التحولات الدلالية في شعر محمد بنعمارة

التحولات الدلالية في شعر محمد بنعمارة

(حقل الماء وروافده) 8

ذ. محمد دخيسي - وجدة المغرب

[email protected]

1-  حقل الماء وروافده: الارتواء والصفاء

 الماء في تجربة محمد بنعمارة الشعرية، مرتبط بالارتواء، سواء منه المتصل بالذات ومعاناتها، أم ما هو متعلق بالنص الشعري وتموجاته.

وبما أن الماء مصدر الحياة، وقد خلق الله منه كل شيء حي، فكذلك الشاعر يمزج بين الماء باعتباره (+ سائل ،+ حي ، + ضروري ، + متحول ..)، وبالنظر إلى الموقف الصوفي الذي ينتهي إليه الشاعر في نهاية مطاف تجربته الشعرية. والموقف السياقي الذي نرى فيه الماء في تحولاته القبلية: السحب، والبعدية: المطر، والانتقالي : النهر والبحر.. والموقف المجازي الارتواء والانتشاء.. والقعر المخيف، الذي يدس الصدف والمحار ومنه أسرار الكون.

كل هذه الاعتبارات تشكلت في تجربة الشاعر محمد بنعمارة النظرية والمنجزة. يقول في حديث له عن دلالة الماء والبحر في شعر محمد السرغيني، ومنه رؤيته الخاصة لهذه الدلالة:" ويكفينا - هنا - أن نتوقف مع هذا الهاجس في بعض نظرات الشاعر إلى الملكوت المائي. فالماء أصل الحياة الكونية، والبحر عند محمد السرغيني يحمل نفس الدلالات التي وردت عند المتصوفة.. فهو ظاهر باد بمائه موجه وزبده، وهو قعر معتم يحجب المحار، والدر، والأحجار الكريمة. ومن يقف  - في مثل حال شاعرنا - أمام البحر يقف أمام أسرار ما تخفيه الأعماق. إنه موقف صوفي، يمكن أن تمثله في أحد مواقف الشيخ النفري (موقف البحر ): [ وقال لي ظاهر البحر ضوء ل يبلغ وقعره ظلمة لا تمكن (… ) ] " [1]

ودلالة الماء عند محمد بنعمارة لا تخرج عن هذا الإطار، ذلك أنه يتعامل مع الموقف من رؤية صوفية في أغلب الأحوال، وكما في المرحة الأخيرة من تجربته الشعرية خاصة. ولكن في المقابل يجعل من البحر لغته الشعرية، أو البحر الشعري كما معروف عند العروضيين.

كما أن البحر في تجربة محمد بنعمارة:" ورؤيته الإسلامية تتعدد مدلولاته وموحياته، فهو يوظف رمز ( البحر) في سياق تجسيده لقيمة الحرية التي تعلي من قيمة الإنسان وتسمو بمشاعره وتنأى به عن الرغبات الدنيا." [2]

لقد سبق الإقرار أن التأويل يختلف من قارئ لآخر، لكن السياق الخاص والعالم هو الكفيل بإخراج الجهاز المفاهيمي إلى حيز الوجود. ودليلنا هو النص الشعري ذاته، مهما تماهى والرؤية النظرية التي يحملها الشاعر أو تقاطع ومحتوياتها.

إن إطلالة على شعر محمد بنعمارة المدوّن ( الدواوين السبعة )، يأخذه الفضول للبحث في دلالة الماء والبحر والموج و.. لأنه يستحيل أن تقرأ قصيدة دون أن تجد إشارة إليها أو بعض مرادفاتها ( إلا النذر القليل ).

يقول في مقدمة ديوانه الأول (الشمس والبحر والأحزان ) إنه اختار البحر لصموده الأبدي [3].

ولاستعمال البحر في شعره دلالات متعددة، فمن مصدر الماء وهو الغيم حيث نجده في مراحله الأولى يستمد منه نظرته للحبيب، ويتملى بنظرته في مسرته:

وعند الشتاء أغيب لعلني

أراك مع الغيمة الباكية

أراك وراء دموع الشتاء [4]

فقد استعار للغيمة صفة االبكاء، وهو يعني بها المطر، والبكاء باعتباره ينزل على شكل دموع فالسيل الجارف الذي ينتظر من خلاله رؤية الحبيب، هو نفسه المطر. لذا فقد شكل هذا المعنى صورة بلاغية تتناسق فيها دموع البكاء، وأمطار السحب.

ويقول في قصيدة ( دقيقه.. دقيقه ):

أحبك حبا عميقا عميقا

فأنت يد تشد غريقا

وأنت ابتسامة طفل بريء

وأمطار غيث تميت حريقا [5]

إن اختيار المطر صفة للحبيبة، وهو في مرحلة كان يبرز فيها مفاتن الذات الحبيبة، ويكرس شعرة للعشق الإنساني، هذا الاختيار كان من وراء استحالة الوصول إلى الآخر عبر نوافذ الأمل المغلقة. وكون الشاعر لا يتحمل البعد، ولا يستسيغ غير رفقة الآخر، والمطر إن كان ذا دلالة تنبئ بالخير الذي يأتي بعد قحط، فإنه في هذه الحالية يتحول إلى إطفاء نار اللوعة والحرقة التي تصيب الشاعر من جراء الاحتراق لبعد الحبيب.

من هنا أصبح المطر سيفا حادا يخرج من فوهة بركان جامح، لا من غيمة وسحابة. يقول في قصيدة (آه … يا بيروت ، جرح أنت في الأشعار):

بيروت الوجه

الله .. يبادلك الحب

ويزرع بين الخدين نخيل الجنة

يمطر ثغرك بالغيث

فتنبت في الثغر الأزهار البرية [6]

فبيروت هنا وهي رمز التشتت والتشرذم العربي، تمطر من فمها الغيث. والغيث تتحول دلالته - تبعا لطبيعة المرحلة - من معناه الحقيقي الذي هو أول المطر، إلى فعل الثورة الشفهية والشعر الثوري بمعنى ثان أكثر إيحاء وتعبيرا.

ويتأكد هذا التأويل في قصيدة ( الليلة ما بعد الألف عند أقدام شهرزاد الزنجية )، إذ يورد نفس الصورة تقريبا أكثر توضيحا وإبانة. يقول:

انتظري أن أتحول في كف الريح.. / سحابا /

يذرف دمعه من أجل سنابل ذبلت

انتظري - سيدة الحزن - انتظري مني

عاصفة تتولد منها اللحظات [7]

فالشاعر هو نفسه السحاب التي تذرف الأمطار. فالمطر هنا يتحول معناه إلى الكلمة الشاعرية، إلى القصيدة الشعرية، بكلماتها ودلالاتها وتشكيلاتها، والسنابل تنتظر الغيث كي تتحول من بريتها إلى سنابل يانعة. والسنابل نفسها تحمل دلالة الكلمة، كما في السالف( وتنبت ما بين الشفتين سنابل).

 وتتولد هذه الدلالة من خصوصية التجربة الشعرية، إذ غالبا ما يعود الشاعر للحديث عن السحاب والمطر دلالة عن القصيدة، ويؤكد انتماءه الكلي لصيغة الرديف للنص الشعري، وتتحول المعاني عنده صوب تحقيق الهدف الذاتي المرتبط بالقول الشعري كذلك.

 حين نقرأ شعر محمد بنعمارة في كليته ، ينجلي أمامنا قول الغموض في الشعر، فلا تعابير مستعصية على الفهم، ولا دلالات بعيدة، إلا بمراوغة اللغة الشعرية والكثافة في التصوير والتخييل، لذلك:" يتسم التعبير الشعري لدى بنعمارة بالبساطة والتلقائية والسلاسة، فمن خلاله، يتعامل مع الشعر - شكلا ومضمونا -التعامل الواعي، دون اللجوء إلى اللفظ الغامض، أو لا معقولية ولا مألوفية المحتويات، أو اللهث جريا وراء الصور القائمة، الداكنة السواد ، أو السير في السراديب المغلقة  بحثا عن الطليعية المقنعة بدل الأصيلة." [8]

معنى هذا أن بعض العناصر لا نجد لها معنى في ذاتها، ولكن السياق والنسق الموضوعيين هما اللذان ينبئان به. فإذا أخذنا مثلا مقطعا لمحمد بنعمارة من قصيدة ( يا إحدى المعجزات ) نصل إلى دلالة لفظة السحاب التي كنا قد أعطيناه سابقا. يقول:

أيقنت أنك كالسحابة يرتوي منها النخيل

وكالخيول النافرة

أيقنت أنك ممكن

ويحاصر الحكام فيك الأنبياء

لكنك اللغة التي بدأت تطل من الحروف

النازفه [9]

فالسحابة هي القصيدة التي تروي بكلماتها ، وتنفر الأعداء من دلالاتها. وهي المعبرة عن هموم الذات والواقع. لذا يتأكد لنا مرة أخرى ضرورة التأويل الدلالي. ويتضح:" أن إغناء النظرية الدلالية بالمباعد الاستعارية والكنائية يمكنها من رصد فئة واسعة من التأويلات الدلالية التي يسندها المتكلم – السامع إلى الجمل، وأن عدم إدخال مباعد مثل هذه يؤدي إلى عدم رصد تأويلات دلالية  واردة، وإلى اعتبار متواليات سليمة جملا شاذة." [10]

إن هذه الالتفاتة تميز بين التأويل العادي والتأويل الدلالي الذي نعمد التحليل بواسطته، الذي يعتبر السياق أهم مصدر لتفكيك دلالاته.

نعود أدراجنا لنتمم ما سقناه سالفا، ونرى كيف أن السحاب والغيم لم يعد يعطي ثماره، ولم يستطع أن يضمد جراح الشاعر فتحول طينا.

يقول في قصيدة (شيخوخة هذا البحر):

ـــ آدم بدءٌ

ومدينتنا زانية

والوقت رماد والناس حجرْ

شاخ البحر ومات الماءْ

والغيم تحول طينا

ــــ كنا نأتي كالمطر، وكالثلج لتفرح أرض الله

كنا نمزج زرقة ماء الشعِر

بخضرة تصوير غيبي [11]

إن تحول خصوبة الغيم وفعله القائم على الارتواء. لم يعد ذا فاعلية، ومن ثمة تحول الشعر من هدفه النبيل الذي كان يخضر في الأرض الذابلة، فصار غير ذي مغزى.

هكذا ينمو النص الشعري ويتخيل الأبد صورة مستساغة أمام الشاعر، فتتحول صفات إلى أجساد، وتتحول الأبدان ممرات للعشق، والماء نورا يستضاء به في ظلمات لجي، والريح والسحاب قصيدة للشاعر التائب، الآتي من وراء الحجرات ينتابه القلق، فيروح تجاه ربه يناجيه ويعشق فيه الذات، كما عشقها ابن عربي والمتصوفة.

إنه الشعر الذي اختاره محمد بنعمارة هنا بين الرياح والسحاب، ينزل غيثا - هذه المرة - على الصحراء، كي يوقظ فيها النفس الميتة وينتج منها حبا وعنبا ونخلا. بهذا تصير اللغة هي نفسها الشاعر المعبر عنها ، وتصبح ذات الشاعر فيضا من نهل القصيد:

" وتصبح اللغة مجلي الشاعر لا محبسه: لا يلبسها وإنما ينجلي فيها وهكذا يؤسسها: فاللغة تولد مع كل مبدع … هكذا لا تستمد لغة المبدع رموزها وأبعادها من لغة سابقة، وإنما تنشأ رموزها وأبعادها معها وتنمو معها."[12]

يقول محمد بنعمارة في قصيدة ( تخيلتها):

وتبعثني

مطرا ناعما

يرش الصحارى

وينبت فيها الكروم العذارى

وزهرا…

وقمحا…

وتوتا… [13]

من خلال هذه النماذج التي انتقيت لتكون عينات تطبيقية، نستطيع التأكيد أن الشاعر قدم معطيات مضبوطة بإحكام، وذلك دليل على وعيه بالظاهرة، ومحاولته تخصيص كل لفظة لدلالة معينة حتى إن طال الزمن، وتغيرت التجربة الشعرية.

والانسجام الحاصل في التحولات الدلالية، من حيث الضبط والتطور، لم يسلم كذلك من سلطة الذات الشاعرة ، وفي تقليص الهوة بينه وبين المتلقي. لأن العلاقة تبقى قائمة ما دام الشاعر يوظف دلالاته في نسق معين، وضمن منظومة دلالية مركزة.

على هذا الأساس سنرى حدود التعامل مع باقي الدلالات في شعره. وبما أننا في محطة خاصة بالماء وروافده، لا بأس أن نعرج على دلالة البحر عبر مراحل تجربته.

              

[1] - محمد بنعمارة: الصوفية في الشعر المغربي المعاصر، ص- 60- 61. [القول لمحمد بن عبد الجبار النفري، المواقف والمخاطبات، 6- موقف البحر، ص- 71.]

[2] - صابر عبد الدايم: الأدب الإسلامي، ( م –س 9، ص- 123.

[3] - محمد بنعمارة: الشمس والبحر والأحزان، ص- 5.

[4] - نفسه: ص- 11.

[5] -  محمد بنعمارة : ( م- س) ، ص- 20.

[6] - محمد بنعمارة: العشق الأزرق، ص- 125.

[7] - محمد نعمارة: عناقيد وادي الصمت، ص- 16.

[8] - العربي بنجلون: أبعاد النص، ص- 66.

[9] - محمد بنعمارة: نشيد الغرباء، ص- 29.

[10] - محمد غاليم : التوليد الدلالي في البلاغة والمعجم، دار توبقال للنشر ، الدارالبيضاء، ( سلسلة المعرفة اللسانية، أبحاث ونماذج ، إشراف عبد القادر الفاسي الفهري) ط- 1، 1987، ص- 161.

[11] - محمد بنعمارة: السنبلة، ص- 12.

[12] - أدونيس : الثابت والمتحول، ( م- س) ، ج- 3، ص- 282- 283.

[13] - محمد بنعمارة: في الرياح .. وفي السحابة، ص- 43.