منزلة علم الأصول بين علوم القرآن
د. رشيد عمران
جامعة بشار/الجزائر
علوم القرآن كثيرة تشمل علوما متنوعة ، تستند إلى القرآن الكريم ، و تسهّل فهمه على الوجه الصحيح، و قد نشأت لخدمة النص القرآني ، و ضمان قدر كبير من الإجماع في الفهم المشترك للنص القرآني من خلال تقديم أدوات لقراءة النص القرآني قراءة منضبطة بعيدة عن الغلو و الانحراف ، و الموقف هنا ليس موقفا تمجيديا بقدر ما هو منطلق عقيدي يرمي إلى تجسيد مقولة "الإعجاز القرآني" .
لقد نزل القرآن الكريم بلغة العرب ، و كان الرعيل الأول من الصحابة (رضوان الله عليهم) على دراية بلسان العرب ، يعرفون معاني ألفاظه ، و تصرّف أساليبه ، فقد كانوا على سليقة ، و قرب عهد بنزول الكتاب المبارك ، فلم يكونوا في حاجة إلى قواعد و أصول للتعامل مع القرآن "فلم يكونوا في حاجة إلى تعرف قواعد للإعراب و الاشتقاق و ما شاكل ذلك من العلوم المحدثة ، كانوا إذا نزلت بهم حادثة فأرادوا معرفة حكمها فزعوا إلى كتاب الله ، فإن لم يجدوا فيه طُلبتهم فزعوا إلى السنة الصحيحة ، فإن لم يجدوا فيها حكما اجتهدوا وألحقوا الأشباه بالأشباه ، و الأمثال بالأمثال مراعين المصالح التي ثبت عندهم أن الشريعة راعتها" .
و يتضح ذلك في قول عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لأبي موسى الأشعري حين ولاّه القضاء : الفهمَ الفهمَ فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب و لا في سنة ، فاعرف الأشباه و الأمثال و قِس الأمور.
وتوالت الأيام والسنون ؛ و كانت رسالة القرآن للعالمين و للناس كافة ، فدخل الإسلام أقوام و أمم من ثقافات مختلفة ، ولغات غير العربية ؛ فاختلطت العربية الفصحى الصافية النقية بلغات أعجمية الأمر الذي كان سببا في ذهاب السليقة اللغوية الأولى ، و كان سببا لاستنفار العلماء لوضع علم يحفظ فهم النص القرآني الذي كان في أساسه معجزة لسانية بيانية ، و من ثمَّ "وضعوا القواعد و دونوا فيه الكتب حتى يأمن الناس على لغتهم أن تضيع أو يؤثر فيها سيل العجمة فيُغيِّر من شكلها ، و إذا لم يكن في إمكانهم أن يصونوا الألسنة من اختيار ما خف عليها بترك الإعراب و تحويل بعض الألفاظ عن شكلها و الاقتصار على ما سهل على الأسماء منها فلا أقل من أن يحفظوها من مثل ذلك في الكتابة و الدراسة ، و الذي أَهمَّهم من ذلك هو المحافظة على كتاب الله و سنة رسوله الذين هما أساس الدين و عمدة اللغة العربية".
و هكذا كانت نشأة كل العلوم القرآنية ، حيث كان الهدف الرئيس هو حفظ الدين ، و لا شك أن دستور الدين الإسلامي في مصدرَيْه هما القرآن الكريم و السنة النبوية الشريفة ؛ بلسان عربي مبين ﴿ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ ، ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ، وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ﴾.
وإذا تقرر أن القرآن قد تنزَّل على معهود العرب في كلامها ، فإنه يلزم أن يكون فهم وتأويل النص القرآني على ضوء ما عهدته العرب في فهم خطابها "و لا يستقيم في كتاب الله أو سنة رسول الله أن يتكلف فيهما فوق ما يسعه لسان العرب".
إن اعتناء المسلمين بالقرآن الكريم خلّف ثروة علمية ضخمة في مختلف المجالات ، تنضوي جميعها تحت ما اصطلح على تسميته (علوم القرآن) ، و التي كانت تسعى إلى غايات ثلاث جامعة هي:
الغاية الأولى : وهي الإعلاء من شأن النص القرآني ، و ترتبط هذه الغاية بالمضمون العقدي الذي ينبني على مسلمتين هما ؛ الإعجاز و سلامة النص القرآني من التحريف.
الغاية الثانية : وهي إنارة النص القرآني و فهمه.
الغاية الثالثة : وهي ضمان شيء من الإجماع على فهم النص المقدس.
لقد أفرزت هذه الغايات الجامعة علوما كثيرة من مثل ؛ علم القراءات ، علم الناسخ والمنسوخ ، علم الأصول ، علم المتشابه ، علم الوجوه و النظائر ، وغيرها ، و كلها ترمي إلى الوصول إلى تلك الغايات الجامعة ، و ذلك بسبب أن "كان النص مركز الثقافة و محورها ، فإن علومه تنزلت بدورها منزلة القطب بالنسبة إلى بقية العلوم كالفقه و أصوله و غيره من العلوم ، فالفقيه إذ يلتمس الحكم في نازلة من النوازل إنما يستمده من القرآن أول مصادر التشريع التي يستقي منها مدونة أحكامه" .
و من منطلق تعامل الفقيه مع النص القرآني المصدر الأول للتشريع ، ظهر علم الأصول ليكون هاديا و عاصما أثناء قراءة و تأويل النص القرآني ، و من هنا اشترط العلماء في المفسر أن يكون ملما بجملة من العلوم تكون بمثابة أدوات تحمي المفسر من أن يقول على الله بغير علم ؛ و من تلك العلوم "علم أصول الفقه ، إذ به يُعرف كيف يستنبط الأحكام ، ويستدل عليها ، و يعرف الإجمال و التبيين ، و العموم و الخصوص ، و الإطلاق و التقييد ، والأمر و النهي ، و ما سوى ذلك من كل ما يرجع إلى هذا العلم".
يقرر الدكتور الدهبي مبدأ أساسيا على المفسر أن يراعيه ، و هو "مراعاة التناسب بين الآيات، فيبين وجه المناسبة ، و يربط بين السابق و اللاحق من آيات القرآن ، حتى يوضح أن القرآن لا تفكك فيه ، و إنما هو آيات متناسبة يأخذ بعضها بحجز بعض".
ويؤكد الشيخ الطاهر بن عاشور في (التحرير و التنوير) ؛ أن علم الأصول علم لا يستغني عنه المفسر بحال ، فهو يضبط قواعد التفسير و يفصح عنها فهو آلة المفسر .
و إن العلاقة بين الأصول و التفسير لوطيدة ، فكثير من المباحث الأصولية لا يمكن للمفسر أن يستغني عنها ؛ كفهم كلام العرب ، و مسائل الدلالة و غيرها من المباحث الأصولية. و يبين الشاطبي ذلك حين يذهب بعيدا ليؤكد أن أصول الفقه من جملة علوم القرآن ، وتقسيم العلوم المضافة للقرآن عند الشاطبي كما يلي:
القسم الأول : وهي علوم كالأداة لفهم القرآن الكريم ، و استخراج ما فيه من الفوائد ، و المعين على معرفة مراد الله تعالى منه ، كعلوم اللغة العربية التي لابد منها ، و علم القراءات ، و علم أصول الفقه ، و قد وضعت هذه العلوم في الأصل لخدمة الكتاب الكريم.
القسم الثاني : قسم مأخوذ من جملته من حيث هو كلام ، لا من حيث هو خطاب بأمر أو نهي أو غيرهما ، بل من جهة ما هو ، و ذلك ما فيه من دلالة النبوة ، و هو كونه معجزة لرسول الله (صلى الله عليه و سلم) ، فإن هذا المعنى ليس مأخوذا من تفاصيل القرآن ، كما تؤخذ منه الأحكام الشرعية ، و يتعلق الأمر في هذا القسم بـ(إعجاز القرآن) ، و هو دليل على ثبوت التكليف ، و برهان على لزوم الأخذ بأدلة الأحكام التكليفية الفقهية ، و هذا بناءا على ثبوت صدق الرسول (صلى الله عليه و سلم) ، المبني على ثبوت برهان معجزة القرآن.
القسم الثالث : وهو مأخوذ من عادة الله تعالى في إنزاله ، و خطاب الخلق به ، و معاملته لهم بالرفق و الحسنى، من جعله عربيا يدخل تحت نيل أفهامهم ، و كونه تنزل لهم بالتقريب والملاطفة، و التعليم في نفس المعاملة به ، قبل النظر إلى ما حواه من المعارف و الخيرات ، و ذكر أمثلة يستعان بها في فهم المراد من كلامه ، منها : عدم المؤاخذة قبل الإنذار و دل على ذلك إخباره تعالى عن نفسه بقوله : ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ ، فجرت عادته في خلقه أنه لا يؤاخذ بالمخالفة إلا بعد إرسال الرسل ، فإذا قامت الحجة عليهم ، فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر.
القسم الرابع : وهو المقصود الأول بالذكر ، و يحتوي على ثلاثة أجناس هي المقصود الأول :
× معرفة المُتوَجَّه إليه ، و هو الله المعبود سبحانه.
× معرفة كيفية التوجه إليه.
× معرفة مآل العبد ليخاف الله ربّه و يرجوه.
إن التأمل في هذا التقسيم لعلوم القرآن عند عالم أصولي بحر في الأصول مثل الشاطبي ، يلاحظ أنه وضع علوم الآلة و منها (أصول الفقه) في القسم الأول من علوم القرآن ؛ ذلك أنها بمثابة المقدمة الصحيحة التي تؤدي إلى نتيجة صحيحة هذا ، و أنها عاصم من الشطط و الانحراف في قراءة النص القرآني ، فلا يمكن أن يتكلم في القرآن من لم يتمكن من علوم الآلة وهي اللغة العربية ، و علم أصول الفقه ، و القراءات القرآنية .