قصيدة "عليا وعصام "

قصيدة "عليا وعصام "

د . فاروق مواسي

وتسمى القصيدة أيضًا" رُلى عرب" جريًا على ما اعتاده العرب من تسمية القصيدة ببداية مطلعها.

أما الشاعر فهو قيصر المعلوف( 1874_ 1960) وقد ولد في زحلة، وسافر إلى البرازيل سنة 1895 حيث كان تاجرًا ناجحًا في سان باولو، وهناك أنشأ أول صحيفة عربيه في أمريكيا الجنوبية( البرازيل، سنة 1898). وصدر له في الهجر ديوانه" تذكار المهاجر" (1906)، ثم عاد إلى بيروت سنة 1914. وقبيل وفاته صدر ديوانه" ديوان قيصر المعلوف" سنة 1957. والشاعر هو عم الشعراء العمالقة الأشقاء الثلاثة:

 شفيق(1906-1976) صاحب ملحمة ((عبقر))، وفوزي (1899-1930) صاحب (( على بساط الريح)) وهو شاعر الطيارة، ورياض ( 1912 - 2002) وهؤلاء الثلاثة هم أبناء عيسى اسكندر المعلوف( 1868-1956) الذي كان عضو المجامع العلمية في مصر ودمشق وبيروت، وعرف عنه أنه مؤرخ له بعض المؤلفات الهامة، ككتابه عن فخر الدين المعني.

أما رلى، فقد ذهب مؤلفو(( معجم أسماء العرب)) (موسوعة السلطان قابوس ج 1) أن الاسم هو تحريف إما للاسم ((ماري)). وهو اللفظ أحد الصيغ اليونانية لماري، أو انه تحريف للاسم اللاتيني ((ريجبولا)) وهو يعني (حاكم) (انظر ص 696).

     وقد ذكر إميل حبيبي تعليلاً آخر من عنده لمعنى (رلى)، لا أرى هنا ضرورة لذكره، فكتبت له ردًا نشرته في (( الاتحاد)) (عدد 11/8/1983)، وفيه بيّنت أن (رلى) هي قبيلة عربيه من قبائل عَنَزَة، واللفظ محرّف عن (( الرّواله))، والبدو يلفظونها الرْوَلَة( دون لفظ اللام الاولى). وجاء الشاعر وجعلها (رلى) لضرورة الشعر. وهو ليس وحيدًا في هذا الباب، فثمة تغييرات تطرأ على الأسماء لدى الشعراء، فأرسطو طاليس يصبح في شعر المتنبي ((رسطاليس)).

من مبلغ الأعراب أني بعده      قابلت رسطاليس والإسكندرا

 وقس على ذلك الكثير مما تلزمه الضرائر الشعرية.

أما (الأرولة)- هكذا يوردها أحمد وصفي في كتابه ((عشائر الشام)) فقد وصلوا إلى بلاد الشام في أوائل القرن الثالث عشر الهجري. وقد ذكرها الرحالة السويسري بركهارت (1224هـ) فقال عنها: (( إنها حاربت جيشًا حبشيًا مؤلفًا من ستة آلاف جندي أرسله باشا بغداد وغلبته)). وقال إنها كانت تنزل البادية من جبل شمر إلى جنوبي حوران، وأن خيلها كانت أكثر من خيول سائر العشائر .

 

ومما يذكر في تاريخ (الرولة) أن خديوي مصر عباس باشا الأول بن طوسون أرسل أحد أولاده إليهم ليتمرّن عندهم على الخشونة والفروسية- وذلك إقتداء بالخلفاء الأمويين ( انظر كتاب عشائر الشام ص 370-ص372).

وضربت العرب بهم المثل في الكثرة والجلبة والتماسك والتناصر، فقالوا ((مثل العرب أروَلي)) ( انظر كتاب: حسين لوباني- معجم الامثال الفلسطينية ص 752).

ومن الاجتهاد في معنى الاسم أن (الروال) هو اللعاب، وخاصة لعاب الخيل. و((المروَل)) الرجل كثير اللعاب. ولعل كلمة الروالة تشير إلى هذا المعنى لكونهم لا تجف حلوقهم فزعًا أو خشية.

 ومهما يكن فإن اسم ((رلى)) وبعضهم يكتبه ((رلا)) أو ((رولا)) هو الاسم الذي اشتهر بسبب القصيدة، وكثير من الإناث تسمين بهذا الاسم تمجدًا بالقبيلة الموصوفة بالبطولة والإباء. فما هي هذه القصيدة التي حرّفت الاسم الحقيقي للقبيلة، وباركت الفتاة العربية التي تحمل هذا الاسم ببيت الشعر الذي يتردد على مسامعها حال لفظ اسمها؟

عليا وعصام

شعر: قيصر المعلوف

رُلى   عربٌ  قصورهم  iiالخيام
إذا  ضاقت  بهم  أرجاء  iiارض
غزاة   ينشدون   الرزق   iiدومًا
غرامهم     مطاردة    iiالأعادي
إذا    ركبت    رجالهم    iiلغزو
ولا   يبقى   من   الفرسان  iiإلا
وكانت  من  عجايا  الربع  عليا
لقد    نشأا    رعاة    iiللمواشي
هناك  على  الولا  عقدا iiالأيادي
ولما    أصبحت    عليا    iiفتاة
وصار   عصام   ذا  زند  iiقوي
دعته      أمه     يومًا     إليها
لقد   أصبحت   ذا   زند  iiقوي
بثأر    أبيك   خذ   من   iiقاتليه
فصاح  وهل  أبي  قد مات iiقتلاً
بحق  المصطفى  ما ذقت iiعيشًا
ألا   سمي   لي   الأعداء  iiحالاً
أبو  عليا  الغريم  بني  iiفانهض
فصاح   وقلبه  المضنى  iiخفوق
نعم   فارو   الأسنة   من  iiدماه
وإلا   عشت  بين  العرب  iiنذلاً
فحل   عصام   مهرته   iiسريعا
وكان     أبو    حبيبته    iiبعيدًا
هناك   تبارز   الخصمان  حتى
عصام  أرسل  الطعنات  iiتترى
فعاد     لأمه    جذلاً    iiطروبًا
فجرد   سيفه   الدامي  iiضحوكًا
وبيناهما   بضحك   ،  إذ  بعليا
فقالت:  ((  يا  عصام أبي iiقتيلا
فمن  لي  غير زندك في iiالرزايا
فقال  لها:  (( ابشري عليا iiفإني
لسوف    ترين   قاتله   iiقتيلاً))
وأغمد    سيفه    بحشاه   iiحالاً
فلما     شاهدته    في    iiهواها
نضت  من  صدره الهندي iiحالاً
وأغمدت   الحسام  بها  iiوقالت:
 




































 
ومنزلهم       حماة      iiوالشامُ
يطيب    بغيرها    لهم   iiالمقام
على  صهوات  خير  لا  iiتضام
وعزهم      الأسنة     iiوالسهام
فما   في   رهطهم   بطل  كهام
عجايا   الربع   والولد   iiالفطام
ومن   عجيانه   النجبا   iiعصام
كما   ينشا   من  العرب  iiالغلام
وعاقد    حبل   حبهما   iiالغرام
يليق    بها    التحجب   iiواللثام
يهز     به    المهند    والحسام
وقالت:  يا  حسامي  يا  iiعصام
به    يستأنس   الجيش   iiاللهام
وإلا    عابك    العرب   الكرام
وأنى   يقتل   البطل  الهمام  ii؟
إذا    عاشت    أعادينا    iiاللئام
فما   للصبر   في   قلبي   iiمقام
فهذا   الدرع   درعك  iiوالحسام
أبو   عليا  ؟؟  أأماه  المرام  ii؟
ولا   يمنعك  عن  شرف  غرام
رداك   الذل   والعار   iiوالوسام
وسار   وسحب   مدمعه  iiسجام
على   مهر   أضر   به  الجِمام
على    رأسيهما    عُقد   iiالقتام
فقدت    من    مبارزه   iiالعظام
فقالت:  ما  وراءك  يا عصام ii؟
وقال  لها:  ابشري قضي المرام
وقد    أدمى    مباسمها   اللطام
ألا فاثأر لعليا يا همـــــام!
إذا  عم  البلا  وطما  iiالعرام؟))
لأهل   العهد   في   الدنيا  iiإمام
وأنصت    ما   أتم   له   iiكلام
وخرَّ     وللكلوم    به    iiكلام،
قتيلاً    يستقي    دمه   iiالرغام
وقالت:  لا تمت قبلي iiعصام!))
على  الدنيا  ومن  فيها  iiالسلام!

القراءة :

القصيدة كما يلاحظ القارئ، تبدأ بعرض المكان ووصف البيئة:

رلى قبيلة تسكن حماة وبلاد الشام عامة ، عددهم كبير، ينتقلون حيثما يطيب لهم . هم غزاة يلاحقون أعداءهم، وهم أبطال أشداء لا يقعد عن القتال أيٌّ منهم .

  ثم تطرقت القصة إلى بقاء الصغار في الخيام، و ذكرت عليا وعصام اللذين يرعيان المواشي معًا، وقد أحبا بعضهما البعض. ويمضي الزمن ،  ويكبر الفتى والفتاة.

وهنا تبدأ أزمة القصة، فالأم تدخل مسرح الأحداث، وتفاجئ ابنها بخبر مقتل أبيه. ومن القاتل؟ إنه أبو عليا بالذات. ثم ما تلبث أن  تصف التقاليد القبلية ووجوب الثأر، وإلاّ فإن كل نكوص عن ذلك يؤدي إلى معرة بين القبائل.

يعجب كيف يمكن أن يكون أبوه قد قُتلَ وهو البطل الهمام؟

إن الأم تعرف كذلك أن ابنها يعشق عليا، ولذا فهي تخشى ألا يقدم على الثأر ، فتعمد إلى  أن  تحمّسه ليروي الأسَّنةَ من دماء والدها، فالشرف هو  في أخذ الثأر. وعليه ألا يتردد بسبب غرامه وهواه.

وتتطور الأحداث لتصل إلى المبارزة بين عصام وأبي عليا، وتنتهي بمصرع أبيها. وفيما  كان يخبر أمه بأنه أخذ ثأره، وشفى غليله، وإذا بعليا تقبل وتناشد حبيبها أن ينتقم لأبيها، وما كانت تعلم أن حبيبها هو القاتل بعينه.

هنا تبدأ حلقة أخرى في الفاجعة، فها هو يغمد سيفه في أحشائه، حتى يكون بذلك الرجل الوفي لحبيبته المنتقم لها.

وتأتي الحلقة الأخيرة لتجد عليا ،  وهي تنتحر وتقول له: (( لا تمت قبلي عصام)).

نحن هنا أزاء قصة تراجيدية تذكرنا بتراجيدية شكسبير ((روميو وجولييت)) التي كتبها سنة 1595. وهذه المسرحية تصور مأساة عاشقين شاء سوء طالعهما أن يكونا من أسرتين متخاصمتين أشد الخصام... وقد دفعت أحداث قاهرة إلى قتل ابن عم جولييت في مبارزة جرت بينه وبين روميو. فحكم على روميو بالنفي.

       يكره والد جولييت ابنته على أن تتزوج من رجل آخر، ضاربًا بأشواق ابنته عرض الحائط . تتناول جولييت عقارًا مخدرًا ، فيدخل في وهم الناس أنها ماتت. وما أن يبلغ النعي إلى روميو حتى  يتجّرع السم عندها.

 لما أفاقت جولييت من غيبوبتها وألفت حبيبها صريعًا، قررت أن تنتحر بخنجر روميو نفسه.

ونحن نشاهد أن المسرحية لا تعمد إلى المباشرة كما هي القصيدة. فقد بنيت على خطأ قد حدث في قتل ابن عم جولييت  - أدى إلى أن يدفع روميو  الثمن باهظًا، بينما بنيت القصيدة على ((الثأر)) الذي هو أقوى من ((الحب)) في أعراف القبيلة.  

     إن شكسبير جعل جولييت تتحايل لتتخلص من زواجها بالغريب، فإذا هذه الحيلة تصبح خطأ قدريًا آخر أدّى إلى عقاب الموت. بيد أن القصيدة ركزت على معنى الوفاء والتضحية، فهو يثأر لأبيها( من نفسه)، وهي تقابله حتى لا تكون أقل وفاء في الهوى.

إن عنصر التضحية نجده كذلك لدى جولييت في نهاية المسرحية، كما وجدنا لدى روميو قبيل ذلك، وقد ظنها قتيلة ، ولكنه موظف بعيدًا عن مجرد الثأر.

 

وتشترك المسرحية والقصيدة بتكالب العوامل الخارجية على حكاية الحب، وكيف تكون النهاية فاجعة مزدوجة.

 

وموضوع ((الثأر)) في القصيدة كان إيلاؤه له الأهمية الأولى:

(( وإلا عابك العرب الكرامُ ))، ((وإلا عشتَ بين العربِ نذلاً))، ((ولا يمنعكَ عن شرفٍ غرامُ))... وهذا يعكس واقعًا عربيًا قبليًا، لسنا في حاجة إلى جعله سنّة متّبعةً أو مثلاً يُحتذى على الأقل في المستوى التربوي وإنساني.

 

ولكنا من جهة أخرى نجد في هذه القصيدة انعكاسًا صادقًا وأمينًا ومعبرًا عن واقع جرى وقد يجري بين القبائل، تمامًا كما نعًلم قصائد فنّية تتحدث عن الخمرة أو الغزل بالمذكّر، أو وصف لبعض ما ننكره. فالشعر - أداءً هو شيء، وتلقيه ليكون درسًا تعليميًا هو  شيء آخر.

 

القصيدة من الشعر القصصي، وقد عرفنا في الشعر العربي القديم بعض الحكايا الشعرية ،  كحكاية ما جرى للمنخل اليشكري أو قصص عمر بن أبي ربيعة الغزلية. ولكن القصة بمعناها الفني كانت سمة للتجديد في الشعر الحديث لما فيها من حوار قصصي فيه تخّيل وتمثيل. وقد أبدع اللبنانيون، ومن ثم شعراء الهجر في ذلك.

 

إن هذه الحواريات بين الأم وابنها ، ثم بين عصام وعليا، من شأنها أن تنقل لنا الجو المسرحي، بل إن ((المونودراما)) في النهاية على لسان عليا في الجملتين الشعرييتين المقولتين تخلقان جوًا دراميًا مؤثرًا.

ويلاحظ القارئ أن القصيدة حاشدة بالتعابير المستقاة من التراث ((فما وراءك يا عصام)) هي حكاية مثل أوردها ((مجمع الأمثال)) للميداني في سياقين مختلفين، يدل أحدهما على معنى انجلاء الخبر. وأما ((على الدنيا ومن فيها السلامُ)) فقد أصبحت كذلك مثلاً، وأكبر ظني أن القصيدة هي التي بنت هذه المقولة المأثورة، ولم أقع على قول مأثور كان قد سبق الشاعر.

       كذلك لاحظنا التعبير (( أضرَّ  به الجمام)).

حيث يعيدنا  هذا إلى قصيدة المتنبي في وصف حاله :

يقول لي الطبيبُ أكلتَ شيئًا
وما   في  طبّهِ  أني  iiجوادٌ


 
فداؤكَ  في  شرابِكَ والطعام
أضرَّ  بجسمِهِ  طول iiالجِمامِ

كذلك في قوله (( وللكلوم ِ به كلامُ )) تجنيس لفظي يضفي موسيقى وفنية من خلال اكتشاف الفرق بين المعنيين، وقديمًا وقفت العرب على لفظه (كلم) في المثل: ((كلم اللسان أنكى من كْلم السّنانِ)) .

 وبسبب جو الفروسية القبلية برزت أدوات القتال مما يلائم طبيعة الموقف (أسنّة، سهام، مهنَّد، حُسام، سيف، الهندي...) بالإضافة إلى ألفاظ (غزاة، غزو، فرسان، عقد القُتام، المطاردة، صهوات خيل...).

ويُلاحظ أن الشاعر استعمل لفظتي ((عجايا)) و ((عجيان)) من الواقع البدوي مباشرة. إذ أن المعنى القاموسي للعجي هو اليتيم الذي يغذّى بغير لبن أمه، وفي الحديث الشريف: (( كنتُ يتيمًا ولم أكن عجيًا)) ومن معاني العجي السيئ الغذاء، وقد أنشد الشاعر:

 

يسبق فيها الحمل العجيا         رغلاً إذا ما آنس العشيّا

 

(انظر لسان العرب،مادة عجي).

لكن لفظة (العجي) وردت كذلك بمعنى ((الصغير)) على لسان البدو في النقب . ولعل ثمة سببًا اجتماعيًا حرّف من المعنى الأصلي المعجمي فنقله من التخصيص إلى التعميم.

وبعد:

فهذه هي ( رلى عرب) التي يبحث عنها الكثيرون ولا يجدونها في أي كتاب متداول، أقدمها لعشاق هذا الشعر، آملاً أن أكون مفيدًا للذائقة ، ومعيدًا سيرة رويت على الألسنة، سيرة تبحث عن معاني الوفاء حتى فيما لا ندعو إليه اليوم .

            

( هذه الدراسة مهداة إلى روح الصديق جمال يوسف قعدان الذي كان يحفظ هذه القصيدة عن ظهر قلب، وقد لقنه إياها أبوه الشاعر يوسف الملقب – بالأصمعي ، وذلك  لحدة ذهنه وحسن روايته).