همسًا في أذن القذافي 1

همسًا في أذن القذافي

إلا القصة يا مولاي! [1]

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

بارك الله في الأخ الدكتور خميس إذ طلع علينا بمقال عن نفاق بعض أبناء جلدتنا الذين شرعوا يكتبون بحوثا في " أدب القذافي " مما دفعني أن أقدم هذه الحلقات لنتبين حقيقة أدب هذا الرجل ـ إن كان له أدب ـ أعني من يطلق على نفسه لقب ( ملك الملوك ) .

رحم اللهُ الشاعر المصري "فتحي سعيد" الذي فارق دنيانا من قرابة ثلاثين عاما ، وترك – ضمن ما ترك- ديوان شعر يضم بين دفتيه قرابة ثلاثين قصيدة , والديوان بعنوان (إلا الشعر يا مولاي)(1)، وبه قصيدة بهذا العنوان، وهذا يقطع بأن الشاعر كان يعتز بهذه القصيدة اعتزازًا خاصًا، وهذه القصيدة التي استغرقت من الديوان أربع صفحات – أخذت الشكل القصصي الحواري، وكان فن الشاعر فيها جليلا عظيمًا.

ولسنا في مقام تقييم القصيدة، كما لا يتسع المقام لعرضها بكل أبياتها، ولكننا سنحاول أن نعرض خلاصة لها، متمثلين ببعض سطورها (فالقصيدة من الشعر الحر، وقد اعتمدت على تفعيلة المتدارك) :

مع قصص أخرى(2).

ودلالة هذا العنوان تقطع بأن الكاتب العقيد سجل على الغلاف أسماء "قصص" ثلاث، وأن السطر الرابع من الغلاف يعني – كذلك- أن ما ضمه الكتاب من "إبداعات" أخرى يمثل "قصصا" لا جنسا أدبيا نثريا آخر كالمقال أو الرسالة أو الخطبة المكتوبة، فالظاهر إذن من عنوان – أو عناوين- الكتاب.. أنه "مجموعة قصصية"، ونفتح الكتاب لنقرأ فيه – غير ما ذكر على الغلاف من العناوين – عناوين نصوص أخرى هي:

قلت بيني وبين نفسي: جميل والله أن يتجه زعيم من زعماء العرب إلى الأدب، وإلى إبداع فن القصة القصيرة بخاصة، فالقصة – كما يقول أستاذنا أحمد الشايب- فن يمثل مكانة ممتازة بين الفنون الأدبية الأخرى لاتصاله بحياة الناس الماضية أو الحاضرة، ولمرونته واتساعه للأغراض المختلفة، ولجمال أسلوبه وخفته على النفوس(3)، زيادة على ما تحمله القصة – وخصوصا قصة المغزى- من قيم نفسية وتربوية واجتماعية هادفة بلا مباشرية أو خطابية أو تقريرية.

وفي تاريخنا العربي والإسلامي – في كل العصور- عدد كبير من الأمراء والوزراء شعراء وأدباء وكتاب وخطباء.. وقلت بيني وبين نفسي جميل جدًا أن ينهض زعيم الجماهيرية العظمى "معمر محمد عبد السلام أبو منيار القذافي" فيصلنا بعصور الفحول من الأمراء والقادة الأدباء، وقرأت "إبداعاته" الأثنى عشر مرة ومرة.. قرأتها قراءة تفحص وتأن وتمعن، وحاولت أن أنسبها كلها، أو بعضها إلى فن القصة القصيرة، ولكني لم أستطع، حتى مذاهب الحداثيين- في القصة، ضاقت وتضيق عن أن تنسب هذه النصوص لواحد منها ولو على سبيل التجاوز والتسامح.

وأمام هذه "الصدمة" تذكرت فتحي سعيد رحمه الله، وكأني أراه في "ملابس تاريخية" وهو يصرخ في وجه "السلطان النعمان": "إلا الشعر يا مولاي" فرأيتني أنهض.. ولكن برباطة جأش، لأهمس في أذن كاتبنا الزعيم معمر محمد عبد السلام أبو منيار القذافي: "إلا القصة يا مولاي".

معذرة أيها القارئ العزيز أن أسبق بالحكم قبل أن أقدم الشواهد والقرائن، فالنفس يأخذها الجزع الأليم، وتتضاعف آلامها حين يصف "ناقد دكتور" هذه النصوص بأنها قصص توافر لها من عمق التحليل، والقدرة على سبر أغوار النفس البشرية، والسيطرة على التقنية الفنية، وصدق وحرارة الانفعال أثناء الكتابة مما يجعلها من الأعمال الإبداعية التي تحقق لقارئها المتعة الروحية، وتضئ له جوانب من حياته، وتحرك في نفسه رغبة صادقة تتجاوز سلبيات الواقع شوقا إلى معانقة الأبهى والأجمل في الحياة، وتلك هي أعظم رسالة يقدمها لنا الفن"(4).

والعبارة السابقة إنما هي "قبسة" خاطفة من إحدى "المباخر"التي دارت بها جوقة من "الرجال" النقاد المسبحين المهللين لهذا "العمل القذافي" الفذ، ولنا عودة إليهم فيما بعد إن شاء الله – لنرى مدى المصداقية أو الكذب فيما ذهبوا إليه، ولكني أبادر سائلا "الناقد النزيه الأمين" إذا كانت هذه شهادتك لهذه الورقات، فماذا تقول لو كتبتَ عن أعمال أكابر كتاب القصة العرب، الذين تمرسوا بكتابتها، واكتسبوا شهرة محلية وشهرة عالمية؟ هل كنت ستكتب ما يماثل هذه الشهادة أو ما يزيد عليها؟ ماذا كنت تقول عن محمود تيمور، ومحمد تيمور، ومحمود طاهر لاشين، وأمين يوسف غراب؟

لقد صدر هذا الكتاب مصحوبًا بدعاية صاخبة، وعُقدت له الندوات في تونس وغيرها، ونشرت أجزاء منه – على سبيل الدعاية في عدد من الصحف المصرية والعربية، وبعض المجلات التي تصدر بالعربية في أمريكا وبعض البلاد العربية . وأعد "المعدّون" العدد لعقد ندوة عن هذا الكتاب في أتيليه القاهرة.. ثم رأى القائمون على أمر الأتيليه أنه أضيق من أن يتسع لندوة يحضرها العقيد الكاتب، فولوا وجوههم شطر دار "الأوبرا المصرية" ولكن الندوة لم تعقد حتى الآن لأسباب سياسية.

وداخل الجماهيرية

كانت هذه هي الحال خارج "الجماهيرية العظمى" أما داخلها فابتداء من ديسمبر 1993م، هبت وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية لتعلن – في أوقات متواصلة- طلوع نجم السياسي الكاتب العقيد معمر القذافي من خلال هذه المجموعة القصصية!!!.

وكان أمر هذه "المجموعة القصصية" قد بدأ في البروز من خلال نشر القذافي قصة "الفرار إلى جهنم" على صفحات مجلة المستقبل(5)، وفي منتصف عام 1993م، أوردت وكالة الجماهيرية للأنباء (جانا) خبرًا يقول: إن العقيد القذافي سينشر روايته التاريخية التي تحمل عنوان "الموت" . وكان القذافي قد أعلن من قبل أن روايته تصف المعركة التي دارت رحاها بين الليبيين والقوات الإيطالية عام 1915م، والرواية – كما ذكرت وكالة جانا- تتضمن وصفا أدبيا لمعركة "القرضابية" الشهيرة.

ويقول الأستاذ السنوسي بلالة – وهو كاتب ليبي يعيش في المنفى: حرصت الإذاعتان المرئية والمسموعة في ليبيا على الإشارة بين الحين والآخر إلى الإعلان عن رواية "الموت" ثم الاستعانة ببعض فقرات موجزة منها على سبيل الدعاية لها، بالإضافة إلى توظيف عنوانها في تزيين صفحات بعض الصحف والمجلات الحكومية بغرض لفت أنظار القراء من ناحية، وبغرض الدعاية والإعلان أيضًا من ناحية أخرى، ومن هنا أصبح من الطبيعي مثلا أن نرى الإعلان الدعائي الخاص بمجموعة القذافي القصصية ينشر تباعًا في جريدة "الشمس" والذي يقول: "اقرءوا القرية القرية – الأرض الأرض، وانتحار رائد الفضاء.. إبداع إنساني صادق يتدفق بالعطاء، ويجسد حلم المفكرين والثوار في عالم أجمل، وحياة أكثر نقاء".

وجريدة "الشمس" هذه تصدر حاليا في ليبيا، وقد كتب تحت اسمها أو شعارها، أسسها الطالب معمر القذافي، بمدرسة مصراتة الثانوية سنة 1962م أفرنجي"(6).

ملاحظات وحقائق

أن وراء هذا الكتاب اتجاها قويا – كأنه انعكاس لقرار سياسي سيادي- "بتأديب" القذافي "وتقصيصه" أي المناداة به أديبا قصاصًا.

أن هذه الدعاية الصاخبة الهائلة كان وراءها – أو الدافع إليها- شخصية الناصّ المبدع، لا فنية الإبداع، وهي حقيقة أقوى من الذين أصروا على نفيها من "النقاد الحواريين" وإني لسائلهم: أوَ لوْ كان هذا الكتاب من "إبداع" واحد منهم أكان يفوز بمثل هذه الدعاية أو حتى عشرها؟
والذين تولوا كبر هذه الدعاية لم يقرءوا – قبل رفع عقيرتهم وأقلامهم بالدعاية- ما كتبه القذافي بعنوان "الموت" فحكموا عليه- في دعايتهم كما رأينا – بأنه رواية، مع أنه – مع التجاوز الشديد والتحفظ الشديد جدًا: قصة، أو قصة قصيرة، ومسلكهم هذا يضعنا أمام واحد من احتمالين لا ثالث لهما:-

والثاني:أن هذا الحكم الدعائي جاء مؤسسًا على "النية العازمة" لا "الموجود الجاهز" , بمعنى أن "معمر محمد عبد السلام أبو منيار القذافي" كان قد نوى أن يجعل من (الموت) رواية، فلم تسعفه طاقاته وآلياته، وهي – ولاشك- محدودة جدا في هذا المجال.

هذا هو السؤال الذي سنحاول الإجابة عليه في المقال القادم ,إن شاء الله.

               

() الديوان 88-91 (مكتبة روز اليوسف 1980م، القاهرة).

(2) الطبعة الأولى – الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان.

(3) الأسلوب 108- ط8-1988م- مكتبة النهضة المصرية.

(4) أحمد الفقيه ص 143 من كتاب القذافي تعليقا على بعض إبداعه، وقد طبع هذا الكلام بحذافيره – مرة ثانية- على الوجه الأخير من الغلاف.

(5) العدد 624 – 4فبراير 1989م.

(6) دراسة بعنوان "حال الثقافة في ليبيا في موازاة الاحتفاء بالعقيد القذافي أديبا" ص 19 من صحيفة "الحياة" اليومية، العدد – 1197 الخميس 8 رجب 1416هـ- 30 نوفمبر 1995م.