انبجاس الماء في تراجيديا الرمل
انبجاس الماء في تراجيديا الرمل
قراءة نقدية في مجموعة تراجيديا الرمل للشاعر الكبير نصير الشيخ
د. صدام فهد الأسدي
ليس بإمكان النقد أن يغوص في الينابيع التي تصب في بحر الشعر خاصة إذا كان الشاعر يستقي بباصرة شاعرة روافده التي تمخضت عن در وليس عن زبد, وهذه الروافد تنبع من بحيرات متنوعة متفرعة ,وثمة تجربة عميقة لدى الشاعر المبدع في عبور المسارب صافية النبع.
ماقولنا ونحن نتريث كثيرا أمام تراجيدياه الساخنة بالصور ,وهذا ما زاده في عيني إكبارا وإنا اغرف من بحر وأنجر من صخر في رؤياه المتشعبة وليس هو في فراغ يعلم الله ثرثرة فوق صفيح مثقوب ولا هو في تمخيض الزبد من اللبن لسد الفراغ
حسبي أن القراءة الشعرية الجيدة هي السبيل إلى فهم جيد مع علمي الأكيد بان لغة الشاعر مثل نبضات قلبه و رفيف مشاعره ,ولا أضع الشاعر في مقياس لمعرفة الجودة أو أرقيه إلى مواكب الشهرة فمن إنا إلا قاريء نهم يحب القراءة ويتذوق الشعر ولم تكن كلمتي الفصل بأي حال من الأحوال ومن أساس الفهم أن نتذوق ونتبصر ونحن أمام عواصف من التعقيد والسمو في مسارات الأدب المتنوعة.
ولست اشك مطلقا في شاعرية نصير الشيخ فهو شاعر وكفى وشعره جدير بالتأمل لأنها قصائد تنقلنا من شعر إلى شعر بعيدة عن الوعظ والحكم والخواطر حتى إذا امتلكت علامات وعظها ضمنا فالشعر فن وكم قلت لبعض الشعراء والمتشاعرين اتركوا الشعر لأهله .
ولم أجد في نصوص نصير ذهنية ترسم من لا وعي وتسبح في ظلمه معتمه بل أرى شعره لذيذا ومع حد تعبير (الشاعر لا يقدم صورة أخلاقية ناطقة بل يحقق خيرا بتقويةالخيال)
وهذا مافعله نصير منفردا عن شعراء جيله حقا ولا أقول شعره سطحي فارغ من شيء بل انطباع لمثقف يختزن في وعيه مرتكزات سلوكية معقدة ولا نضيق ذرعا إذا كشفنا ذاته في مسارح قصائده وبتعبير أدق أن شعر نصير الشيخ شعر عال رفيع المستوى يدل على نضج الشاعر فقد فهمته إنا مختص في اللغة متعبا فساعد الله من يفهمون اللغة سطحيا.
والذي ركز علية نصير الشيخ رسمه الكلمات بصورة شعرية دقيقة فكانت وسيلته حقا لنقل تجربته الشعرية فعمد مركزا على رسم الصورة بالألوان وهكذا جعل من الألوان أسا للتعبير في اكتمال لوحته ولا أقول انعزال لغته عن صورته أبدا على حد تعبير السامرائي (اللغة الشعرية مادة الشعر وجوهره ) بل كان موفقا جدا في التوازن بين صورته ولغته فكلنا نفهم أن اللون الأحمر دال على صورة الدم والأسود يوحي بأفول الأشياء وهو لون الحزن والأخضر دلالة الأمل والولادة ووجدناه مبدعا حقا في وسيلته اللونية .
قل
انه اتخذ من التلوين أساسا في رسم صورة باعتقاده وهذا شيء حسن أن الصورة الشعرية
ليست خبرا يرصف الإفهام بل هو جمال يضاف الى القصيدة .
ترميم
اللون في حدائق البلور
يملأ حقائبنا بالإزهار عبر ثيمة الألوان ثم يعطينا سلة من الثمار وفاكهة فضية ومن هنا بدأ اللون يرسم محطته لون فضه وحتى بساط الأرض الأخضر فلو كان يبسا ما كان بساطا ومن هنا بدا العشب الاخضرلو كان يبسا ماكان بساطا دون ان يرسم اللون واكتفى بالدالة ثم هز النخلة فيتساقط الرطب الأخضر لا الوعد المبدل موقفا وهذه الفارقة اللونية الرائعة بين شجرتي بلوط ونهديها ورسم صورة الشجرة اليافعة بلا جذور وحتى أصابعها التي دست في أسرار حياته من لون الكبريت لون السنبلة الأصفر ولون سنديانها والمسارات السوداء لها لونها المعروف ثم الضوء الذي أيقظه وينتهي مساءلا الورد:
ألا تستحي أيها الورد
وأنت ترنو
لجسدها المشبع
بالعطر والضوء
والألوان تتشابك في ريشة فنان رسام دقيق حقا ولا اقف مع الشاعر بمديح فارغ وإنما قولتي الحق فالوقفات كثيرة تستدعي الانتباه وخاصة ثيمة الانتظار الموحية التي يستشرق بها الغد القادم :يكفي الرصاصة شرفا
أن تختار قلبي
لتسكن فيه
هذا موقف أيدلوجي يبثه نصير الشيخ للمتسائلين عن أروقة عذابه ومنها يبدأ برسم صوره كالجذر تحت نخلة الشعر ليمطر عليها مساحات درامية تعد أعلى صوره للتعبير الشعري ماتكاد تعبر من صورة أجمل فيفاجئك بأجمل منها وأضخم تعبيرا وصياغة وحبكا وتكثيفا بقناطر أسلوبية رصينة من يعبر فوقها لايخاف السقوط والزلق حتى كان نسقه المعماري في رؤيا مهندس بارع لا يضع المسطرة لهندسة بيته إلا بعد رؤيا وتفكير وتجذر ذوخبرة متعدية العقل
انه أيدلوجي رسام شاعر يحمل وجهات نظر عميقة بمدلولات صعبة وهو متفنن لاختيار دواله الصالحة للتعبير عنها وتشكل دائرة الدوال نصا مرموقا مثل إهدائه أولا:
هناك وعند التخوم البعيدة
ثمة امرأة تلوح علينا بمنديلها
الذي لا نراه
لا نجد التناقص عيبا في رسم الفكرة بل يلهم المتلقي تساؤلا كيف تلوح وكيف لا يرى ثمة إسقاطات متناقضة يفصح عنها دوار الشعرية في متن المجموعة فقد بدأنا بانقطاع الأمل وحركة التلويح حيث أن الأشياء المرئية لم تكن ظاهرة في مصداقيتها فثمة نظرة باطنة للأشياء انه صوفي ينظر لدقائق الأمور بعين باصرة
وسؤاله الغريب :
المطر لم يشأ الليلة إن ينزل
بل تدثر
بغيمة حزني الرمادية لينام
إن دالات المطر الرافض للنزول والقائم بحركة الإنسان تدثر ليس بلحافه بل بغيمته واي لون رمادي هنا الفاجعة ويبدأ الصمت بانقطاع الحركة النوم والسكون,وبدلا من نعيق فارغ ووصوفات هزيلة لحسن امرأته يدخل متخلصا من هذيان ومسرحة بليدة بلغة صعبة إلى السيدة س :
ويح أصابعي
تأخرت كثيرا
في جني قطاف الفراشات
من سهوب شعرك الفاحم
ان الشاعر رسم لنا صورة المرأة من الخارج ونحن لانعرف اسمها وواقعها بل قرانا صفاتها في نصه ان مركز الإشعاع فيها المستهل ويح أصابعي لقد خلصنا نصير من كلام طويل عريض سار عليه الشعراء سمراء هيفاء عذراء لايريد هذا كمله دخل بنا إلى الهدف لائما كفه المتصلبة دلالة الرجولة معللا من البرد والخسارة القصوى في عدم دفن العروق في الجسد الباذخ
وثم الانتقال الى الصورة الاخرى في توصيف المر اة عندما فكت ضفائئرها وكيف حطت زنابق روحه عندما لمع قرطها ووجه اتهاما لمرآة ثم عبر إلى زوارقها الدافئة الرسائل وتوصل إلى الانتماء غايته :
مستدقا كمنقار هدهد
هذا الكون
الذي لاتنتمين اليه
انظر الى الدقة في التعبير منقار هدهد ولكنها لاتنتمي ولكنه لايتخلص منها بل يحاول البحث عنها في السماء الأخرى
وهي تحرق المسافة صاعدة لبحار النور
ثم يظهر خجله وفشله ثم الاستسلام والاستعانة بها والهروب الى الحلم حتى يتشظى الى قطع مصبوغة بالسواد
والحيرة والانتهاء بآخر مايلمسه ولم يظفر بشيء
وأظن الشيخ قد اعتمد مبدأ التركيب للشخصية وهو يتابع عن كثب نمو حركتها ولكن بلغة مكثفة جدا وهذا لآياتي الا من شاعر في أديم لغة مركزة دالة على مهنية الشاعر المحترف بل سيطرة واثقة وإتقان عجيب فمن منا يبدل الوسائل بسواها الزوارق الى رسائل والشك الى ضفائر خذلت يديه أخيرا وكانت دلالة الألوان تفرض نفسها وتأخذ حصة الأسد في قوله:
سقوف الليل تشققت
كفا مطرا
كفا دما
وشظايا
نعم الإجهاد في نهايات الأشياء كأنها انتهت ولكنه لايترك متلقيه دون حلول وقناعات سقوف الليل تشققت ولونها الأسود فما نفع الدم الأحمر الساقط هل نراه مجديا فقد تركنا في حيرة وهذا الشعر لايعطيك نفسه بسهولة بل ينقلك معه الى فضاءات مدهشة ومغاليق ضيقة وفي القصيدة نفسها يقول.
سموه غصنا مائسا
قاد احتجاجا أولا
ضد اصفرارات الخريف
كلنا نعرف الغصن المائس الطري تلعب به الريح كيف تحولت الحركة الى احتجاج من الغصن وهو قناع مرمز على اصفرار الخريف وهنا جاء اللون ليقول موقفه دالا على الكراهية والغيرة وماذا ينعكس من نتيجة الاصفرار او الذبول من تماهي الشيء الى خراب بعد يفاعة وميس في الغصن
وفي قصيدة أوهام أفلاطونية يستمر الشاعر في خلق صوره ونحن نريد اللونية فيها قوله"
منكسرا كشراع ازرق
في قدح من دم
ليس صدفة تأتي الأشياء مخلوقة هكذا عن نصير بل ان اللون لبم يعد قابعا خلف الشاعر بل أمامه في هذا النص الرائع ولم يكن زينة جمالية بحتة وإنما غدا طاقة إيحائية مؤثرة فالانكسار يوحي بالانطفاء والتوقف والتشبيه بالكاف لازمة بلاغية واضحة لوقف الشراع الازرق الدال على صفاء البحر والسماء ويتم غرسه في قدح صغير من دم وهكذا تتعانق دلالتان الزرقة والأحمر في سبع كلمات يسميها أوهاما
وعندما يصف اوفيليا برمز أسطوري مقتطع لايتعب اللغة في الوصف بل يستخدم الألوان لتقول قولتها:
اوفيليا
نثار زنابق بيض
على صفحات نهر اسود
هذا الفرز العقلي الرائع الذي يقوم على أبعاد لونية تلفت النظر فالزنابق المثارة بيض كيف تصدق العين متناثرا وتقع على صفحات لنهر اسود
ان هذا الخلط في الألوان ليقدر عليه الرسام وقد وظفه نصير توظيفا مبدعا حقا
ولنصير الرسام والشاعر حب كبير للبحر حتى يقدم اعتذاره قائلا:
مرة
اعتذرت من البحر
لان ردائي
قاسمه زرقته
وكما نلحظ اللون الأزرق صفة مشتركة بين الذات والبحر العميق الاول الصفاء والأمان والثاني لبس زرقته الحقيقية
بروق الدم ملحمة المجموعة
أقف منبهرا على قدرة هذا الشاعر اللغوي وهو على حد علمي خريج معهد علمي كيف استطاع ان يوظف هذا التكثيف الرائع للغة شعرية وأقول بكل صدق ودون مواربة وخوف ولومة لائم لو ان نصيرا الشاعر كتب عشر قصائد بعد بمستوى هذه القصيدة لعبر الشعرية المتقنة فمن منا لم يقرا عن كربلاء رمز البطولة والتحدي والحرية ففي 77 كلمة فقط رقصت الحرب على الساحة رقصا وتسابقت الخيول لسحق الجسد الطاهر سباقا
لقد كثف اللغة وهذا يتأتى من انغراس وممارسة في الشعر قوله:
على رمال احمرت خجلا
تهاوى الجسد مثخنا بالبروق
لو قال مثخنا بالجروح لما وفق أبدا في نقل صورته الى أعلى مرتبة شعرية وكم عالج الشاعر من رؤى في هذا المستهل فكيف احمرت الرمال خجلا واستحت ولم تستح الرجال من جريمتها انها الإدانة بصورة غير مباشرة والجسد الكبير المقدس يسقط كالجبل مثخنا بالمجد والعلياء ولا يرى الجراح معادلا موضوعيا لهو حين يعقد نتائج المعركة يقول:
جيوش الدماء
أسقطتها النبال
في متاهات هذا الجسد
يظهر لنا تركيز الشاعر على الجسد المخيف القاتل المنتصر على قاتله بدلالة المتاهات فقد امتلك نصير الشيخ مجازات رائعة واستعارات مكثفة اراد بها التوحيد بين الأشياء قبل ان تتبادل الخصائص وفي مقطعه هذا شعر مدهش واللون يتسيد فيه الموقف فجيوش يزيد اللعين جيوش دماء ولم تسكت الا بالنبال على جسد صريع يوضح قيمة الكره والانتقام بلا ذنب ليركز الذنب والجريمة على الجاني فما قيمة الكثرة الشيطانية أمام جسد صريع يقطع أصبعه إنها قصيدة القصائد وحجر الزاوية في متن القصائد
وفي قصيدة تراجيديا الرمل عنوان المجموعة ثمة ترابط بين العنوان وهذه في منتصف المجموعة لأنه حسم الموقف ونجد الليل الأسود هو الذي أطفا السنين وقوله
كانت تبلل أصابعها
بدمي فترتعش الأشجار
لغة موحية متحركة فالأصابع تحترق دما ويصبح سمادا للأشجار التي ترتعش فرحا بعلو أغصانها وقوله
ليلك المعتم
يضيء زجاجات حروقي
فالسواد واضح والعتمة لاتحتاج الى تفسير ولكن من الايحاء لتلك الزجاجات المعقدة والمملوءة بالحروق
وقوله
نصف الطريق إليك
وعمر أتخمته بالرماد
كم نجح الشاعر مهذبا في انتقاء التخمة للون الرماد ولم تتوقف حكاية التعب والأوجاع فتصبح حتى الإدمان قوله:
في دمه
دقت حوافرها
استفزه الرصاص
فعاود نومته على سرفات الندم
هذه ذاتياته لايخرج اللون الأحمر خاصة من تحرياته بل يضخمها مستدعيا الإجابة على الأسئلة التي لاجواب لنا عليها سوى الإعجاب في قصيدة سراب تزاحم الألوان في قوله:
-قمر الغاب الوردي
-في طرقات الغيم الابيض
-في فلوات الزبد الأخضر
الألوان الثلاثة متباعدة مكانا وكتابة وكل منها في ارتفاعه الدال فجمال القمر البعيد وردي أحلى مايراه الشاعر ولكن حين ينزل للأرض في طرقاتها يبدأ الغيم الابيض سمه الصفاء الكذب الابيض استعارات متتالية وفلوات شاقة وبعيدة وصحراوية يصبح الأمل زبدا اخضر تفوح رائحته وقد وفق الشاعر في التخلص من الرتابة ونقل أوصافا حسية الى مادية والعكس فالقمر ليس لونه هذا بل الجمال الادمي والطرقات الغيوم البيضاء والفلوات لاتعشب انه يعطي تناقضات الأشياء المعكوسة كأنك تقول للأعمى البصير وهذا الفن الشعري الكبير
واجد البنية المتشظية عند نصير تدور على فلكين سطحي غامض وعميق متحرك لايفقدان الوحدة العضوية وان الانتقال من صورة الى صورة يبعده عن الرتابة فقد تقرا مجمعة شعرية وتترك نصا ما ولعمري ان مجموعة نصير كلها ذهب مصفى لايترك منها شيئا زد الى هذا محافظته على الإيقاع
وفي مسك الختام أنها ثلاث عشرة قصيدة يحسبهاالقارئ متعة ورحلة للخوض في تراجيديا الرمل الذائب أو المسال لكنها بحق كما قال لحبيبته نصير:
إن تلمسي غابات صدري
فقد توقظين الضوء
أو تشعلين حرائق هذا العالم
ونحن نريد أن نلمس شيئا من الشاعر خشية أن نشعل حرائق الشعر في عينيه ولا نريد ان نحرق العالم بحرائق القوافي الشيخية بل نريد ان نستمتع بنسيم الشعر العذب نتمتع بإثارة الغرابة وجدتها وطرافتها في أي قناع فصل لنا على بساط الخيال
وأقول أن نصيرا شاعر تهوم روح الشعر عليه كالمطر وتصورت -إنا الشاعر والناقد -أن اقرأ شاعرا فقط بل قرأت مئة شاعر في جسد واحد