محمد محمود الزبيري

الشاعر الذي قوّض أركان الظلم بشعره *

أحمد الجدع

عندما يحمل القلم كاتب ليتحدث عن الزبيري تأخذه الحيرة ، فيسأل نفسه : عن أي جانب من جوانب هذه الشخصية أتحدث ؟ أأتحدث عن الزبيري شاعراً أم مجاهداً أم صحفياً أم روائياً أم كاتباً أم سياسياً أم راحَّالةً أم شهيداً ؟

كل هذه الجوانب في حياة الزبيري رحبة وخصبة ، وفيها كلها تتجلى شخصيته وتظهر عبقريته وتبدو إنسانيته ، إلا أن الجانب الذي يطغى على كل هذه الجوانب هو شخصية الزبيري شاعراً ، فقد مارس كل نشاطاته وبرزت كل مواهبه من خلال هذه الشخصية الشاعرة .

ولكن الحديث عن الزبيري شاعراً يقتضينا أن نبسط القول في الأغراض المتعددة التي تناولها في شعره ، فإذا فعلنا ذلك فسوف يطول الحديث ويتشعب ويحتاج منا أن نؤلف كتاباً ضخماً حتى نستطيع أن نفي الشاعر حقه أو بعض حقه .

ومع كل هذا نستطيع أن نلمح شخصية الزبيري بجوانبها المختلفة إذا ما تناولنا غرضاً واحداً هو أبرز الأغراض التي طرقها أو قل هو المحور الذي دارت عليه جميع أغراض شعره ، ذلك الغرض الذي نقصده هو مقارعة الظلم ومحاربة الظالمين ، لذا سوف نقصر حديثنا في هذه المقالة عن هذا الجانب الأصيل من شعر الزبيري .

لا أبالغ إذا قلت بأن من يريد الاطلاع على أحوال اليمن وعلى تطور الثورة فيه فإن خير مصدر يستطيع أن يطلع عليه ويطمئن إليه هو شعر الزبيري ، بل أستطيع أن أقول مطمئناً بأن ثورة الشعب اليميني على حكامه الظالمين قد تجسدت بشعره ، وأن الشعب اليمني الثائر إنما كانت ثورته من خلال صيحات الزبيري في شعره ، ذلك الشعر الذي كان يجلجل في سماء اليمن كأنه هدير المدافع وأزيز الرصاص .

والظلم كما يعرفه الزبيري ليس ظلم الإمامة الحميدية الحاكمة في اليمن فقط ، وإن كان يرى بأنها مارست أبشع أنواع الظلم ، إنما الظلم عنده هو الظلم أكان الذي يمارسه ينتمي إلى من يطلقون عليه لقب الرجعي أم كان الذي يمارسه يلبس أثواب التقدمية والديمقراطية ويزعم أنه مع الشعب ومن الشعب :

الحكم بالغضب "رجعي" نقاومه
والظلم يعلنه القانون نفهمه
والموت من مدفع "حر" نقول له

 

حتى ولو لبس الحكام ما لبسوا
ظلماً ، وإن زينوا الألفاظ واحترسوا
موتاً ، وإن أوهمونا أنه عرس

والزبيري الذي أعلن الحرب على الظالمين في اليمن لم يسكت على الظلم في الأماكن الأخرى ، فهو ضد الظلم في كل مكان ، وضد الظلم الواقع على أي شعب ، وأشد ما يكرهه ويعافه في التاريخ هو سيرة الظالمين ، ويتمنى لو كان الحكم على هؤلاء بيده ، إذن لأذاقهم جزاء ظلمهم سياطاً تلهب ظهورهم وناراً تحرق جلودهم :

أحارب الظلم مهما كان طابعه البر
جبين جنكيز تحت السوط أجلده
سيان من جاء باسم الشعب يظلمه
حجاج "حجة" باسم الشعب أطرد

 

اق ، أو كيفما كانت أساميه
ولحم نيرون بالسفّود أشويه
أو جاء من لندن بالبغي يبغيه
وعنق جنبول باسم الشعب ألويه

من خلال هذا الفهم الواضح لطبيعة الظلم ومصادره وأركانه انطلق الزبيري يحارب الظلم في اليمن ويحاول أن يجتث أركانه ويقتلع جذوره .

تطلع الزبيري إلى اليمن فرأى وطناً متأخراً مغرقاً في التأخر ، ورأى شعباً فقيراً غارقاً في الفقر، ورأى أمة بائسة اجتمع عليها الجهل والمرض ففتكا بها وتركاها حطاماً ، ,نظر الشاعر إلى حكام اليمن فوجدهم حلفاء لهذه الآفات ، فهم بدلاً من أن يعملوا على تخليص الشعب من فقره قاموا بإرهاقه وسلبه ، وهم بدلاً من أن يفتحوا للشعب مصحات تخلصه من أمراضه فتحوا له سجونا تزيد في بلواه وأحزانه ، وهم بدلاً من أن يفتحوا للشعب دوراً للعلم تنشله من جهله وترفعه من حضيض تأخره فتحوا له أبواباً للموت ورفعوا له أعواد المشانق .

وقف الزبيري أمام هذه الحقائق المفجعة فأذهلته ، وأخذته الدهشة لهذا المصير الذي آل إليه شعب عريق و أمة تدين بدين الحرية والعدل والمساواة ، فقال :

ماذا دهى قحطان ؟ في لحظاتهم
جهل وأمراض وظلم فادح

 

بؤس ، وفي كلماتهم آلام
ومخافة ومجاعة وإمام !!

وفي محاولة لتتبع الداء ليرى ما أصله ، وما الذي أوقع هذا الشعب في كل هذه الآفات ، عرف أن سبب كل ما أصيب به هذا الشعب هو حكامه الظالمون ، فلو كان هؤلاء الحكام في خدمة الشعب وفي رعايته لما أصابه ما أصابه من فقر وجهل ومرض وبؤس ، ولكن هؤلاء الحاكمين أذهلوا الشعب عن نفسه بظلمهم ، وملؤوا حياته رعباً وخوفاً :

وزعت روحه على الأرض يرتا
فإذا بالحياة شنعاء فيها

 

ع اليمانون منه حيث أقاموا
كل شخص وكل شيء إمام !

لم يستطع الزبيري أن يسكت أمام ما رأى ، فقرر أن يكون مع هذا الشعب المسكين ، وقرر أن يكون صوته العالي ونبضه الحي إلى أن ينال حريته ويتخلص من ظالميه ..

ولكنه عندما بحث عن البداية التي يستطيع أن يبدأ بها جهاده وجد أن أي عمل سيذهب هباء وسدى إذا لم تكن بدايته إيقاظ هذا الشعب من الخدر الذي حقنه به حكامه حتى يظل مستسلماً مطيعاً ..

لقد استطاع هؤلاء الحكام أن يقنعوا الشعب أنهم القادة السادة ، لا تستقيم الأمور إلا بهم، وأن ولايتهم للأمور إلهية مقدسة لا يجوز مناقشتها ، وحرام وإثم أن يقدم أحد على انتقادها.

كانت الخطوة الأولى هي إقناع هذا الشعب بأن هذه المزاعم باطلة ، وأن هؤلاء الحكام بشر من البشر ، ليس لهم من الحقوق إلا بقدر ما يقدمون من الواجبات ، أما إذا لم يقدموا ذلك وسلكوا طريق الظلم والجور فإن ديننا العظيم يأبى لنا الدنية ويرفض لنا الخضوع للظالمين :

ليس في الدين أن نقيم على الضيم
ليس في الدين أن نؤله طغياناً
ليس في الدين أن نقدس جلاداً
لعن الله كل ظلم وجور

 

ونحني جباهنا للدنيه
ونحنو للسلطة البربريه
ويمناه من دمانا رويه
لعنة في كتابه سرمديه

إن الاستسلام الذي أعطاه شعب اليمن لحاكميه أغراهم بالتمادي حتى أنهم ادعوا أن فيهم روحاً إلهية وقاموا بتمثيليات أمام الشعب لإثبات هذه الدعوى ، فانطلى الأمر على السذج والبسطاء من الناس ، وهكذا كانت غالبية الشعب اليمني ، فصدقوا ، وحنوا رؤوسهم لظالميهم وانقادوا لهم ، وتركوا لهم الأمر كله !

أي وضع هذا الذي واجه الشاعر ، وأي منطق يمكن أن يعيد لهذا الشعب وعيه ؟ وأي وسيلة يمكن اتباعها لإثبات بطلان هذا الادعاء المنحرف ؟

حقاً إنها مهمة صعبة ، شديدة الصعوبة ، ولكنها واجبة المواجهة ، وحتمية المعالجة ، لقد عالجها الزبيري في عدة مواطن من شعره بهذا الأسلوب :

ولنسلم بأنه كل شيء
غير أنا نراه يمرض كالناس
ونحس المنون  تدنو إليه

 

ولنقل : إنه إله تجسد
ويحيا حياة من لا يخلد
ونراه ينهار منها وينهدّ

ثم راح الزبيري يصف ما يعانيه الشعب من ظلم ، يستنهض بذلك ذوي الهمم ، لقد أصبح الشعب بين خائف يرتعد من مجرد التفكير بالمصير الرهيب الذي ينتظره إذا تفوه بكلمة أو بدرت منه إشارة ، وبين سجين أدمى القيد رجليه وشل الحديد ساعديه ، لقد حرم الظالمون على الناس الاجتماعات وحظروا عليهم المناقشات ، وحجبوا عنهم أنوار العلم ، وأوقعوا بينهم العداوة والبغضاء ، حتى لم يعد الرجل يثق بأخيه أو أمه وأبيه :

والناس بين مكبل ، في رجله
أو خائف ، لم يدر ما ينتابه
والاجتماع جريمة أزلية
والمرء يهرب من أبيه وأمه

 

قيد ، وفي فمه البليغ لجام
منهم ، أسجن الدهر أم إعدام
والعلم إثم ، والكلام حرام
وكأن وصلهما له إجرام !

ويصور الزبيري حال أولئك الذين تجرؤوا على نقد الحكام أو التفوه بما لا يرضيهم ، فهم يساقون إلى مصيرهم المظلم في السجون الرعيبة وإلى أعواد المشانق ، وهم يساقون إلى ذلك المصير بأيدي زبانية جفاة غلاظ رضوا أن يكونوا أعواناً للظالم المستبد ، هؤلاء الجنود الزبانية من ذلك النوع الذي يباهي بما يقترفه من آثام ومخاز ، وهم لئام ساقطو المروءة لا يتورعون عن سلب المعتقلين طعامهم البسيط الذي أرسل إليهم ...

لقد كان للمآسي التي ارتكبها العسكر في حق أحرار اليمن ومجاهديه انعكاس مؤلم على نفسية الزبيري ، حتى أنه فقد الثقة بكل عسكري ، وصب جام غضبه على جميع أفراد هذه الفئة، فوصفها بالبلادة والغباء ، ونعتها بمجانبة الفطنة ، اللهم إلا في أمور الدس والوقيعة والتعذيب والأذى ، وهم طغاة عتاة رباهم إبليس في مدرسته وشكلهم بيديه كما أراد :

سيقوا جياعاً ، ولم يسمح معذبهم
وسار من خلفهم جند زبانية
يستمنحون من الأسرى مآكلهم
والعسكري بليد ، بالأذى فطن

 

أن يستعدوا بزاد يوم بلواه
إذا أتوا خزية من أمرهم تاهوا
يا لؤم من راح يستجدي ضحاياه
كأن إبليس للطغيان رباه

لقد جعل الطغاة كل شيء في البلاد حقاً لهم يتصرفون فيه كما يشاء لهم هواهم ، فهم يسلبون ثروات الشعب وخيراته وينفقونها على أنفسهم وعلى ذويهم ، ولا يلين قلوبهم مرأى الشعب الذي يتضور جوعاً ، بل يلذهم أن يروا هذا الشعب وهو يتلوى ألماً ، ويفرحهم أن يروا سياط العذاب تلهب ظهور الأحرار من أبنائه ، وهم يرون كل هذا حقاً لهم ويعتبرونه تأديباً لرعيتهم ، أما إذا طالب الشعب بحق من حقوقه فإنه مخطئ ويجب أن يعاقب ، وإذا احتج على ما ينزل به من ظلم فهو مجرم يجب أن يؤدب :

يمتص ثروة شعبه ويميته
طعناته قدسية نزلت بها
عمل الورى في رأيه كفر ، وما

 

جوعاً ، ليسمن آله الأعلام
البركات والآيات والأحكام
يأتيه فهو شريعة ونظام

وهذا الحاكم الظالم صاحب أفانين في جمع المال ، ولكنها أفانين المتسولين وليست أفانين العاملين المجدين ، فبالرغم من وفور الكنوز والثروات في أرض بلاده إلا أنه لا يحمل بين جنبيه همة عالية تدعوه ليكتشف هذه الكنوز ويستخرج هذه الثروات ، بل تراه يذهب إلى الدول الغنية فيستجديها المال باسم شعبه الفقير البائس ، حتى إذا حصل على الهبات والصدقات والتبرعات بادر إلى إيداعها في المصارف لتزداد أرصدته تضخماً وتفجر حساباته تخمة!

يتباكى تسولاً باسم شعب
يجمع المال للجياع ، فلا يشبع ..

 

أرضه بالكنوز ملأى غنية
إلا الخزائن المصرفية !

وهكذا بعد أن نبه الزبيري شعبه على حقيقة هؤلاء الظالمين ، وبعد أن أطلعهم على مخازيهم، انتقل إلى المرحلة التالية ، وأخذ يحث الشعب على الثورة ، ويبين للناس طريقها ، ويقرع القاعدين عن الجهاد ... يقول الزبيري لشعبه : إنكم صبرتم على ظالميكم ثلث قرن فما زادهم صبركم إلا تمادياً ، وما زادهم سكوتكم إلا عسفاً وظلماً ، وإن صبركم وسكوتكم يهيء للظالم حالة نفسية خاصة تجعله يظن أنه محق في ظلمكم وأنكم إذا انتقدتم هذا الظلم فأنتم المخطئون ، فارفعوا أصواتكم بالاحتجاج والانتقاد حتى يعرف أنكم لا تقرونه على ظلمه ، وتحركوا بالثورة عليه حتى يعلم أنه يحكم شعباً حياً لا يبيت على ظلم أبداً :

ولقد صبرتم ثلث قرن ، لم يصن
لن يبرح الطغيان ذئباً ضارياً
فتكلموا كيما يصدق أنكم
وتحركوا كي لا يظن بأنكم

 

أعراضكم صبر ولا استسلام
مادام يعرف أنكم أغنام
بشر ، ويشعر أنه ظلام
موتى ، ويحسب أنكم أصنام

ثم يحاول أن ينزع من قلوب الناس هذه الخشية التي استقرت فيها من أولئك الظالمين ، فيؤكد لهم أن هذه السيوف التي يضرب بها الظلمة تبدو قوية فقط حين لا تجد المقاومة ، ولكنها في حقيقتها سيوف ضعيفة كليلة إذا وجدت من يتصدى لها ويقاومها ، وهذا الحاكم المتفرد بالحكم الذي تنقادون له طائعين ليس جديراً بطاعتكم لأنه في حقيقته لا يستحق أن يكون راعياً للسوائم ، لقد قدمنا له مالنا وأنفسنا ، فكان جزاؤنا على ذلك أن اتهمنا بالخيانة ، ولقد بنينا له القصور بعرقنا وجهدنا فكانت مكافأته لنا بناء السجون والمعتقلات :

نخشى سيوف الظلم وهي كليلة
ونذل أمتنا لفرد واحد
نسدي له أموالنا ونفوسنا
نبني له عرشاً يسود ، فيبتني

 

ونقدس الأصنام وهي حطام
لا تستقاد لمثله الأنعام
ويرى بأنا خائنون لئام
سجناً نهان بظله ونضام

ويتنبه حكام اليمن لهذا الشاعر الذي يحرض الشعب ضدهم ، ويحسون بتأثيره في الشعب ، فيلجؤون إلى الطريقة الأبدية لدفن المجاهدين وهم أحياء ، فيحاولون استمالته بالمال والمناصب ، ولكن الشاعر ينجو من هذا الفخ، ويزدري كل ما عرض عليه ، ويعلن لهؤلاء الظالمين بأن الشعب بأسماله البالية خير عنده ألف مرة من أصحاب التيجان ، وأن هذا الثوب البالي الذي يكسو جسد واحد من الشعب خير من ألف تاج من هذه التي تكسو رؤوس الظالمين :

منحونا الدنيا لكي ننبذ الشعب
لو يبيعون ألف تاج بأسمال ..

 

ونغضي عن ظلمهم فأبينا
فقير من شعبنا ما شرينا

وتحاول فئة من المنتفعين بفتات الظالمين أن تثير الشعب ضد الزبيري وأحرار اليمن المجاهدين، فهم عندما رأوا إقبال الشعب على دعوتهم للتحرر واستماعهم إلى شعرهم وخطبهم حسدوهم ، وظنوا أنهم أحق بإقبال الشعب، فهم أصحاب ثراء وذوو سلطة من المقربين من السلطان، وأولئك المجاهدون لا يملكون مالاً ولا جاهاً ولا سلطاناً ، فكيف يكون الشعب في صفهم ؟

إن هذا هو منطق أولياء الشيطان دائماً ، ولم يعلموا أن الشعب يقبل على من يجد عنده البرء من الداء ، ويلتف حول من يأمل أن يجد عنده الخلاص من البلاء :

أيها الكارهون أن يقبل الشعب
عرفتنا آهاته ومآسيه
سقمه يعرف العلاج بأيدينا
الأسارى في ظلمة السجن لا ير
والضحايا في قبضة الرعب يلقون ...
والجياع الغرثى تحن إلى ما
أي ذنب لنا إذا عرف الشعب

 

علينا ، بالله ماذا جنينا ؟
فنؤنا بنارها واصطلينا
ويدري بوعيه كم شفينا
جون نور الصباح إلا لدينا
العزاء الغالي بما ضحينا
قد غرسنا لأجلها وسقينا
لنا أننا له قد وفينا

وتتكرر المحاولات لإسكات الزبيري واستمالته ، فيرد على هذه المحاولات بحزم وعزم ، مؤكداً أنه يربأ بنفسه أن يكون عبداً في ديوان طاغية يذيق الشعب الظلم وينزل به البلاء ، وأنه لا يرضى لنفسه أن يكون في غير الجانب الذي فيه شعبه :

كفرت بعهد الطغاة البغاة
وأكبرت نفسي عن أن أكون
وعن أن يراني شعبي الذي

 

وما زخرفوه وما زيفوه
عبداً لطاغية توّجوه
يعذب ، عوناً لمن عذبوه

وتثمر صيحات الزبيري ، ويتململ الشعب لأول مرة ، فيطير الشاعر فرحاً بهذه البوادر التي تنبئ بالثورة ، ويعلن أن أولئك الذين حرموا الشعب من كل حق من حقوقه حتى أن لقمة الخبز وشربة الماء لا يستطيع الحصول عليها إلا بحد السيف ، هؤلاء الطغاة بدؤوا يحصدون ما زرعوا ، فمن يزرع ظلماً وقهراً لا يحصد إلا الثورة العارمة، فلا عجب إذن أن يلعن شعب اليمن ظالميه ويثور عليهم :

الملايين العطاش المشرئبَّة
سامها الحرمان دهراً ، لا يرى
لم تنل جرعة ماء دون أن
ظمئت في قيده وهي ترى
ها هو الشعب صحا من خطبه

 

بدأت تقتلع الطاغي وصحبه
الغيث إلا غيثه ، والسحب سحبه
تتقاضاه بحرب أو بغضبة
أكله من دمها الغالي وشربه
بينما الطغيان يستقبل خطبه

ويفزع الظلامون من تحرك الشعب ، فيلوذون بالأجنبي ، ويستمدونه العون على شعبهم ، ويذهب طاغية اليمن إلى إيطاليا ليشتري السلاح لمقاومة هذا الشعب الثائر ، فيستقبله الزبيري بسخرية لاذعة موجهاً حديثه لشعبه :

أنتم في استقبال موكب جزار
صديت مدية الإمام فاستمنح ...
أنهك الذبح سيفه فأتانا

 

فمدوا رقابكم للتحية
إيطاليا مدى بابوية
بسيوف معارة أجنبية

وبدلاً من أن تكون هذه التحركات الشعبية درساً للطاغية فيتدارك الأمر ويصل ما انقطع من حبال مع شعبه ، أثارت فيه روح الحقد ، وفجرت في أعماقه براكين القسوة ، فأطلق يد أعوانه لتملأ البلاد جوراً وتعيث فيها فساداً وتسوم الناس ظلماً وقهراً ، ويتمادى في عقابه فيأخذ الناس بالشبهة ويحكم عليهم بالظنة ، فتتطاير الرؤوس عن أجسادها ، ويحشر الناس في السجون ، ومع ذلك فإن الزبيري يرى أن هذا دليل على ضعف الإمام وإنذار بانهيار حكمه ، فيقول :

ليس قطع الرؤوس مطفئ نار
وسجون الإرهاب والبطش والرق

 

من جنون تحت الرماد خبيُّه
عقاقير باليات غبيه

ويستمر الشاعر في مقاومته ، ويعود إلى الظالم المستبد فيعلن أنه صورة مجسمة للظلم ، وأن هذه الصورة إنما هي مزيج مركب من ظلم نيرون الغرب وحجاج الشرق ، وهما أبشع الظالمين :

روح نيرون مازجت روح حجاج

 

فجاءت أعجوبة في البليَّة

ولما كان من أخص صفات الظالمين أنهم لا يتعلمون من الأحداث ، ولا يستطيعون أن يبصروا الحقائق المستجدة، فإن الزبيري يحاول أن يهز الإمام الظالم بهذه الحقائق الجديدة عن شعب اليمن ، فلم يعد ذلك الشعب المستكين المتخاذل ، بل نفض عن نفسه غبار المسكنة ، وخلع عن جسمه ثوب التخاذل ، وكشر للظالم عن أنيابه وزأر في وجهه ، ولم يبق إلا أن ينقض عليه ويفترسه :

ألم تخش من أمة أصبحت
وتزأر غضبى زئير الأسود
ستلقى مغبة ما قد صنعت

 

إليك تكشير من نابها
وأنت الملوم بإغضابها
وتجني المخالب من غابها

وهكذا فإن ساعة الخلاص قد دنت ، ولحظة النصر قد اقتربت ، فالعذاب الذي أنزله الظالمون بالشعب أزهر ثباتاً وأثمر مقاومة ، والقيود التي قيد بها الأحرار تحولت إلى سهام وارتدت إلى نحور الظالمين ، والأنين الذي انبعث من صدور المعذبين غدا صيحات تنادي بالثأر والانتقام فجهاد المجاهدين لا تبليه الأيام ولا تذهب به الليالي، بل يشب ويشتد حتى يقضي على الطغاة والمتجبرين :

إن القيود التي كانت على قدمي
إن الأنين الذي كنا نردده
والحق يبدأ في آهات مكتئب
جودوا بأنفسكم للحق واتحدوا

 

صارت سهاماً من السجان تنتقم
سراً ، غدا صيحة تصغي لها الأمم
وينتهي بزئير ملؤه نقم
في حزبه وثقوا بالله واعتصموا

واستطاع الزبيري أن ينتقل إلى مرحلة جديدة من الجهاد عندما استطاع أن يفلت من سجون الطغاة ثم يخرج من اليمن إلى عدن ثم إلى باكستان فمصر ، فأسمع العالم كله بقصيده صوت المجاهدين في اليمن ، وعندما وصل إلى عدن أطلق قصيدته التي أصبحت أغنية الشعب اليمني ورمز كفاحه وجهاده :

خرجنا من السجن شم الأنوف
نمر على شفرات السيوف
ونأبى الحياة إذا دنست

 

كما تخرج الأسد من غابها
ونأتي المنيَّة من بابها
بعسف الطغاة وإرهابها

وعندما بدأ أحرار اليمن العمل الجدي في الخارج ونظموا أنفسهم باتحاد واحد في وجه الطاغية سجل الزبيري هذا الحديث بقصيدة أحدثت دوياً في اليمن ، وامتد صداها إلى أقطار العالم العربي :

سجِّل مكانك في التاريخ يا قلم
هنا القلوب الأبيَّات التي اتحدت
هنا الشريعة من مشكاتها لمعت

 

فههنا تبعث الأجيال والأمم
هنا الحنان هنا القربى هنا الرحم
هنا العدالة والأخلاق والشيم

وهكذا بدأ عرش الطاغية في الاهتزاز ، وبدت بوادر النهاية في الاقتراب ، لقد رأى الزبيري بنور قلبه ذهاب الظالم وانقضاء أيامه ، وامتزجت تلك الرؤيا باليقين الروحي ، فأعلن ما رآه قريباً كأنه واقع حاضر محقق :

لم يبق للظالمين اليوم من وزر
إنّ اللصوص وإن كانوا جبابرة

 

إلا أنوف ذليلات ستنحطم
لهم قلوب من الأطفال تنهزم

ويكلل جهاد الشعب اليمني بالنجاح ، ويستطيع أن يقضي على حكم الإمامة الحميدية ، ولكن هذا النجاح العظيم الذي تحقق بالسواعد المخلصة وبالجهود المؤمنة لم يستمتع به الشعب ، بل غافل المخلصين وهم في نشوتهم من هو أشد ظلماً من آل حميد الدين وأقسى قلباً من أعوانهم، فأعاد كابوس الظلم مرة أخرى حتى إن قسماً من الشعب انحاز للظالم السابق عندما رأى الظالم الحالي ...

وثارت الحرب الأهلية ..

وحاول الزبيري أن يصلح ما أفسده المفسدون ، وحاول أن ينصح العابثين ، وذكرهم بمصير من قبلهم ، ولكنهم لم يستمعوا ولم يرعووا ، فأعلن الجهاد مرة أخرى ، ونادى بالناس لكي يتابعوه فاستجابوا له ، وتجمعوا حوله في "حزب الله" ، وأعلن الزبيري في آخر قصيدة له أن الظلم القديم قد تجدد ، وأن الظلم الجديد أقسى من سابقه وأمر ، وأعلن أنه مصمم على مقاومته حتى ينتهي ويزول.

كفى خداعاً فعين الشعب صاحية
وأنتم عودة للأمس، قد قبر الطغاة
وأنتم طبعة للظلم ثانية
إن شئتمو فاقتلوا من ليس يعجبكم
وحرِّقونا بغاز كلما اجتمع الأحرار
أوراقكم لشراء الشعب تذكرنا
أتنكرون عليهم بيع جنتهم

 

والناس قد سئموا الرؤيا وقد يئسوا
فيكم ، وعادوا بعدما اندرسوا
تداركت كل ما قد أهملوا ونسوا
أو من ترون لهم في قربكم دنس
أو فكروا في الرشد أو حدسوا
ما باعه قسس بالصك واختلسوا
يا قوم لا تخدعونا كلكم قسس

وفزع الطغاة من شعر الزبيري ، فهم يعلمون أن شعره هو الذي زلزل الطغاة السابقين ، فسارعوا لإسكات هذا الصوت الحر ، فأفرغوا في جسده رصاصات حاقدة ..

وسقط الزبيري شهيداً ، وبقي صوته الذي قارع الظلم فهزمه مرتين -بالنصر وبالشهادة-، بقي هذا الصوت حياً يسمعه كل من ناصر الحق وأنكر الظلم وحارب الظالمين :

لم نكن غير دعاة بينكم

 

صرخوا فيكم ، فهل من مزدجر ؟

              

    * مجلة "الأمان" اللبنانية ،أ لعدد 74 ، 21 شعبان 1400هـ الموافق 4 تموز 1980م .