أحمد الصديق والبردة الجديدة في مدح الرسول الأعظم
د. نعيم محمد عبد الغني
في حب الرسول كانت قصيدته، ومن عبق الماضي كانت بردته، بردة قديمة قدم مدحه عليه الصلاة والسلام، وجديدة بتجدد الشوق والهيام، فرغم كثرة القصائد في مدح الرسول وتعدادها، وحفظها وتردادها إلا أن الممدوح ما زالت آثاره نبعا فياضا للإبداع، من شعر ممتع وكلام مقنع، فمن البوصيري إلى البارودي إلى شوقي إلى غيرهم ممن كتب وألف وأبدع وصنف نرى البردة زاهية، والمعاني فيها راقية، لا يفتر المرء أن يقف عند كل بيت قائلا (الله)، موقنا بأنه لا يمنع فضل السابق أجر اللاحق فكلا وعد الله الحسنى.
إنها البردة الجديدة للشاعر أحمد الصديق، كتبها بعد طول معايشة مع الرسول الأكرم؛ فكانت بردته في ثوب مألوف غير أن تصميمها جديد غير معروف، فمصدر إلفها قالبها الموسيقي الذي عارض فيه من سبقوه؛ فهي رجزية البحر ميمية القافية، وموضوعها مدح الرسول وذكر سيرته والشكوى إليه عليه الصلاة والسلام من حال الأمة وآلامها؛ عسى الله أن يجعل من بعد عسرها يسرا، ومن بعد ضيقها فرجا. ولكن ذلك بأسلوب مترقرق وشعور متدفق، وصورة جذابة ومعاني خلابة ودرامية في العرض كانت وسيلة لحسن التخلص والانتقال بين أحداث السيرة العطرة وما يريده الشاعر من ذكر للأحداث.
بدأت القصيدة بالغزل على عادة الشعراء في المدح وتخلص منها إلى الذهاب إلى الرسول ومدحه ثم إلى الحديث عن الصحابة الكرام وبعدها تحدث عن مولده وما جلبه على البشرية من خير، هذا المولد الذي تخلصت به من بطش قيصر وظلم كسرى، وغوغائية البشرية وفوضويتها. ثم تحدث عن يتمه ونشأته وما أصابه في الغار قبل بعثته وما صادفه من محن وإحن بعد إعلان نبوته؛ ليدافع عن الرسول بعدها وأميته التي كانت مصدر إعجاز لرسالته؛ فالقرآن الكريم ينزل بلسان عربي مبين على رسول أمين كان أميا لا يقرأ من كتاب ولا يخط فيه بيمين، يقول أحمد الصديق:
فأمية المصطفى برهان معجزة
قد ألجمت أدعياء الكفر باللجم
فاعجب له وبحار العلم نابعة
من قلبه دون قرطاس ولا قلم
والوحي يأتيه بالقرآن معجزة
منضدا في بديع الآي والحكم
وهذا القرآن الذي حمله النبي هداية ورسالة للعالمين لم ينتشر في الناس بالسيف ولكن بالحرف، ولم ينتشر بالفرض بل بالعرض.
ويستمر الشاعر في عرض سيرة المصطفى من الميلاد إلى الوفاة ليختم قصيدته بحديث عن حال الأمة وانتكاستها من بعد إعراضها عن هدي نبيها، داعيا الله في ختام بردته قائلا:
يا رب صل وسلم ...ما أضاء لنا
نجم على المصطفى ...أو هب من نسم
وأنت غايتنا في حسن مبتدأ
وأنت غايتنا في حسن مختتم.
تلك كانت بعض موضوعات القصيدة التي كانت بها بعض الخصائص الفنية التي نجملها على النحو الآتي:
أولا: ذكر الأحداث الجارية في القصيدة
لم يكن الشاعر بمعزل عن الأحداث الجارية في واقعنا فأودعها قصيدته، ومن ثم يمكن أن نعتبر هذا جديدا في بردته، وتأكيدا لمقولة (الشعر ديوان العرب) فذكر مثلا أحداث القدس ومآسيها في قوله:
القدس ضاعت بأيديهم وما ارتدعوا
وما أتونا بغير الذل والسقم
يهرولون ...ولم يحفل بهم أحد
كأنهم في سباق دونما حكم
وكلما ازداد طغيانا صهاينة
لانت رقاب ليان الخانع الهزم
ثانيا: حسن توظيف الدراما
استفاد الشاعر من درامية الحوار في حسن التخلص والانتقال من الغزل إلى المدح، فكان الحوار مع قلب يشتاق لحبيب إلا أن الحرام يحول بين الوصل، ثم يخلد إلى العتاب الذي هو ثقيل على النفس، ويخلص منه إلى الحكمة التي صاغها الشاعر في هذه المقدمة بصورة مباشرة في أكثر من موضع من هذه المقدمة على قصرها فيقول مثلا: (...فإن الوصل أجمله ما كان لله في حرز من الوصم) أو عند قوله (والنفس من زاد تقواها لها عوض...عما تروم من الأوضار والوخم)...أو عند قوله (وعروة الدين عهد غير منفصم).
وهذه الحكمة التي بثها في مقدمته الغزلية كانت معبرا للحديث عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهو يخاطب
قلبه الذي أضناه الشوق وسمع كلامه بأن يذهب إلى رحاب المصطفى ففيه الكمال والجمال، والطهر والنقاء، والشفاء من كل داء.
كل هذه الحكم في مقدمة قصيرة لا تتجاوز عشرة أبيات، ومن ثم يمكن القول بأن هذه البردة الجديدة تطغى فيها النصيحة والحكمة واستخلاص الدروس، ولعل ذلك لإيمان الشاعر بأن الشعر ليس متعة فحسب، بل هو وسيلة لنشر غاية نبيلة تتمثل في تقديم عصارة الفكر وخلاصة التجارب لمن يقرأ عسى الله أن يفتح بما يقول أو يحرك ساكنا بعبارة مؤثرة صيغت في قالب جميل.
ثالثا: لغة القصيدة
أما لغة القصيدة فإن بها فخامة وجزالة، وصعوبة في كثير من الألفاظ على بعض القراء المتخصصين فضلا عن العوام، ومن ثم قام الشاعر بتعريف لبعض مفرداته التي استخدمها في نهاية الديوان، وهذا يوحي بتمكن الشاعر من لغته، وبراعته في استخدامها، فمن حسن توظيف لقافية الميم وهي حرف شفوي، إحساس بتمتمة في حب المصطفى؛ فكل بيت فيه مدح ينتهي بإغلاق الفم بحرف الميم.
وأكثر الشاعر استخدام الفعل المضارع الدال على التجدد والاستمرار ليوحي لنا بأن الرسول حي بيننا بسيرته وسنته، وأن ما يصيب الأمة من آلام لن تتحول إلى آلام إلا بالرجوع إلى هذا المصدر الذي لا يزال معطاء، فنراه مثلا يقول عن القرآن:
لا تنتهي أبدا شتى عجائبه
على موائد لا تؤذيك بالتخم
واستخدم الفعل المضارع في تصوير المشاهد وكأنه ينقل القارئ إلى معايشة هذا المشهد فيقول مثلا عن الفرس والروم:
ما بين فرس وروم ضل طائرها
تلوذ بالوثن المنصوب كالهرم
والسيف يعمل جزا بالرقاب ولا
يني وللثأر ما للداء من ورم
تذوي الورود ويفنى كل ذي كبد
حرى ويبقى لهيب الحرب في ضرم.
ففي الأبيات السابقة أجاد الشاعر توظيف الأفعال، فاستخدم الفعل الماضي ليؤكد حوادث التاريخ من ضلال الفرس والروم؛ إذ الفعل (ضل) يدل على الثبات والحدوث؛ لينقل لنا مشهدا من ضلالهم في صورة حية متجددة فهم يلوذون بالأوثان، ويشعلون نيران الحروب، ويقطعون الرقاب، وتعيش الإنسانية في عهدهما جراحات متجددة، وآلاما متعددة. ليأتي حسن التوظيف للفعلين الماضي والمضارع ليبين المفارقة التصويرية بين ماض محرق وحاضر بالإسلام مشرق، فيكون الفعل المناسب لمجيء الإسلام أن يكون في صورة الماضي (وجاء) الدال على الثبات، ثم المضارع الدال على التجدد والاستمرار في الفعل يمحو، فكثرة الأوضار التي لحقت بالبشرية تحتاج إلى استمرار جهد في محوها وإذكاء روحها لتستيقظ البشرية من غفوة، وتنهض من بعد كبوة فيقول الشاعر:
وجاء دين الهدى يمحو بطلعته
ليل الضلال ويذكر الروح في الرمم
واستيقظت أمة من بعد غفلتها
تنساح عبر فيافي التيه والتخم
ثالثا: التأثر بالفقه:
وتظهر ثقافة الشاعر الفقهية في بعض أبياته، فيذكر بعض القواعد الأصولية، مثل قوله عند الحديث عن أهل الكتاب (والغنم بالغرم مثل الغرم بالغنم).
رابعا: التأثر بالحديث
ويبدو ذلك في مواضع عديدة، فهو يشير إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قيل يا رسول الله: فمن قلة يومئذ؟ قال: لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل) فيقول:
ونحن مليار معدود وأكثرهم
بقيا غثاء عديم النفع منهشم
وتأثره بقول الرسول: (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)
في قوله:
وكلهم رهن جحر الضب يجمعهم
ووحيهم منه ..رغم السوء والوخم
هذه بعض لمحات من قراءة أولية للبردة الجديدة للشاعر أحمد صديق الذي نشرها في الدوحة بعنوان (البردة الجديدة في مدح الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم) في عام 2000م 1421هـ. وقد تكون لنا وقفات أخرى مع القصيدة في مناسبات أخرى إن شاء الله.