محمد الحسناوي قاصاً
محمد الحسناوي |
نعيم الغول |
يعرفه الكثيرون ممن يتابعون الأدب الملتزم الجاد الرسالي. ويجهله من يحسبون أنهم امتلكوا حصة الأسد في الواجهات الثقافية العشائرية والنخبوية الفارغة القائمة على مبدأ "نفع واستنفع". هذا يعني أنه لا ينتمي إلى ثقافة الغثاء بل إلى ثقافة ما يمكث في الأرض. ولئن عرفنا به في عجالة فما هو إلا من قبيل التذكير لمن داخل ذاكرته وهن، وكثيراً ما تهن الذاكرة في زمن تجسد مطرقة تتلاحق طرقاتها حتى ما بات الواحد منا يدري علام أصبح وبم أمسى.
هو من مواليد مدينة "جسر الشغور" التي سماها تيمناً "بلد النوابغ" عام 1938. حصل على إجازة في اللغة العربية من جامعة دمشق وماجستير في الأدب العربي من الجامعة اللبنانية. طاوعته مطية الأدب، حين امتطاها فطوحت به في دنيا الشعر، فأورثته ثلاثة دواوين (عودة الغائب) و(ملحمة النور) و(في غيابة الجب) وانعطف بها إلى عالم القص فظفر بثلاث مجموعات أيضاً (الحلبة والمرآة) و(بين القصر والقلعة) و(بلد النوابغ). واشترك مع أدباء آخرين في مجموعة (خط اللقاء). وما كان للرواية أن تفلت من قلمه، فألقى بقلمه فإذا هي رواية (خطوات في الليل) التي أرخ فيها لنكبة الإخوان في سوريا. وقد رأى أن في الزمن فسحة للدراسات الأدبية فكتب (الفاصلة في القرآن) و(في الأدب والأدب الإسلامي) و(في الأدب والحضارة).
ولأن لغة الصحافة والكتابة لها لا تتيح للكاتب أن يصول وأن يجول كما يحلو له فسنقتصر على الحديث عن الحسناوي القاص. وسنتناوله بإيجاز من حيث المضامين والأسلوب وسنستعين بما قاله رفيق دربه الأستاذ عبد الله الطنطاوي في مقدمة مجموعته (الحلبة والمرآة).
تراوحت مضامين الحسناوي بين السياسي والأخلاقي والاجتماعي مع صعوبة الفصل بين الاثنين الآخرين. في مجموعته الأولى غلب الأخلاقي والاجتماعي على مضامينه وثيماته؛ ذلك أن الفترة التي كتب فيها شهدت مداً ماركسياً كبيراً جداً، ودخلت تيارات مثل الوجودية إلى الملهى الثقافي فزادته فساداً وعبثاً. وكان لا بد من أقلام تضيء طريق تلك العتمة؛ فجاءت مجموعته (الحلبة والمرآة).
يقول الطنطاوي: "الموضوعات التي يطرقها الحسناوي في هذه المجموعة شتى، منها ما يعالج مشكلة محلية، اجتماعية وسياسية ومنها ما جاء على صورة قصة تاريخية أو أسطورة ولكنها كلها تلتقي في قاسم مشترك واحد هو نقد العيوب والدعوة إلى الإصلاح الأخلاقي". (ص9).
ونظرة سريعة إلى القصص في (الحلبة والمرآة) تنبيك بذلك: في (سحر الفخار) عالمان متصارعان عالم الزهد والقناعة والعزة الإيمانية وعالم النفاق والتمسح بالعتبات. في (المتوكل في جبل الزاوية) قيم الإيمان والجهاد يمثلها أبو طارق وزمرة من المجاهدين. في (سيف بين ذي يزن) يتمثل الباطل رومياً غريباً فاجراً والنتيجة زهقان الباطل. في (أحلام الفار) يلجأ الحسناوي إلى الرمز فيشخصن الفار وينطقه بالأحلام بين أنياب هرة تنتظره بلهفة.
في مجموعة بلد النوابغ ينحو الحسناوي منحى مغايراً حين يتابع تطور المجتمع السوري في مدينته وتغير أحوال الناس منذ الطفولة وأوهامها في قصة (طفل سعيد) ثم التفتح على الدين من خلال حب التقى لمدرسه وخطبه وتقليده له (في حياة جديدة)، وفي (حين تبصر الفطرة) ترمز المرأة العمياء إلى الأمة العربية التي تصر على العيش بوهم مساعدة الدول الكبرى، وعدم الاعتماد على قدراتها الخاصة. وفي (مملكة الليل) يضغط الواقع السياسي على وعي الكاتب فيرى أن (ديبو) حارس أملاك الناس يسرقهم في الخفاء.
على أن الحسناوي بعد محنة الاغتراب القسري صرف جل جهده القصصي على السياسي وتحديداً ما يتعلق بوضعية الإنسان أمام آلة القهر وقمع الحريات والتغييب وراء السجون أو وراء الدنيا. في قصة "جرس" يستيقظ حامد منتصف الليل على صوت الجرس الذي يذكره باليوم الذي جاء فيه المخبرون واعتقلوه بعد قرعهم الجرس وتنتابه مشاعر الخوف والإحساس بوهم العودة إلى الحياة الطبيعية بعد الخروج من المعتقل. لحظات عصيبة يمر بها حامد وزوجته وطفلهما يصورها الكتاب بدقة ليكتشف حامد أن جاره جاء يسأل عن قابلة وتاه في البيت. مفارقة تكشف عما اختزنته النفوس من القهر والعذاب والخوف.
عن أسلوبه القصصي يقول الأستاذ عبد الله الطنطاوي أيضاً:
"اهتم الكاتب بالجانب الوصفي التحليلي لشخصياته كما اهتم بالجانب النفسي، فلجأ إلى التحليل النفسي وفتشت عما وراء تصرفاتها من دوافع بعيدة".
كما أن "تلوينه لشخصياته وأحداثه بالألوان المحلية أضفى عليها البساطة المحببة لديه.. على أن تلك البساطة كثيراً ما كانت تنطوي على مسارات نفسية متغلغلة في حنايا النفس".
"وأما أسلوبه أسلوب السرد والوصف، فإنه الأسلوب الشاعري الرفيف حيناً، والجزل حيناً آخر".
و "تستطيع أن تقرأ في أقاصيصه الأسلوب المزخرف في غير ما تكلف، والصياغة الرائعة في عفوية مع الدقة في التصوير، ورسم الشخصيات".
وختاماً لا بد أن نلاحظ أن هناك سراً وراء استعمال الاسم "حامد" في عشرات القصص التي كتبها محمد الحسناوي، وحين تسأله مقترحاً معنى ما يجيبك بابتسامة ودودة "إيه ممكن" ثم لا يضيف شيئاً.