التنمية الضائعة

أين نحن من الحداثة

المقالة الأولى:في الفكر

أحمد أبو وصال: الصويرةـ المغرب

[email protected]  

شكلت الحركة الإنسية إحدى أبرز مظاهر النهضةا/الحداثة الأوربية إلى جانب الإصلاح الديني .فقد جاء الفكر الإنسي كرد فعل ضد التصورات السائدة ،هذه التصورات لم تكن لتخرج عن الإطار الذي حددته الكنيسة .لقد كانت الكنيسة هي مالكة الحقيقة المطلقة ـ اوهكذا كانت تعتقد بحسن نية أو سوءها ـ وحال إنغلاق الكنيسة ورفضها للحقيقة التي يؤمن بها الأخردون الإنتباه للتحولات التي عرفها الإقتصاد والمجتمع.وهي تحولات لابد أن تؤثرفي وعي وشعور الإنسان الأروبي .

لم تستطع الكنيسة أن تبدي مرونة أكبر،وتساير هذا التحول وبالتالي إمتصاص نزعات الرفض التي بدأت تنبثق وتنمو تدريجيا.لقد أدي تشدد الكنيسة وجمودها ورغبتها في الحفاظ على الواقع السائد إلى تزايد حدة الرأى الأخر،ومحاولة فرض وجهة نظره وإحترامها .

كان على الإنسيين أن يغيروا مفاهيم كثيرة ظلت راسخة لعقود طويلة ،وظلت جزءا من الإيمان الحقيقي كفكرة الشقاء والخطيئة ..وإشاعة مفاهيم جديدة كالسمو والكمال والتفاؤل...وكان عليهم تغيير النظرة إلى العالم وتوسيع مصادر الإلهام وتجديد البيداغوجية ونقذ التقاليدوالمؤسسات.وقد تجلى ذلك بوضوح في عدة مجالات أبرزها الفن ( خاصة الرسم والنحث) ،من خلال أنسنة المواضيع والخروج من تحت جناح الكنيسة إلى مجال أرحب وأوسع ،مجال ينطلق من حرية الإنسان ومسوؤليته وكونه أفضل المخلوقات.فالحرية والسعادة والجمال وإحترام الذات هي القيم الكبرى للأخلاق الفردية التي تصب في الأخلاق الجماعية المؤسسة علىالتسامح والسلم .شكل هذا التحول الفكري إحدى أهم عوامل بداية إنهيار دعائم الكنيسة التي ظلت رغم ذلك تدافع عن ماض لم يعد قائما وتصورات أثبتت الإكتشافات العلمية عدم صحتها.

جاءت نظرية كوبرنيك حول الكون كضربة موجعة للكنيسة القائلة بمركزية الأرض في المجموعة الشمسية ـ وإعتبار هذا جزءا من الإيمان ـ لقد أثبت كوبرنيك العكس وبالتالي كان لابد للإنسان الأوربي أن يطرح سؤالا جوهريا وبديهيا : هل تملك الكنيسة الحقيقة ؟ وإذا كانت لاتملكها فمن يملكها إذا ؟

وكان الجواب بسيطا : لا أحد يملكها، العقل والعلم وحدهما قادران على البحث عنها وإكتشافها.

هكذا إنطلقت الثورة على الكنيسة ،والتي لم تعد قادرة على الوقوف أمام هذا السيل الجارف المتمثل في رغبة الإنسان الأروبي في البحث عن الحقيقة بنفسه عوض أخذها من رجال الدين.

من هذا المنطلق بدأ الوعي الأوربي يتشكل تدريجيا خلال القرنين 15 و16 معتمدا على مبدأي العقل والعلم ،وبدأت أسس البحث العلمي تتضح .وإذ ا كان الفكر الديني السائد لم يقدم لهؤلاء الإنسيين أدوات 

ومناهج البحث ،فكان من الضروري البحث عنها في التراث القديم خاصة الروماني والإغريقي .

مع القرنين 17 و18 بدأت مرحلة جديدة، صحيح أنها كانت إمتدادا للفكر الإنسي إلاأنها متميزة وذات خصوصيات ،ونعني بذلك فكر الأنوار.وإذا كان الفكر الإنسي إنطلق من إ يطاليا وغلب عليه الطابع العلمي والفني فإن فكر الأنوار إنبثق من فرنسا وإنجلترا وطبع بطابع فلسفي واضح .لقد حاول فلاسفة الأنوار التجرد من كل الخلفيات ووضع المجتمع بأكمله موضع نقذ ودراسة ،رغم إرتباطهم بطبقات إجتماعية مختلفة ( فولتير بالبورجوازية ،مونتسكيو بالنبلاء ،روسو بالفئة الشعبية ) .

لقد حاول هؤلاء الفلاسفة إعادة النظر في دلالات المفاهيم الرائجة كالسعادة والفضيلة والحرية والشعب ...ورغم الإنتقاذات التي يمكن أن توجه لهم،خاصة مواقفهم السياسية إلا أن فكرهم وكما عبر عن ذلك  إمانويل كانط " خروج الإنسان من حالة القصور العقلي التي هو مسوؤل عنها وحالة القصور العقلي هي العجز عن توظيف العقل دون توجيه من الأخر،فلتكن لك الشجاعة لإستعمال عقلك .هذا هو شعار الأنوار".

لقد أعتبر الإنسيون والمتنورون سلسلة متواصلة من البحث عن أساليب تحرير الإنسان من القيود التي تعيق إستعمال ملكاته وقدراته العقلية وتقد يس العلم بإعتباره الأداة القادرة على إكتشاف قوانين الطبيعة .

وهكذا لم يكن القرن 19 سواء حقلا لتطبيق المفاهيم الجديدة والتي أصبحت أكثر رسوخا ،وتراجع الفكر الديني إلى الخلف وسلم بأهمية العلم وحاول مسايرته والإستفادة منه.ولم يكن القرن 20 إلا إستمرارا لترسيخ الحداثة والدفاع عنها والإيمان بأهمية الإنسان وحرية توظيف قدراته العقلية دون قيود.

والسؤال المطروح :أين نحن في عالمنا العربي من هذه التحولات ؟ لماذا  لم نستطع خلق حداثة عربية والعمل على ترسيخها ؟

إذا شكل القرن 15 بداية دخول أوربا عصر الحداثة ،فإنه في العلم العربي كان بداية للتراجع وسيادة التقليد.وحتى التطور الذي عرفه العثمانيون والسعديون في بلاد المغرب كان يطغى عليه الطابع العسكري التوسعي ،وبالتالي ما لبثت هذه الدول أن تراجعت بسرعة أمام تطور أوربا الفكري ،الإقتصادي والأجتماعي...لقد ساد الجمود الفكري ولم يستطع عقل الإنسان العربي الرازخ تحت وطأة الإقطاع والإستبداد أن يحققق ثورة فكرية شبيهة بحركة الإنسيين .ورغم أن المجتمع العربي لم يعان من سيطرة جهاز ديني كما حدث في أوربا،إلا أن عدم القدرة على تحرير العقل من جموده ظل هو سمة الغالبة على بنية العقل العربي .ولم يشهد عالمنا العربي أي رجة أو ثورة قادرة على خلخلة وتفكيك مكوناته ومساعدته على الإنطلا ق والتحرر ،هكذا ظل الفكر التقليدي هو السائد ،فكر قنع بواقعه وأعتبره قدرا لا يمكن تغييره إلا بمعجزة سماوية .وحتى عندما إنتبه مفكرونا لهذا الواقع وامنوا بإمكانية تغييره خلال القرن 19 ،كان قد فات الأوان ،وإختلت موازين القوى وأصبحت أوربا قوة إستعمارية سيطرت على العالم العربي وكرست الجمود والتقليد بالتواطؤمع الفئات المحافظة الحاكمة .

إن واقع القطبية الواحدة الذي نعيشه ،ومن أبرز معالمه ظاهرة العولمة جعل الإنطلاق نحو حداثة عربيةأكثر صعوبة.كيف نحقق ثورتنا الفكرية ؟ كيف نحقق حركتنا الإنسية وعصر أنوارنا؟ هل ننطلق من مرجعيتنا الدينية الإسلامية وإعتبار الإسلام هو الحل ؟ أم من مرجعيةأوربية من خلال تبني قيمها،هل يلزمنا قرون عديدة لتحقيق هذه الحداثة، أم يمكن فعل ذلك في زمن أقصر ؟

إن الحداثة العربية بخصوصياتها أصبحت أمرا ضروريا ،ألم تحقق اليابان ذلك في وقت أقل ،ألاتسير الصين في الطريق نفسه .كل شىء ممكن ،يجب فقط رفع الوصاية الفكرية عن الشعوب وترك التاريخ يقوم بعمله.

المقالة القادمة : في السياسة