماء الجنس

د.محمد الولي

إلا أن لهذا الديوان، الفروسية، رافداً دلالياً حرفياً آخر مهماً أيضاً. لنتأمل أول قصيدة في الديوان: \"الخوف\". إن محتوى القصيدة هو، كما تفوح العبارة المتكررة على امتداد القصيدة، \"الكلمة الصغيرة\". وكنت أتمنى أن تعنون بدل \"الخوف\" \"الكلمة الصغيرة\". والمقصود الكلمة المضَلِّلة الخادعة المزيِّفة للحق والحقيقة المتنكرة للإنسانية. لقد تكررت العبارة في القصيدة ثلاث مرات وتحققت في ضميرٍ ما يقرب من عشرين مرةً وتحققت في كلمات جناسية مرتين \"مملكتي مملكة\". ووردت في كلمات مترادفة أو كلمات مجازية مرسلة دالة عليها أزيد من سبعِ مراتٍ. هذه القصيدة \"الخوف\" تحتل فيها الكلمة الحيز الأكبر. وليس هذا غريباً من شاعرٍ عاشقٍ لنقاء الكلمة. ومات ولم تتلطخ كلماتُه، أي شعرُه. يقول المجاطي:

الكَلِمَة الصَّغيرَة

        تُقَالُ

             أوْ تُخَط

تَمْشِي بِهَا الرِّياح

            أوْ تَبُثهَا الرِّمال

                  فِي الصَّحْرَاء

           تُولَد

           أوْ تَكُون

           أوْ تَصُوغُها

                 مُصَادَفاتُ الصَّخْب

                           وَالضَّوْضَاء.[1]

تنضوي هذه القصيدة في الديوان تحت عنوان أشمل هو \"افتتاح\" الديوان. ويقابل هذا الافتتاح \"خاتمة\" الديوان التي جاءت عبارة عن قصيدة \"الحروف\". وترتبط هذه القصيدة بالأولى بعلاقة طباقية جدلية. فإذا كانت الأولى ذات تلوين شجني يميل إلى اليأس فإن الأخيرة أميل إلى المناخات الحاملة للبشارات التطهيرية:

هيَ كَلِمَةٌ خَفقتْ

            بِسبْعةِ  أَحْرُفٍ

            وأَجازَهَا الدَّمُ

قبْلَ أنْ تَفْتَضَّها

            السَّبْعُ الخَطايَا

وأنَا الَّذي آنَسْتُها

ناراً

           وجَدَّلْتُ السَّرايَا

           عَبْرَ أحْرُفِها

    لتَقْتَحِمَ السَّرايَا

أأَقُولُ جِئْتُ أَمُدُّ جِسْراً

       مِن جِبالِ الرِّيف

جِئْتُ بِخَيْلِ طَارِقْ

وعَقدْتُ أَلْوِيَةَ الرِّفاقْ

      وَرَاءَ عُقْبَة

أمْ أَتَيْتُ أُعَلِّمُ الفُرْسانْ

      كَيْفَ تَغصُّ بِالدَّمْعِ

               البَنادِق.[2]

ينبغي التنبيه على أن بناء ديوان الفروسية بناء خطابي. أي ذو بناء شبيه ببناء الخطابة. إن هذه تتألف من أربع محطات هي: الافتتاح والعرض والحجاج والخاتمة. وكذلك هذا الديوان يتألف من الافتتاح والفروسية والسقوط والخاتمة.

افتتاح الديوان وخاتمته تمتحان من نفس المعين أي اللغة: الكلمة والحرف. فلو تأملنا قصيدة \"مشاهد الحكمة في دار لقمان\" نجدها تغلي بالدلالات على الكلام.

هَا أنَا ذَا أَنْبشُ فِي الَأَوْراق

ألُمُّ أطْرافَ الْحرُوف

          أقرَأُ الإِشارَة

          واللُّغْز

          والطِّلِّسْمَ

          والتَّمِيمَة

أقْرَأُ عَلَّ الحِكْمَة القَدِيمَة

تُخْرِجُ مِنْ أَثْوَابِهَا الصَّفرَاء

                 مِنْ مِحْبَرةِ الْهَزِيمَة.[3]   

كَتَبْتُ فَوْقَ الظِّلِّ

كتَبْتُ في سَوالِفِ السَّحابْ

كَتَبْتُ فَوْقَ قَدَمِ الثَّوانِي

النَّهْرُ دِيوَانِي

وأَنْتَ لَا تَسْأَلُنِي

         لَا تَرْفَع الحِجاب

عَلَى أَنفِي الْمجْدوع عَنْ لِسانِي.[4]

هذه دلالات حرفية على اللغةِ والكلامِ الذي يخدم انتصار الإنسان على التخلف والقهر والهزيمة. وفي دار لقمان 1965. يقول المجاطي:

بقِيَّةُ الْحَدِيثِ

      صَمْتٌ

فاغْمِس رِيَاحِي

         فِي الدَّمِ

 يَامَقْبَرَةَ الْمَدِينَهْ

مُدِّي مِنْ الْأسْلاك

         وَالسَّكِينَة

نَاراً تَفُكُّ الْحَرْفَ

         مِنْ شَواهِدِ القُبُورْ

مَتَى يَدُقُّ الْجَبَلُ الْمَوتُورْ

طُبُولَهُ

مَتَى يَفِيضُ التَّمْرُ والحَلِيبْ

        فِي الشِّفَاه

دِمَشْقُ لَا تَمُدُّ لِي ثَدْياً

وَلَا تَبُلُّ فِي يَفَاعَةِ الْمِيَاهِ

يُبُوسَة الْمَشِيبِ فِي الْجُنُونِ

بُؤْسَ الْحَرْفِ

فِي الـمَتاه. [5]

إذا كانت الكلمات ذاتُ الدلالةِ المرجعية متسلطةً على الشاعر أحمد المجاطي وعلى أغلب عناوين قصائد الفروسية وعلى العديد من مفاصل قصائد الفروسية، وإذا كانت هذه الدلالة الحرفية تجد المبررَ والمسوغ في ذاتها، وبالخصوص حينما يتعلق الأمر بأسماء أعلام الأماكن، فإن الدلالات الحرفية على الكلام واللغة والقول الشريف والخائن يجد المبرر والمسوغ خارج الذات. إننا نؤكد أن هذه الدلالية حرفية نظراً للصورة التي تكونت لدينا عن هذا الشاعر المعروف: أحمد المجاطي. إن صورته عندنا  هي صورة شخص احترف الكلمة الشريفة، ولأجلها عاش ومات.

لقد أشرنا سابقاً إلى البناء الخطابي لديوان الفروسية، أي الافتتاح والخاتمة الذين يتخذان موضوعها من الكلام. نشير هنا أيضاً إلى أن الحلقتين الممتدتين بينهما تتوزعان على موضوعين كبيرين؛ أولهما هو هموم العالم العربي التواق إلى الانعتاق الاجتماعي والحرية السياسية والتخلص من الاستعمار والصهيونية، وثانيهما هو موضوع اشتهر به أحمد المجاطي ألا وهو الخمرة. ففي هذا الإطار أنتج المجاطي قصائد بالغة الجمال والدرامية. لنشر على سبيل التمثيل إلى قصيدتي الخمارة (ص. 99) والسقوط (ص. 63). إلا أن هذه الموضوعة منتشرة في الكثير من قصائد الفروسية. هي هذه الموضوعات الكبرى التي يتنفس فيها ديوان الفروسية. إلا أنه بالإمكان متابعة هذا التفصيل لكي نشير إلى موضوعات ثانوية أخرى. إلا أن هذا الغرض التفصيلي ليس قصدنا الآن وإلا لوقفنا عند موضوعات من قبيل المحتويات الميتافزيقية في ديوان الفروسية.

هذه الموضوعات، المدلول عليها بالدلالات الحرفية العلمية أو الجنسية،  أي العالم العربي وضمنه المغرب والكلمة والخمرة، هي التي تشكل المفاصل الكبرى للرؤية المجاطية إلى العالم. قد تبدو الخمرة جسماً غريباً بين الكلمة والعالم العربي. إلا أن الواقع هو أن المجاطي الذي عاش ملء جوارحه وعقله محنة العالم العربي مع التخلف والفقر والقهر، كان يبحث عن جواب ما أمام هذا الإشكال المروع. وبطبيعة الحال لم يلاحظ المجاطي أي مخرج لهذه المحنة، بل لقد تتالت على العالم العربي عوامل اليأس والإحباط: ثورات مغدورة وقيام وسيطرة الامبريالية على العالم العربي ومعها هيمنة إسرائيل وعجز الأنظمة العربية وخيانة المثقفين للمهام التاريخية. كل هذه معاول هدم لأعز ما يملكه أحمد المجاطي، ألا وهو انتماؤه القومي. لقد كان قلب المجاطي وتوقد إحساساته الإنسانية أضعف من أن ترى الأمل في هذا الليلِ الحالكِ. لم يجد الشاعر بلسماً أفضل من البوح الشعري عن الاحتجاجات الميتافزيقية والاستسلام لمعاقرة الخمرة. وهاتان الموضوعتان المتواشجتان قد تلتحمان في عبارة واحدة كما نجد ذلك في قصيدة الخمارة :

حينَ أَخْلُو بِهَا

           بَعْدَ مُنتصَفِ الَّليلِ

           تَرْشُقُ في الخَصْلَةِ المُسْتَرخيةِ

                      زَنْبَقَةً

          تَفتَحُ الصَّدْرَ لِي والشَّوَارِعَ

          تَضْحَكُ مِنْ وَجهِيَ المُسْتدِير

                      قلِيلاً

          تُبَادِلُني قُبْلَةً

آه، خدُّهَا بَاردٌ حِينَ أَوغَلَ فِي البُعْدِ

وامتَدّ بَيْنِي وبَيْنَ الزُّجَاجة

          صَوتُ الُؤذِّن:

إن العَمَائِمَ تَنْبُتُ كالفُطرِ

مِثلَ النُّجُومِ عَلى كَتِفِ الجِنِرَالاتْ .[6]

ومن هذه الاحتجاجات الميتافزيقية قوله في قصيدة القدس:

فَجِئتُ إِلَيْكِ مدفُوناً

أَنوءُ بِضَحْكَةِ القُرصَانِ

وَبُؤْسِ الفَجْرِ

         فِي وَهْرَانْ

وَصَمتِ الرَّبِّ في خرائب مكَّةٍ

         أو طُورِ سِينِينَا.[7]

والأشد مرارة مما تقدم قول المجاطي في قصيدته \"من كلام الموتى\"

تَجاوَزنِي الْمَدَى

        وانْحَلَّ مَا بَينِي وَبَينَ الله

        تمَزَّقَ كلُّ شَيء فِي يَقِينِي.[8]

وقوله في قصيدة \"كتابة على شاطئ طنجة\":

آه أَمْسَى جَبَلُ الرِّيفِ سَرَادِيبَ

وَعادَ الصَّمْتُ مِنْبَرْ

لا تَقُلْ هَذا وَطنُ

                        الله

ففِي طَنْجَةَ يَبْقى الله فِي مِحرَابِهِ الخَلْفيِّ

                                      عَطْشَانَ

                                      وَيَسْتَأْسِدُ قَيْصَرْ.[9]

هي هذه أسئلة الواقع على أحمد المجاطي, وهي هذه أجوبته التراجيدية. وتشكل هذه الأسئلة وهذه الأجوبة الحلقات المتصلة لرؤيته إلى العالم.

لقد كان المجاطي ينشد الخلاص للعالم العربي خلاصاً من كل ما يحرمه إنسانيته. ولم يكن المجاطي مشغولاً أبداً بخلاص شخصي. لم يكن أبداً يحلم بالمساومة مع النظام القائم لأجل ترقيع وضعه على حساب وضع الشعب. إن أُفُقه هو أفق حياة إنسانية لكل الشعب والأمة العربية.

هذه المحتويات ذات الطبيعة الاحتجاجية والنقدية المنكشفة عبر لغة تعيينية تشكل إلى جانب البناء الخطابي الحريص على التواصل والتلقين واللغة المعتمدة على العلمية بكل تلويناتها الزمانية والمكانية والشخصية والمعتمدة على اللغة المشتركة ذات الدلالة المتداولة تشكل نُسغَ لغة المجاطي الشعرية. إلا أن شاعرنا حينما يتزود من اللغة الاستعارية التجوزية لا ينساق أمام إغراءاتها. إنه يخص الاستعارات المتداولة بحظوة مثيرة.

             

الهوامش:

[1] الفروسية،  الخوف، ص. 9

[2] الفروسية، الحروف، ص.ص. 128 ـ 129

[3] الفروسية،  مشاهد من سقوط الحكمة في دار لقمان، ص.ص. 95 ـ 96

[4] الفروسية، مشاهد الحكمة في دار لقمان، ص.ص. 96ـ97

[5] الفروسية، دار لقمان، ص.ص. 36ـ37

[6] الخمارة، ص.ص. 99  100

[7] القدس، ص.ص. 57ـ58

[8] من كلام الموتى، ص. 105

[9]  كتابة على شاطئ طنجة، ص.ص. 70 ـ71