سيد جلال..
وجدار الأوزار
أ.د/
جابر قميحةإن «خارج الإنسان» يدل على «جُوّانيته»، فمظهره - مهما غلا في الاستتار والمداورة والمناورة - سيقودنا حتمًا إلى مخبره . إنها قاعدة حقيقية واقعية دارجة، أبرزها القرآن الكريم في مواضع متعددة، منها قوله تعالى في سياقة الحديث عن المنافقين {أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم. وّلّوًنشاء لأّرّيًنّاكّهٍم فلتعرفنهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم } (محمد: 29، 30)
فنبراتهم، وإشاراتهم، وغمزاتهم تفضحهم، وتكشف ملامحهم الداخلية، ومباحث علم النفس الحديث تؤكد هذه الحقيقة، وتستخلص الأبعاد النفسية والعقلية والروحية للإنسان من أسلوبه في العيش، واختيار الزي، والسكن، وألوان الطعام، ويصلون - في هذه الاستخلاصات - إلى نتائج صحيحة إلى حد بعيد.
**********
وفي هذا المقام نذكر اليهود نموذجًا تطبيقيًا، وتاريخهم يؤكد أن من أهم طبائعهم:
1 - العيش في تجمعات، أو مجتمعات منعزلة، أو منفصلة عن التجمعات أو المجتمعات المحيطة، كالتجمعات الأربعة المشهورة في أرض العرب، وحول المدينة يثرب بخاصة، وهي: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، وخيبر، وفي العصر الحديث: حارة اليهود في القاهرة.
2 - العيش في قرى محصنة، وخلف جُدُر وقلاع، حتى يستشعروا وراءها الطمأنينة، ومع ذلك عاشوا - وما زالوا يعيشون - مسكونين بالشك والخوف والجبن، بعد أن طردوا على أيدي الرومان ونزلوا جزيرة العرب طمعًا في الأمان، وهذا يدفعنا إلى تأكيد أنهم «يهود تعربوا» لا «عرب تهودوا»، ومن ثم لا يكون لهم في أرض العرب جذور، أو حقوق أصيلة؛ لأنهم طارئون عليها.
وفى العام الرابع الهجرى صور القرآن طبيعتهم النفسية بالواقع المشهود من موقفهم، أو مواقفهم من المسلمين في قوله: {لا يٍقّاتلونّكم جّميعْا إلاَّ فٌي قرى محّصنة أّو من ورّاء جٍدر...} (الحشر: 14)، ونسوا أن هذه التحصينات لا تحميهم من غضب الله ونقمته، فتحصنوا {.. وّظّنَوا أّنَّهٍم مَّانعّتهٍم حصونهٍم منّ الله فّأّتاهمٍ الله من حّيث لّم يّحتّسبٍوا وقّذّفّ فٌي قلوبهمٍ الرعب...} (الحشر: 2).
والجدر في الآية تؤدي - ولا شك - مفهومها الحسى: فهي الأبنية القوية الشامخة التي تحمى مَنْ وراءها من هجوم العادين، ولكنها - من ناحية أخرى - تعكس إيحاء قويًا بما جبل عليه الصهاينة من حوْك المؤامرات الخسيسة، والخطط الشيطانية في صمت وتستر دون إشعار العالم ببشاعة جرائمهم وجناياتهم.
**********
والصهاينة الآن يقومون «بجريمة مستمرة» هي بناء «الجدار» الذي مزق ما تبقى من أوصال الأرض الفلسطينية على ضيق رقعتها... بنوه وما زالوا يضيفون إليه المزيد والمزيد، حتى أصبح سور الصين العظيم لا يعد بجانبه شيئًا مذكورًا.
إن بناء هذا الجدار ليس مجرد فاصل يقام، ولا حصن يقوم، ولكنه عدوان عام شامل: عدوان على القيم الإنسانية، وعدوان على القوانين والأعراف الدولية، وعدوان على سلامة الشعب الفلسطيني، وانتهاك للشرف العربي، ومع ذلك لم تفض قرائح الشعراء العرب - بالقدر الكافي الشافي - بما يهز وجدان الجماهير تجاه هذه الجريمة النكراء.. ولكني شعرت بشيء من الرضى حينما التقيت
قصيدة «الجدار» للشاعر المصري: السيد جلال.
وقد نظم الشاعر هذه القصيدة يوم استشهاد شيخ الجهاد والمجاهدين أحمد ياسين، لذلك استهل رائعته بهذه الكلمات التي جاءت شهادة حاسمة نخاعها المفارقة.
يا شيخ ياسين.. الفلاحُ لك
الرباح لك..
والفاجر القواد بائع عرضِهِ
هو ظالم.. بالظالمين هَلَكْ
فنحن أمام صورتين متناقضتين: ميت حي نال الفوز والفلاح. وحي ميت لأنه فاجر.. قواد.. مفرط في شرفه وعرضه... ظالم بيّن الظلم، وهنا نسجل للشاعر براعة الأداء في «بالظالمين هلك»، والسر في «الباء» التي تدل على «المكانية» فهو ظالم هالك بين الظالمين، وقد تدل على السببية، فهو ظالم هلك بسبب توريط الظالمين الكبار له... وفي هذا الإيحاء المتعدد ما يقوي المضمون، ويشي بقوة الشعرية.
ويتخذ الشاعر من الجدار منطلقًا للنقد الذاتي، وتجريم المفرطين من الكبار الذين كان هوانهم واستهانتهم وصمتهم الخسيس مسوغًا لتمكن العادي اللعين من إقامة هذا البناء الغاشم الذي حوله الشاعر إلى صورة معنوية قهارة:
وبنَوْا على جسدي بأوزاري
جدارًا فاصلاً بين الضلوع وبين قلبي
ضدان مختصمان: قلبي والجدار
إنها - بصفة أساسية - جناية السادة الذين أضلوا شعوبهم السبيل؛ لأنهم:
تعاهدوا ألا طريق لهم
سوى الصمت المهين
وليته موت بلا عارٍ
بلا وحْلٍ، ولا طين
والصمت «العربي» أصبح صمتًا مشهورًا، يتدفق كرمًا وسماحة، ومن هنا جاءت استهانة «العالم» كله بالعرب الذين أصبح «الصمت» أهم فضائلهم، وفي ذلك يقول شاعرنا السيد جلال في قصيدة نظمها سنة 1998م، عنوانها «الأسواق الحرة».
في أعرافي الأسواق الحرة
عاديٌّ
أن تطْلي جدرانَ فضاءاتِ الكون جميعًا
بدمٍ عربي
ثم تباع كلوحاتٍ بمزاد علني
عاديٌّ أن تمتلئ الأنفاس برائحة الموتى
تنقلها الموجات، وشاشات التلفازِ
إلى آفاق سماسرة الموتْ
عاديٌّ أن تنتشر الأشلاءُ
على حدقات الأعينِ
كل صباح ومساء صورًا
لا تترك إلا الصمتْ
فهو إذن جدار صنعته الخيانة والظلم والقهر والاستهانة بالشعوب، والتضحية بها في سبيل سلطان فان، وشهوات شيطانية، مسايرة «للسيد الكبير»، إنه ليس جدارًا «أسمنْتيًا» أو حديديًا، ولكنه جدار أبشع من هذا بكثير، وقد عرض الشاعر بعض ملامحه في قوله:
حقًا أقول لكم
وحقًا تسفكون دمي وتنتزعون عيني
مثلما جردتموني من ردائي
بيني وبينكمُ جدار من جماجم أصدقائي
بيني وبينكمُ جدار من عظام كرامتي
بيني وبينكمُ جدار من لظى
شيدتموه من نزيف الكبرياء
إنه إذن «جدار نفسي» يصنع انفصامًا منكودًا بين شعوبنا المظلومة المقهورة المطحونة، وبين السادة الكبار الذين استمرؤوا تعذيبها وحرمانها، وانتهاك حقوقها، وهذا المفهوم المعنوي للجدار لا يلغي المفهوم الحسي المباشر، وقد وسّع الشاعر في هذا المفهوم الحسي ليصدق أيضًا على «جدر» صنعت من أسلاك شائكة بين أسرى الجولان وأهلهم في الجانب الآخر، حيث لا اتصال إلا بمكبر الصوت:
يا أيها المتسابقون إلى الشهادة عزةً
قولوا لهم
إني رأيت حبيبة من شرفة الجولان
بثت حبها لحبيبها
بمكبر الصوت العليل.. لعلّهُ
في صحوة...
أن ينقذ الشرفَ الأسير من الهوانْ
ولكن الشاعر لا يستسلم لهذا الركام الضخم الخانق من الاختلالات والأحزان، فيدفع قلمه ليلهج بذكر شيخ المجاهدين أحمد ياسين الذي غزا القلوب بالعزيمة والإيمان والقرآن.
ثم يختم قصيدته بالأمل الدفّاق والإيمان بحتمية النصر:
حقًا أقول لكم/ لهمْ:
يا من بنيتم وارتفعتم بالبناءِ
لعلكم أن تحكموا حولى الحصار
أنا لن يعطلَ همتي خطٌّ «لبارليف»
وألف مثله فوق الجدار
فأنا ذراع كفه ستطالكم
وتنالكم بعد السدود، أو البحار
فأنا الحصار، أنا الجدار، أنا هما
أنا المرار، أنا الهلاك، أنا الدمار
وأنا الصباح، أنا الفلاح، أنا الصلاحُ
أنا النهارُ، أنا النهارْ
**********
واستقراء شعر السيد جلال، وخصوصًا قصائد ديوانه «العبير التائه» يُبين عن سمة موضوعية مطردة، وهي استحضار «الأمل» مهما تدفقت القصيدة بالأسى والحزن والألم. وهي سمة تحتاج لمبحث مستقل، وعلى سبيل التمثيل: نقرأ في قصيدته «الشمع الأحمر»:
يا وجعي.. يا كلَّ الأحلام
من يملك أن يغلق أفواهًا وعقولا
بالشمع الأحمر
من يقدر أن يمنع أحلامًا/ يحبسها
ويغللها بالأغلال وبالأقفال الفولاذية
ويلونها بطلاء أزرق أو أخضر
لمْ يخرج بعدُ من الأرحامْ
فإرادة الشعوب في النهاية هي الغالبة، ولكن الطغاة البغاة يغفلون... أو يتغافلون.
**********
وأزعم أن الشاعر جانبه التوفيق في استدعائه تراثية «بلاطس» و«برباس» و«المصلوب»، فقد بدت كرقعة غريبة على نسيج القصيدة، وقد يذهب المتلقى إلى أنها تخدش عقيدتنا .
ولكننا نسجل من توفيقاته:
1 - براعة الاستهلال.
2 - الحضور النفسي الدائم، فالشاعر لم يكن «راوية» للمرئيات والمحسوسات والمشاعر، ولكنه كان معايشًا إلى درجة الامتزاج الروحي والنفسي والعقلي، ولذلك غلب على لغته الحديث بضمير الذات:
- وبنوا على جسدي بأوزاري جدارًا فاصلاً...
- حقًا أقول لكم...
- فبعضي ميت شوقًا تحاصره بنادقهم...
- إنى رأيت حبيبة من شرفة الجولان...
3 - التصوير الابتكاري، وهو الأصل في القصيدة كلها، ومن ذلك على سبيل التمثيل:
- الدمع المطرز بالمرار
- والوحل في كل المدائن حوله فاق الحناجر والمناخر
- جدار من عظام كرامتي.
4 - التناسب بين الفكرة والأداء التعبيري، فالجملة عنده تطول بمصاحبة موسيقى وترية متراخية إذا كانت في حاجة إلى بسط، ويسرع النبر الموسيقي في تلاحق منغوم آسر في غير ذلك مثل:
- في مقصورة العملاء، والأمراء، والفكهاء، والبلغاء، والبغلاء، والنبهاء، والنهياء...
وأخيرًا أشهد أن القصيدة - في مجموعها - رائعة المعنى والمبنى ومن حقها أن تأخذ مكانها بجدارة بين ما نظم من «فلسطينيات» وإلى الأمام دائمًا... وفقك الله.
الشاعر في سطور:
السيد جلال السيد - من: بيلا - كفر الشيخ - مصر، من مواليد 31/ 12/ 1966م - حاصل على بكالوريوس علوم وتربية من جامعة المنصورة - يعمل مدرسًا أول للرياضيات - له ديوان مطبوع وأربعة تحت الطبع، له اهتمامات كبيرة بالفن التشكيلى، يملك رصيدًا ضخمًا من حب الناس.