معايير النقد الأدبي عند قدماء العرب

رياض الاقاحى

[email protected]

إن الشعر العذب الذي يبعث المسرة فى النفوس، ويحدث النشوة فى المشاعر، لا يبرأ من النقد رغم متناته وإحكام صنعته لأن النقد يبتغي النضج وينشد الكمال، فالناقد الذي يدفع عن الشاعر معرة الإبتذال وعن شعره نقيصة الإسفاف أو التكلف يجلو الأفهام ويذكى القلوب ويبصر الناس بالمحاسن والعيوب التى حفل بها القريض. والنقد الذي يدمغ باطل الشعر بالحق ويدحض مراءه بالمنطق مرّ بعدة مراحل قبل أن يهذبه العلم ويصقله التمدن. و لعل الحقيقة التى لا يغالى فيها أحد أنّ الأدباء والكُتّاب على مرّ العصور قد إستقرّ رأيهم على أن النقد كان فى بدايته قوامه الذوق الفطري فالجاهلى المتمكن من ناصية اللغة و الذي ينداح فى كل ضرب ويستفيض فى كل حديث يستطيع أن يمحص بقريحته الجياشة مواطن الضعف والقوة ثم يصدر حكمه من غير حزازة أو اعتساف، ومن أهم المظاهر التي تبرهن أن الجاهليين أصلحوا ما فسد من خطل الشعراء وسددوا ما إعوج من نظام الأدباء القصص المترعة بالجمال التى نقلتها إلينا أمهات الكتب والتي تدل على قوة الطبع، وجلاء الذهن، وحدة البادرة.

 لقد أخبرتنا تلك الكتب التي لا تخلق ديباجتها أو يخبو بريقها عن تلك المجالس النقدية التي لا تحول عن أدائها عقبة، ولا يسوغ فى تركها معذرة، والتى  كان يعقدها الشعراء فى الأسواق الأدبية كسوق عكاظ، وفي غير الأسواق الأدبية مثل تلاقى جهابذة الشعر بأفنية الملول فى الحيرة وغسان، والباعث على ذلك هو الإستماع والتحاور وإصدار الأحكام، من ذلك ما نجده عند النابغة صاحب السمت الرزين والمنطق المتئد في سوق عكاظ فقد كانت "تضرب له قبة حمراء من أدم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، فأول من أنشده الأعشى ميمون بن قيس أبوبصير، ثم أنشده حسان بن ثابت الأنصارى:

لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى *** وأسيافنا يقطرن من نجدة دماً.

ولدنا نابنى العنقاء وابنى محـرّق *** فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا ابناً.

 فقال له النابغة: أنت شاعر، ولكنك ما صنعت شيئاً، أقللت جفانك وأسيافك، وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك. لأنه قال: ولدنا بنى العنقاء وابنى محرق، فترك الفخر بآبائه، وفخر بمن ولد نساؤه. ويروى أن النابغة قال له: أقللت أسيافك ولمّعت جفانك يريد قوله: "لنا الجفنات الغر" والغرة لمعة بياض فى الجفنة، فكأن النابغة عاب هذه الجفان وذهب إلى أنه لو قال: لنا الجفنات البيض فجعلها بيضاً كان أحسن".[1]

ويقال بأن تماضر الخنساء صاحبة القصائد الجياد و التي يتدفق شعرها رقة وسلاسة حضرت إلى مجلس النابغة حائلة اللون، كاسفة البال، ترثى أخاها صخراً الذى أضمرته الأرض وطوته الغبراء، فأنشدت قصيدتها:"قذى بعنيك أم بالعين عوار"، حتى وصلت إلى قولها:

وإن ضخراً لتأتم الهداةُ به *** كأنه علم فى رأسـه نـار.

وإن صخراً لكافينا وسيدنا*** وإن صخراً إذا نشتو لنحّار.

فقال النابغة بعد أن استمع لقصيدتها التي تستدر العيون وتذيب شغاف الأفئدة: لولا أنّ أبا بصير أنشدنى قبلك لقلت إنك أشعر الناس، فلم يروق ذلك لحسان رضى الله عنه فقال: أنا أشعر منك ومنها.فقال النابغة:حيث تقول؟قال:حيث أقول:"لنا الجفنات يلمعن بالضحى...." فيقر له النابغة بالشاعرية ثم يصدر حكمه الذي أصاب شاكلة الصواب.[2]

ونجد أن الناقد الراحل الأستاذ طه أحمد ابراهيم يطعن فى صحة هذه الرواية من عدة وجوه:

1- فالجاهلي "لم يكن يعرف جمع التصحيح وجمع التكسير، وجموع الكثرة وجموع القلة، ولم يكن له ذهن علمي يفرق بين الأشياء كما فرّق بينها ذهن الخليل وسيبويه، ومثل هذا النقد لا يصدر إلا عن رجل عرف مصطلحات العلوم، وعرف الفروق البعيدة بين دلالة الألفاظ، وألمّ بشئ من المنطق.

2- لو أن هذه الروح كانت سائدة في الجاهلية لوجدنا أثرها في عصر البعثة يوم تحدى القرآن العرب وأفحهم إفحاما، فقد لجأوا إلى الطعن عليه طعناً عاماً، فقالوا سحر مفترى، وقالوا أساطير الأولين. ولو أن لديهم تلك الروح البيانية لكان من المنتظر أن ينقدوا القرآن على نحوها، وأن يفزعوا إليها في تلك الخصومة العنيفة التي ظلت نيفاً وعشرين عاماً. هذا إلى أن تلك الروح فى النقد لا أثر لها في العصر الإسلامي لا عند الأدباء ولا عند متقدمي النحويين واللغويين.

3- كما أن هناك من نحاة القرن الرابع من لم يطمئن إلى ما سبق؛ فأبوالفتح عثمان بن جني يحكي عن أبي علي الفارسي أنه طعن في صحة هذه الحكاية. فهذه الزيادات لا تثبت للروح العلمية، ولا للتاريخ. وبعيد كل البعد أن توجد ملكة الفكر في النقد الجاهلي، وأن توجد على هذا النحو الدقيق الذي يحلل، ويوازن ويفرق بين الصيغ تفريقاً علمياً.

ويرى الأستاذ طه أن هذا النقد وجد في أواخر القرن الثالث بعد أن دونت العلوم ودرس المنطق وعرف شئ من رسوم البلاغة، وتعرض البلاغيون للكلام على الغلو في المعاني والاقتصاد فيها. ولذلك نجد قدامة بن جعفر أسبق المؤلفين لذكر شئ من القصة السابقة فى كتابه نقد الشعر".[3]

وأحسب أن ما ذهب إليه الأستاذ طه أحمد ابراهيم افتئات على الحقائق وتعدياً على سيرة الجاهليين فكلامه معتسف عن جادة الصواب، وبعيد عن مرمى السداد، لأن الجاهليين نشأوا فى مهد الفصاحة، ودرجوا فى فنائها الرحب، وعاشوا فى مرعاها الخصب، فالبدوى الذى تنزه كلامه عن شوائب اللبس، وخلص من أكدار الشبهات، كان يدرك بسليقته الخطأ الذي تمجه الأسماع، واللحن الذي تستك منه الآذان، نعم لقد كان يدرك بفطرته  التي لم تكن ضعيفة المغمز، ولا هشة الحشاشة جمع التصحيح وجمع التكسير، وجموع الكثرة وجموع القلة، دون الحاجة لذهن علمي يفرق بين الأشياء، ودون الحاجة لتسميتها ونعتها بتلك النعوت التي دعت إليها تفشي الدخيل في اللسان العربي وظهور آصار العجمة التي استشرت في شبه جزيرة العرب نسبة لأقوام خلعوا عِذَار الكفر، واستشعروا الخوف من الله ودخلوا فى دينه الخاتم أفواجا، وما لا يند عن ذهن أو يغيب عن خاطر أن الخليل وسيبويه وغيرهم من فطاحلة اللغة والأدب عاشوا كلاً على القدماء الذين ذللوا سُبُل البلاغة، ومهدوا مذاهب الخطابة وكانت لهم قدرة مذهلة على تطويع اللغة وابتكار المعاني ونظم اللألى والعقود، الأمر الذي دعا أصحاب العقل الراجح، والفكر القادح، كالخليل وسيبويه يتكاكأون حول تركة القدماء بالدراسة والتحصيل ليستخرجوا تلك الفروق الدقيقة بين الألفاظ ليسدوا بها عوز أجيال تفتقر إلى الفصاحة وتعاني من ضعف الإدراك وضمور المعرفة باللغة، فالنحوي الثبت سيبويه الذي يُرْجع إليه في المُشكلات، و يُسْتْصبح بضوئه في المعضلات، هو في حقيقة الأمر من المولدين الذين"كان بهم قصور فى الطبع واللغة اضطروا بسببه إلى التعلم، والوقوف على الوسائل التي تؤدى بهم إلى صنعة الكلام الجيد الذي يوازي كلام السابقين، ولقد سعت تلك الطائفة لتتبع نماذج الخطابة والشعر والأمثال القديمة ليستخرجوا منها القواعد والمقاييس ثم يضعوها بعد ذلك أمام ناشئة الكتاب ليحتذوا حذوها".[4]

والعرب الأقحاح الذين اشتهروا بدقة الفهم، وشدة الحجاج، وبعد النظر، وقفوا مبهوتين أمام معجزة الله الخالدة بل وأقروا في خنوع واستسلام بأنه:" كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، أن له لحلاوة، وأن عليه لطلاوة، وأن أعلاه لمثمر، وأن أسفله لمغدق، وأنه يعلو ولا يعلي عليه".[5] فإذا عجز أساطين البلاغة وملوك البيان الذين انبروا في حملات محمومة تشكك في صحة القرآن فإن سواهم أعجز، ولا يعدم المرء منا حجة للإعتقاد بإن المتأخرين الذين لا ينطقون إلا عن علم، ولا يقولون إلا عن دراية، والذين ثقفوا علوم الكلام، وحذقوا أصول المنطق، استشعروا اليأس من النيل من ذلك الكتاب المحكم النسج، الدقيق السبك، الجزل العبارة، المتناسق الأجزاء، والذى يأخذه بعضه برقاب بعض، وأدركوا أنهم يرومون أمراً دونه خرط القتاد.

 لقد عجزت قريش وخلفها العرب قاطبة أن تجد ثغرة تغمز بها قناة الدين، رغم أن الدين الخاتم وكتابه الملهم فى دياجير الأخطاء نظمت حروفه وألفاظه من تلك تلك اللغة التى استقامت لهم وجرت على ألسنتهم ولكن فى تراكيب لم يألوفوها وأساليب لم يعهدوها، رغم أن العرب هم من شيدوا دعائم هذه اللغة وبنوا قصرها المنيف الذي سطع نوره وضياؤه، وأشرق حسنه وبهاؤه، ذلك القصر الذي كان لقريش القدح المعلي فى بناءه فلقد تغلبت لهجة قريش على سائر لهجات العرب الأخرى وأضحت تلك اللهجة هي لغة الشعر التي يتحدث بها فحول الشعراء من جميع القبائل، لأن العرب كانت تشد الرحال إلي مكة وتضرب إليها أكباد الإبل، مكة معقل القريشين التي تنتشر بين طيات جبالها الشامخة وأراضيها الجرداء مضارب القوم الذين انحدر من إثلتهم خير من وطئت أقدامه الثرى ، يفد إليها الأعراب من كل صقع وواد لممارسة شعائرهم الدينية الباطلة أو لتحكيم بهاليل قريش وسادتها فى النزاعات أو لإبرام المعاهدات، أو لدفع الإتاوات لسدنة البيت، وفي ذلك يقول حماد الراوية:" إن العرب كانت تعرض شعرها على قريش، فما قبلوه منها كان مقبولاً، وما ردوه منها كان مردوداً؛ فقدم عليهم علقمة بن عبده فأنشدهم قصيدته التي يقول فيها:

هل ما علمت وما استودعت مكتوم؟.

فقالوا هذه سمط الدهر، ثم عاد إليهم العام المقبل فأنشدهم

طحا بك قلب فى الحسان طروب *** بُعيد الشباب عصر حان مشيب.

فقالوا:هاتان سمطا الدهر".[6]

الشئ الآخر أن هناك يقيناً راسخاً لا يشوبه شك، ولا تخالطه ريبة، أن  المعالم الأولى للنقد تكاد تكون مجهولة لأن النقد مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالشعر، فإذا كنا لا نلم بميلاد الشعر ترتب على ذلك جهلنا بانطلاقة النقد الأدبي، و"إذا كنا لا نعرف الشعر العربي إلا متقناً محكماً قبيل الإسلام، فإننا لا نعرف النقد إلا في ذلك العهد".[7]  إن الشعر الذي أتت بدايته على شاكلة أبيات من السجع يشنف بها الساجع آذان قومه، ثم تطور إلي الرجز الذي مرّ بضروب عديدة من التشذيب والتهذيب حتى أضحى في أواخر العصر الجاهلي لوحة موشاة تضج آلقاً وضياءاً حتماً صاحبته ملاحظات ساذجة فى كنهها يلتقطها المستمع فى يسر ويقولها دون تعقيد، ويبديها لصاحب الشعر عساه أن يزيل الواغش من شعره ويبتغي به جانب الكمال، هذه الملاحظات كانت بمثابة النواة الأولي للنقد، ثم نمت وترعرعت فى كنف الشعر حتى بلغت الغاية القصوى من المتانة والإحكام في أواخر العصر الجاهلي الذي عاش فيه رجال من ذوي البصائر النافذة، والأحلام الجزلة، كالنابغة الذبياني، والنعمان بن المنذر الذي أبدي اعتراضه على بيت مدحه به النابغة، فقد روي أن النابغة الذبياني قال للنعمان بن المنذر:

تراك الأرضُ إما مِتُ خِفّاً *** وتحيا إنْ حييت بها ثقيلا.

فقال النعمان:"هذا بيت إن أنت لم تتبعه بما يوضح معناه كان إلي الهجاء أقرب منه إلي المديح. فأراد ذلك النابغة فاستعصى عليه، وأسقط النابغة في يده حينما رأى أن شيطان الشعر أشاح بوجهه عنه، فطلب من النعمان أن يمهله فأمهله النعمان ليال ثلاث... ، فأتى النابغة زهير بن أبي سلمه فأخبره بما يقض مضجعه، فقال له زهير بعد أن أدخل عليه قبساً من نور التشجيع:دعنا نخرج إلي البرية فإن الشعر بري، فأتبعهم ابن لزهير يقال له كعب، فقال مخاطباً النابغة:يا عم اردفني، فصاح به أبوه متوعداً إياه، فألحّ كعب في الطلب وألحّ زهير بدوره في الرفض، فقال النابغة متضجراً:دع ابن أخي يكون معنا فأردفه، وطفقا يهيمان في البرية وكعب قابعاً خلف والده باسم الثغر، سعيداً لتلك الرحلة التي لم تكن تلوح في خاطره، والشاعرين الجليلين يجهدان قريحتهما ببيت يجلى عنهما غمرة من غمرات الكرب دون جدوى حتى قال كعب الصغير:فما يمنعك يا عم أن تقول:

وذاك بأن حلْلت العزّ منها *** فتمنع جانبيها أن يزولا.

فقال النابغة وقد تنفس الصعداء:جاء بها ورب الكعبة، لسنا والله في شئ. قد جعلت لك يا ابن أخي ما جعل النعمان لي...مائة من العصافير النجائب. فقال كعب:ما كنت لآخذ على شعري صفداً".[8] أي مقابلاً و عطاءاً.

 وطرفه بن العبد الذي عاب على المسيب بن علس نعته البعير بنعوت النياق، وذلك عندما سمع وهو حدث لم يبلغ بعد مبالغ الرجال "المسيب يقول في وصف جمله:

وقد أتناسي الهم عند احتضاره *** بناجً عليه الصّيْعرية مُكْدم.

فضحك منه وقال: استنوق الجمل.أي أصبح كالناقة يوصف بأوصافها، لأن الصّيْعرية صفة للنوق لا للفحول".[9]

وأم جندب التي تنازع زوجها امرئ القيس وعلقمة الفحل الشاعرية وحكّماها فقالت لهما:"قولا شعراً على روي واحد وقافية واحدة تصفان فيه الخيل، فأنشد امرؤ الخيل قصيدته التي مطلعها:"خليلي مرا بي على أم جندب" حتى قال في الخيل:

فللسوط ألهوب، وللساق درة *** وللزجر منه وقع أخرج مهذب.

وأنشد علقمة قصيدته"ذهبت من الهجران في كل مذهب" حتى قال في الخيل:

فأدركهن ثانياً من عنانه *** يمرُّ كمر الرائح المتحلب.

ولما فرغا قالت أم جندب: علقمة أشعر لأن فرسه كريم لا يحوج إلي الضرب، أما امرؤ القيس فقد أجهد فرسه وضربها بالسوط".[10]

وهناك بعض القصائد جيدة الحبك، مليحة الديباجة يركن إليها العرب ولا تنفك إلسنتهم ترددها بنغم وتجترها في سعادة مثل تلك القصيدة التي نظمها سويد بن أبي كاهل اليشكري والتي مطلعها:

بسطت رابعة الحبل لنا *** فوصلنا الحبل منها ما اتسع.

فسموها اليتيمة، لأن ليس لها أخت تنازعها الجمال وتضاهيها في حسن السبك، وطلاوة الألفاظ، وعذوبة الموسيقي.

وكذلك قصيدة حسان بن ثابت رضي الله عنه التي سموها البتارة والتي مطلعها:

لله درعصابة نادمتهم *** يوماً بخلق في الزمان الأول.

ودعوها البتارة التي بترت المدائح.

ومن ذلك النوع القصائد التي اضطرب ذكرها فى الأرجاء، والتي سميت بالمعلقات والسموط لأن العرب كانوا يجلونها ويحتفون بها ايما احتفاء

و"كثيراً ما كانت العرب تلقب الشعراء، وتلقب المدائح تنويهاً بها وإعظاماً لها، وإيماناً بأنها جيدة فريدة؛ لقبوا النمر بن تولب بالكيّس لحسن شعره، وسموا طفيل الغنوي طفيل الخيل لشدة وصفه إياها".[11]

ونستطيع على ضوء ما تقدم أن نحدد ثلاثة أنواع للنقد "تبرز واضحة في هذه الإتجاهات:

الأول عام يقسم الشعراء إلي مدارس رئسية كمدرستي الصنعة والطبع. والثاني خاص يفاضل بين الشعراء بالموازنة بين محاسن شعرهم وعيوبه. والثالث جزئي يتناول ألفاظاً أو معان بعينها ويبين نصيبها من الصحة والخطأ على حسب العرف اللغوي أو المألوف الاجتماعي".[12]

ولعل هذه الأمثلة والشواهد هي التي جعلت الراحل الأستاذ طه أحمد ابراهيم يقر بأنها تدل على وجود صور من صور النقد الأدبي في العصر الجاهلي رغم أنه نسب بعضها إلي القرن الثالث بعد أن دونت العلوم ودرس المنطق وعُرِفْ شئ من رسوم البلاغة، وهو القول الذي لم ينضجه بحث أو تصاحبه روية، فنجده يقول في سفره القيم:"على أن هناك ما لعله أعمق فى تلك الشواهد، وأبلغ في الدلالة على وجود هذا النقد.فقد نستطيع أن نقول أن الشعر في أواخر العصر الجاهلي كاد يكون فناً يدرس ويتلقي، وتوجد فيه مذاهب أدبية مختلفة".[13]

ونجد أن النقاد المعاصرين ينظرون بكل حيف وشطط إلي تلك اللوحات البديعة التي لا مساغ للشك بأنها لم تكن مجرد أحكام عامة غير معللة، أولمحات خاطفة أو خواطر بديهية ساذجة تنبع من ذوق بدائي، ولكنها كانت أحكاماً تصدر عن علم راسخ بالقريض، ومعرفة تامة بالروي، ولن ندرك حقيقة ذلك إلا إذا تخلينا عن انطباعنا المسبق، وأوغلنا في البحث، وأمعنا في التنقيب بهمة لا تلتفت إلي صخب  النقاد الذين يجردون الجاهليين من كل مكرمة وينزعوا عنهم كل فضل.

الطيب عبد الرازق النقر عبد الكريم

الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا

غومباك-كوالالمبور

              

[1] -الجردلى، عزالدين،مقال بعنوان:من معايير النقد الأدبى عند القدماء، من كتاب:فصول من البلاغة والنقد الأدبى، مجموعة مقالات للمؤلف مع آخرون (الكويت،مكتبة الفلاح،ط1،1403هـ/1982م) ص:188، 189. نقلاً عن العمدة لابن رشيق،ج1،ص:96.

[2] -انظر:المرجع السابق، بتصرف واسع .

[3] -ابراهيم،طه أحمد،تاريخ النقد الأدبي عند العرب (بيروت:دار الكتب العلمية،ط1،1405هـ/1985م) ص:24، 25.بتصرف يسير.

[4] -سلام،محمد زغلول،تاريخ النقد الأدبى والبلاغة (الإسكندرية:منشأة المعارف،د.ط،1977م) ص:18.بتصرف يسير.

[5] -القاضى عياض،إعجاز القران،ص:120-121.

[6] - ابراهيم،طه أحمد،تاريخ النقد الأدبي عند العرب ،ص:19.

[7] -المرجع نفسه،ص:18.

[8] -أنظر: الجردلى، عزالدين،مقال بعنوان:من معايير النقد الأدبى عند القدماء،ص:191، نقلاً عن الموشح للمرزاني ص:58. وقد تصرفت في رواية القصة تصرفاً اعتقد أنه لم يخرجها عن سياقها التاريخي.

[9] - الآمدى،أبوالقاسم الحسن بشر،الموازنة بين شعر ابى تمام والبحترى،ص:34.

[10] - الجردلى، عزالدين،مقال بعنوان:من معايير النقد الأدبى عند القدماء، من كتاب:فصول من البلاغة والنقد الأدبى، مجموعة مقالات للمؤلف مع آخرون،نقلاً عن الموازنة للآمدي ص:34.والشعر والشعراء لابن قتيبة ص:218،219.

[11] - ابراهيم،طه أحمد،تاريخ النقد الأدبي عند العرب ،ص:20.

[12] - الجردلى، عزالدين،مقال بعنوان:من معايير النقد الأدبى عند القدماء،ص:190.

[13] - ابراهيم،طه أحمد،تاريخ النقد الأدبي عند العرب ،ص:21.