عوامل النصر
عوامل النصر
في رواية وا إسلاماه
بقلم : عبد الحكيم الزبيدي
كتب علي أحمد باكثير رواية (وا إسلاماه) سنة 1945م، وقد فازت الرواية بجائزة وزارة المعارف في مصر في نفس العام، وتقرر تدريسها في المدارس المصرية عام 1966م. قدم باكثير-كما عودنا في كل أعماله الروائية والمسرحية-للرواية بآية من القرآن الكريم، هي قوله تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين)(1)
ومن خلال هذه الآية الكريمة تتضح الخطوط الأولى للرواية، فهي دعوة للجهاد في سبيل الله وإيثار ما عند الله على متع الدنيا وزينتها التي فصلتها الآية الكريمة .
أحداث الرواية:
تعرض الرواية لفترة مهمة من تاريخ العالم الإسلامي إذ تعرض خلالها لهجمة شرسة من التتار القادمين من جهة الشرق والصليبيين القادمين من جهة الغرب. وقد استطاع المسلمون بفضل جهادهم دحر الصليبيين في معركة دارفسكور ودحر التتار في معركة عين جالوت. وسنحاول في السطور التالية أن نلتمس عوامل الهزيمة وعوامل النصر كما عرض لها المؤلف في الرواية .
عوامل الهزيمة:
عرض باكثير من خلال الرواية للوضع السائد في العالم الإسلامي في تلك الحقبة، فإذا هي الفرقة بين الدويلات الإسلامية وانشغال كل ملك بما تحت يده فلا يعين أحدهم الآخر على الأعداء. فها هو السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه يدهمه التتار بجيوشهم الجرارة فلا يستطيع صدهم فيرسل رسله إلى مركز الخلافة الإسلامية وأمراء المسلمين في الشرق يستمدهم العون المادي ليستعين به على صد التتار "فلديهم من الغنى الفاحش، وفي بلادهم من مصادر الثروة الواسعة ما يكفل له القدرة على مواجهة عدو المسلمين جميعاً إذا أمدوه بنزر مما يملكون(2)" فلا يلقى لذلك أي صدى، بل إن بعضهم "أغلظ له في الرد وكان من جوابه له أنه ليس من الغفلة والجهل بحيث يساعد جلال الدين على عدوه، ليخلو له الجو بعد ذلك فيغير على بلاده، فلا فرق بينه وبين التتار المتوحشين(3)".
وهاهم ملوك المسلمين وأمراؤهم في الشام يسالمون الصليبيين ويبيعونهم السلاح الذي يقتلون به المسلمين كما فعل الصالح إسماعيل أمير دمشق. وهاهم المماليك في مصر يكيد بعضهم لبعض في سبيل الوصول إلى كرسي الحكم. بينما هم مستسلمون أمام العدو الخارجي. فحين أرسل زعيم التتار للسلطان قطز يهدده ويتوعده ويدعوه للتسليم وعدم المقاومة" استشار السلطان الأمراء فيما يجب أن يجيب التتار به، فأشار معظمهم أن يكتب إلى هولاكو جواباً لطيفاً يتقون به شره، ويتفقون معه على مال يؤدونه جزية إليه كل سنة لئلا يهجم على بلادهم فيهلك الحرث والنسل، وقالوا إنه لا فائدة من مقاومة التتار وأن اللين معهم أنفع من الشدة(4)".
عوامل النصر:
لم يحضر باكثير_كما أرى _ أسباب النصر في شخصية قطز وحده، وإن كانت هي الشخصية الأهم لأنها شخصية القائد أو الأمير الذي يقود الجماعة ويشكل المرجع الأخير والرأي الفيصل للأمة. وإنما جعل باكثير عدة عوامل تتظافر معاً لتشكل النصر في النهاية. وهذه العوامل-حسب ترتيب أهميتها كما ظهر لي من الرواية-هي كالتالي:
1-القائد الصالح:
ويمثله في الرواية سيف الدين قطز. الذي-كما يقول عنه باكثير في المقدمة-"يضرب بعدله ونزاهته المثل" وهذا القائد تمثلت فيه عدة صفات أهلته لهذا الدور الخطير الذي اضطلع به. من هذه الصفات نبل الأصل، فقطز من نسل ملوك خوارزم شاه، والشجاعة والفروسية، والتربية الخشنة فقد نشأ قطز عبداً مملوكاً ينتقل من سيد إلى آخر فخبر آلام الشعب وعايش مشكلاته وخبر صروف الدهر وتقلبات الأيام.
كذلك نشأ قطز نشأة دينية فقد تعرف قطز على الشيخ ابن عبد السلام في دمشق وأخذ يختلف إليه خلال فرض الإقامة الجبرية على الشيخ في منزله وكان قطز يدخل عليه في هيئة حلاق "فقد نعم(5) فيها بخلوات جميلة معه(6) أفاض عليه فيها من نفحاته وأسراره وأقبسه من أنواره ونفث فيه من روحه وأفاده من واسع علمه ما ملأه حكمة ويقيناً وبصيرة في الدين ومعرفة بالحياة وغراماً بالجهاد في سبيل الله(7)"
كذلك هناك الصفات الجسمانية والشخصية التي أهلته وأعانته على هذه القيادة "ولولا ما خصه الله به من قوة البنية ومتانة الأعصاب، ومضاء العزيمة، وصرامة الإرادة، وصدق الإيمان، والعقيدة القوية بأن الله قد هيأه وأعده للقيام بكسر التتار وطردهم من بلاد المسلمين، لما استطاع أن ينجز في بضعة أشهر ما يعجز غيره عن القيام به في بضع سنوات(8)"
2-العالم الصالح:
ويمثله في الرواية الشيخ عز الدين بن عبد السلام، العالم الذي لا يخشى في الله لومة لائم "وقد وجد في الشيخ ابن عبد السلام مثلاً صالحاً للعالم العامل بعلمه، الناصح لدينه ووطنه، الذي يرى حقاً أن العلماء ورثة الأنبياء في هداية الناس إلى الخير، ودفعهم عن سبيل الشر، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم لا يتجر بدينه ولا يريد الدنيا بعلمه، ولا يساوم في مصالح أمته ووطنه ولا يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً من حطام الدنيا ومتاع العاجلة(9)" هذا العالم الذي كان يجهر بآرائه المخالفة للسلطان حتى فرض عليه الصالح إسماعيل الإقامة الجبرية في بيته.
ثم انتقل إلى مصر لمساندة الملك الصالح أيوب الذي كان لا يمالئ الصليبيين بل يحاربهم ويجاهدهم. وقد ولاه الصالح أيوب القضاء ولكنه عزل نفسه منه حين رأى من الصالح عدم الإنصاف "وجهر بأنه لا يتولى القضاء لسلطان لا يعدل في القضية ولا يحكم بالسوية، وهكذا أرسلها هذا العالم العظيم خالصة لله قوية مجلجلة.. ولو ارتضى لنفسه مصانعة الملوك على حساب دينه كما يصنع غيره ممن لا خلاق لهم من العلماء لما نفته دمشق ولكان له فيها ما يريد من الثراء الواسع والجاه العريض(10)".
وهكذا حين تولى قطز الإمارة أخذ يستفتي الشيخ ابن عبد السلام ويعمل بفتياه "فاستفتى الملك المظفر العلماء في جواز فرض الأموال على العامة لإنفاقها في العساكر، فتهيب العلماء في الإفتاء وخافوا إن هم أفتوا أن يغضبوا العامة عليهم، وإن أفتوا بالمنع أن يغضب السلطان، فظلوا يتدافعون الإفتاء حتى صدع ابن عبد السلام بفتياه العظيمة فسكت سائر العلماء وانفض المجلس على ذلك(11)".
وكانت هذه الفتيا تقول: إنه لا يجوز فرض الأموال على العامة حتى يرد الأمراء ما لديهم من كنوز إلى بيت المال فإن لم تفِ بالحاجة جاز فرض الأموال على العامة لإنفاقها على الاستعداد للجهاد.
وقد سعد قطز بهذه الفتيا التي تدل على الشجاعة وسعة العلم "فما كان من الملك المظفر إلا أن اغرورقت عيناه بالدموع وقام إلى الشيخ فقبله على رأسه قائلاً: بارك الله لنا ولمصر فيك، إن الإسلام ليفتخر بعالم مثلك لا يخاف في الحق لومة لائم(12)".
3-الغني الصالح:
ثالث هذه العوامل هو الغني الصالح الذي ينفق ماله فيما شرعه الله من الإحسان والبر وتجهيز المجاهدين ويمثله في الرواية ابن الزعيم "والسيد ابن الزعيم مثل صالح للغني الشاكر نعمة الله عليه، لم ينس حق الله في ماله، فكان ينفق منه على الفقراء والمساكين وذوي الحاجة من الأرامل واليتامى، وكان يرى أن لدينه ووطنه حقوقاً عليه، لا تبرأ ذمته حتى يؤديها، فلم يكن من حدث يحدث في الدين إلا غضب له وسعى لإنكاره وإزالته، وما ألمّت بوطنه نكبة إلا سعى في تخفيفها، ولا هدده خطر إلا انتدب لدفعه عنه، وكم من غني في دمشق لا همّ لهم إلا ملء بطونهم وإشباع شهواتهم(13)". وقد وجد ابن الزعيم في الشيخ ابن عبد السلام مثالاً للعالم المخلص لدينه ووطنه "فأحبه ابن الزعيم وأخلص له وناصره بجاهه وأيده بماله وتعاون معه على البر والتقوى(14)".
4-الإعداد:
لاشك أن استفراغ الجهد في الإعداد لملاقاة العدو هو من أهم أسباب النصر عملاً بقوله تعالى:
)وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم((15) وهكذا نجد الملك المظفر قطز يستغرق عشرة أشهر في إعداد العدة وتجهيز الجيش لملاقاة العدو "ورأى الملك المظفر لما انسلخ الشهر العاشر من حكمه أن قد تكامل جيشه وأصبح كافياً بحول الله وقوته لملاقاة التتار(16)".
وقد كان من ضمن هذا الإعداد التصدي لحملات التهويل التي يبثها العدو لزرع الرعب في قلوب المسلمين "وقد سرى الخوف من التتار إلى مصر لكثرة اللاجئين إليها من العراق وديار بكر ومشارف الشام، وأخذ هؤلاء يحدثون الناس بفظائع التتار وأفاعيلهم المنكرة، من أشياء تقشعر لها الأبدان وتستك المسامع وتنخلع القلوب جزعاً وهلعاً... وقد شاع فيهم اعتقاد قوي بأن التتار قوم لا يغلبون، ولا يقاوم لهم جيش ولا تتقى منهم حصون فانتشر بينهم الرعب(17)".
وقد تصدى قطز لهذه الحملة بطمأنة المسلمين إلى أنهم منصورون بعون الله لهم، لأنهم على الحق، وعدوهم على الباطل، "فكان على نائب السلطنة(18) أن يبذل جهوداً عظيمة لطمأنة الناس وتسكين خواطرهم، وإفهامهم أن التتار ليسوا إلا بشراً مثلهم، بل هم بما أعزهم الله به من الإسلام أقوى من أولئك الوثنيين، وأجدر أن يثبتوا للبأس، وأن يبيعوا نفوسهم غالية في سبيل الله ودينه(19)".
ومن ضمن هذا الإعداد شحذ همم الناس عن طريق العلماء والخطباء في المساجد وتذكيرهم بما أعدّ الله للمجاهدين الصابرين من أجر عظيم، حتى قويت عزيمتهم، وارتفعت معنوياتهم "فخالط الناس شعور عظيم لم يعهدوا له مثيلاً من قبل، وأحسوا كأنهم خلق آخر غير ما كانوا، وأنهم يعيشون في عصر غير عصرهم ذاك –في عهد من عهود الإسلام الأولى، حين كان الصحابة رضوان الله عليهم يلبون دعوة الرسول r فينفرون خفافاً وثقالاً يجاهدون معه المشركين، ويبتغون إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة، حتى يجعلوا كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا(20)".
5-الشورى:
مبدأ الشورى من المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام الحكم في الإسلام، وفي تطبيقها عمل بقول الله تعالى ]وشاورهم في الأمر[ رغم أن المأمور هنا هو المعصوم المؤيد بالوحي r ليكون ذلك درساً وتعليماً لغيره. وما كان قطز القائد المسلم ليحيد عن هذه السنة الكريمة، فكان يستشير قادة جيشه، ويستأنس برأيهم "وكان السلطان يتشاور مع هؤلاء في رسم الخطط للهجوم على العدو، فكان يعرض الرأي فيناقشونه فيه، فيستمع إلى اعتراضاتهم واقتراحاتهم بانتباه شديد، فيرد على هذا برفق، ويتلقى رأي هذا بالقبول والاستحسان، ثم يستخلص من ذلك كله الرأي الذي يصمم عليه، بعدما أشعرهم جميعاً بأن الرأي رأيهم وليس رأيه وحده(21)".
6-الصبر عند اللقاء:
حين يشتد البأس ويحمى الوطيس فهنا لابد من الصبر والمجالدة وليس النصر سهلاً بل لابد من المصابرة والتحمل، وفي هذا الموقف يضرب القائد المثل لجنده بأن يكون هو أشدهم بأساً وقتالاً، وهكذا كان السلطان قطز، فحين يرى أن كفة العدو قد بدأت ترجح يكر بنفسه ليقوي من عزيمة المقاتلين: "وعندها تقدم السلطان قليلاً إلى الأمام فكشف عن خوذته، وألقى بها إلى الأرض، وصرخ بأعلى صوته ثلاثاً: "وا إسلاماه" وحمل بنفسه وبمن معه حملة صادقة، وتردد صوته هذا في أرجاء الغور، فسمعه معظم العسكر ورددوه معه، وحملوا حملة عنيفة انتعشت بها الميمنة(22)".
وهكذا كان السلطان قطز يقاتل بشراسة وقوة "وكان الملك المظفر يقاتل قتال المستميت، حاسر الرأس، وقد احمرّ وجهه، وانتفش شعره، فصار كأنه قطعة من اللهب يعلوها إعصار من الدخان الأسود(23)" على أنه لم يكن يلقي نفسه في المهالك بل لقد "كان في كل ذلك حذراً كأنما ينظر بألف عين، لا تفوته أقل حركة يقوم بها العدو، ولا أي تضعضع يبدو من قبل أصحابه(24)" وهكذا حتى كتب الله النصر لعباده المؤمنين، رغم قلة عددهم وعدتهم، بالمقارنة مع العدو مصداقاً لقوله تعالى ]كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين[(25)
7-اللجوء إلى الله في كل حال:
لاشك أن صدق اللجوء إلى الله عز وجل من أقوى عوامل النصر، فقد كان النبي r يدعو ربه في بدر، حتى سقط رداؤه عن كتفه. وكان قطز كثير الذكر لله خلال الاستعداد لبدء المعركة" وكان(26) في خلال ذلك يكثر من ذكر الله وتلاوة ما يحفظ من آيات القرآن وسوره(27)".
ولم يبدأ القتال إلا وقت صلاة الجمعة "وأما المسلمون فانتظر بهم الملك وقت صلاة الجمعة ليباشروا قتال أعدائهم، وخطباء المسلمين على المنابر يدعون لهم بالتأييد والنصر(28)" وحين رأى قطز أن كفة العدو بدأت ترجح، ألقى خوذته، وصرخ بأعلى صوته ثلاثاً: "وا إسلاماه" تذكيراً للمسلمين بعقيدتهم التي يدافعون عنها، ولجوءاً إلى الله تعالى أن ينصر دينه. وحين منَّ الله على عباده بالنصر المبين "خرّ الملك المظفر(29) ساجداً لربه شاكراً لما اجتباه من أنعمه(30)".
8-الدور الإيجابي للمرأة:
يرى باكثير أن للمرأة دوراً إيجابياً في الجهاد. وتمثل جلنار هذه المرأة الإيجابية في الرواية. فهي ابنة خال قطز، نشآ معاً، وتعرضا للتشرد معاً، وجربا حياة العبودية معاً، وتفرقا في دمشق، ثم التقيا في مصر، وأصبحا زوجين.
وكانت جلنار الزوجة الصالحة التي تعين زوجها وتؤازره، وهو يعد العدة لملاقاة التتار "وكانت زوجته وحبيبته السلطانة جلنار تشد أزره في ذلك كله، وتشجعه على المضي في هذا السبيل الوعر، فكانت تسهر الليل معه، وتشاطره همومه وآلامه، وتمسح بيدها الرقيقة شكواه، كلما ضاق صدره بتخاذل الأمراء عن طاعته، ونيلهم منه في مغيبه، ونفاقهم له في مشهده، وإلقائهم العواثير في طريقه، وكان ربما أنساه انهماكه السهر في عمله الدائب، طعامه وشرابه، فعُنيت بتقديمهما بنفسها إليه، وإذا أنهكه في أعقاب الليل، قامت إليه فأخذت بيده وقادته إلى فراشه، ليأخذ نصيبه من نومه وراحته.
وكانت لا تفتأ تملأ قلبه ثقة بالفوز فيما ندب نفسه للقيام به، فيزداد يقينه، ويتضاعف إيمانه(31)"
هكذا هي الزوجة المسلمة كما يصورها باكثير.
ولا يقتصر دور جلنار في الرواية على هذا، بل إنها قد شاركت في الجهاد بالسيف، عندما تطلب منها الأمر، ذلك حين انكشف المسلمون عن القائد، ورأت فارساً تترياً يكاد يغدر بالقائد " وكاد الفارس التتري الآخر أن يعلو السلطان بسفه لو لم يبرز له فارس ملثم شغله عن ذلك، فاختلفا ضربتين بالسيف فخرا صريعين. وصاح الفارس الملثم: صن نفسك يا سلطان المسلمين ها قد سبقتك إلى الجنة(32). ولم يكن هذا الفارس الملثم إلا زوجته جلنار.
ولهذا نرى باكثير يؤكد من بداية الرواية على اهتمام السلطان جلال الدين بتدريب ابنته (جلنار) على ركوب الخيل وفنون القتال تحسباً لمثل هذا اليوم.
ولست أرى أن باكثير يدعو إلى تجنيد المرأة ضمن الجيش، وإنما هو –في رأيي- يدعو إلى تعليمها شيئاً من فنون القتال حتى تستطيع الدفاع عن نفسها عند الحاجة.
ولقد مثلت جلنار قمة الشجاعة والتضحية حين فدت السلطان بروحها، وحين رأت السلطان يبكي لمصرعها ويندبها قائلاً: "وا زوجاه، وا حبيبتاه" رفعت طرفها إليه وقالت له بصوت ضعيف متقطع، وهي تجود بروحها في السياق : لا تقل وا حبيبتاه.. قل وا إسلاماه، وما لبثت أن لفظت الروح بين يديه(33) وقد بثت بمقولتها تلك روح الحماس في قلب قطز، فانطلق إلى ساحة القتال وهو يردد "وا إسلاماه" حتى كتب الله النصر للمسلمين.
لغة الرواية:
تمتاز الرواية –كسائر أعمال باكثير- بسمو اللغة وعذوبتها، فباكثير شاعر مبدع كما هو ناثر مبدع. وتتمثل براعتها اللغوية –في رأيي- في استخدامه للغة الفصحى السهلة الممتنعة. مع تطعيمها ببعض المفردات الرصينة التي تدل على عمق تمكن باكثير من ناصية اللغة، كما تسمو بذوق القارئ وتثري مخزونه اللغوي.
ومن هذه العبارات الرصينة –على سبيل المثال لا الحصر- قوله: "فعاد ببهرة جيشه(34)" وقوله: "ظل أياماً يفكر في وسيلة يسد بها خلته، ويقوي بها ضعفه، وبعد السبح الطويل في مهامه الفكر(35)" وقوله: "لأقطعن أيديكم وأرجلكم وأسملن عيونكم وأصطلمن آذانكم وأنوفكم وأبقرن بطونكم وأخرجن أمعاءكم وأشدخن رؤوسكم ثم لأقطعنكم إرباً إرباً(36)" وقوله: "فلم يطق أن يبقى منطوياً على كل ما يضطرب في صدره من لواعج الحب ونوازع الحنين ونوازي الفرح(37)" وغيرها كثير.
ثقافة الكاتب الدينية:
تبدو ثقافة الكاتب الدينية واضحة من خلال الرواية في مجملها، إذ إنها تدور حول محور الجهاد في سبيل الله، بما يشمله من جهاد بالنفس، جهاد بالمال، والإعداد لذلك إلى آخر تلك المعاني، التي تدل على ثقافة إسلامية عميقة. ولقد أبدع المؤلف في وصف الجهاد وأثره، وما ينتظر المجاهد من أجر عظيم عند الله.
فمن ذلك قوله في معرض حديثه عن الأمير ممدود –والد قطز- الذي مات شهيداً وهو في ريعان شبابه:
"مات الأمير ممدود شهيداً في سبيل الله، ولم يتجاوز الثلاثين من عمره، تاركاً وراءه زوجته البارة، وصبياً في المهد لما يدُر عليه الحول، ولم يتمتع برؤيته إلا أياماً قلائل، إذ شغله عنه خروجه مع جلال الدين لجهاد التتار. ولم يكن له –وهو يودع هذه الحياة ونعيمها- من عزاء إلا رجاؤه فيما أعد الله للشهداء المجاهدين في سبيله من النعيم المقيم والرضوان الأكبر(38)".
كما تبدو ثقافة الكاتب الدينية من خلال تضمينه لكثير من الآيات الكريمة، مما يدل على استيعابه لكتاب الله عز وجل، وتمثله له حتى امتلأت به نفسه، فسال على قلمه.
فمن ذلك قول الكاتب على لسان الأمير ممدود للسلطان جلال الدين:
"سيكون لك من معونة الله وتوفيقه إذا أخلصت الجهاد في سبيله، ما يشرح لك صدرك، ويضع عنك وزرك، الذي أنقض ظهرك، ويرفع لك بهزيمة التتار بين الناس ذكرك(39) "
وقوله:
"لقد تحقق ما كان يخشاه الأمير ممدود، فقد تغير جلال الدين لما بشر بالأنثى وظل وجهه مسوداً وهو كظيم(40)"
وقوله يصف معركة دارفسكور:
"وما إن انقطع المدد من دمياط عن العدو حتى أذاقهم الله لباس الجوع والخوف.. فضاقت عليهم أنفسهم وبلغت قلوبهم الحناجر .. ثم خربوا بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين .. والتجأ الملك الخاسر إلى تل المنية منية عبد الله، قال: "سآوي إلى جبل يعصمني من الموت" قال المسلمون: "لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم " وتم بينه وبينهم الأمان فكان من المعتقلين. وقيل يا أرض القتال ابلعي أشلاءك، ويا سماء الموت أقلعي، وغيض الدم وقضي الأمر، واستوت سفينة الإسلام على جودي النصر، وقيل بعداً للقوم الظالمين(41)" وغيرها كثير.
وتظهر ثقافته الدينية كذلك في إبداء وجهة النظر الإسلامية في التنجيم حين عقب على قول المنجم للسلطان جلال الدين أنه سيولد في أهل بيته "غلام يكون ملكاً عظيماً على بلاد عظيمة، ويهزم التتار هزيمة ساحقة(42)". عقب باكثير على ذلك من خلال وجهة نظر الأمير ممدود ابن عم السلطان، بقوله:
"هكذا يرى ممدود في هذا المنجم، وغيره من المنجمين والضاربين للرمل والقارئين في الكف، أنهم ليسوا إلا دجالين يدعون معرفة الغيب بما أوتوا من براعة وفطنة في تبين أحوال من يستفتيهم، وتقصي أسراره ودخائله. وعلى قدر هذه الفطنة والبراعة، يوفقون إلى إصابة الحقيقة في تنبؤاتهم وتخرصاتهم(43)".
وكذلك على لسان الشيخ ابن عبد السلام مخاطباً قطز:
"إنها تخرصات تخطئ وتصيب، وقد نهى الشرع عن التنجيم لأنه تسور على الغيب، ولا يعلم الغيب إلا الله(44)".
وقد استفاد باكثير من هذه النبوءة، في تشويق القارئ لمتابعة أحداث الرواية. ولكنه استبدل بها في منتصف الرواية رؤية قطز للنبي r وتبشيره له بأنه سيملك مصر، وسيهزم التتار(45). وهكذا حوّل باكثير –ببراعة- تحقق نبوءة المنجم إلى تصديق لرؤية النبي r.
كما تبدو ثقافته الفقهية في قوله عن قطز وجلنار حين ذكر أن سيدهما غانم المقدسي قد أوصى بإعتاقهما عند وفاته، وعلق على ذلك بقوله:
"كما دبّر لهما مولاهما الفقيد(46)" و (التدبير) في الفقه هو أن يوصي السيد بأن يعتق العبد عند وفاة السيد.
كذلك تبدو ثقافة الكاتب الدينية في لفته النظر إلى سنن الله في الكون، ومن ذلك قوله في معرض حديثه عن السلطان جلال الدين:
"وكأن الله شاء أن يعاقبه على ما أنزل ببلاد المسلمين من الخسف والدمار، وما ارتكب في أهلها الأبرياء من العظائم... فافتقد في طريقه هذا ثمرتي قلبه وأنسي حياته محموداً وجهاد(47)" فلأن جلال الدين بطش بالمسلمين انتقاماً من ملوكهم الذين تخلوا عن نصرته في حربه ضد التتار، فإن الله عاقبه بأن أفقده ثمرتي فؤاده: ابن أخته محموداً (قطز فيما بعد) الذي كان يعده وريثاً لعرشه من بعده، وابنته الوحيدة جهاد (جلنار فيما بعد).
خاتمة:
إن رواية (وا إسلاماه) تعد صرخة تهيب بالأمة الإسلامية أن حّي على الجهاد.
لقد كتب باكثير هذه الرواية قبل قيام الدولة العبرية بثلاثة أعوام، ولكنه كان يرى ما عليه الأمة من الضعف والهوان وممالأة العدو والاستسلام له، فكتب هذه الرواية الرائعة يستنهض بها الهمم ويشحذ بها العزائم، ويضرب لهم أروع الأمثلة من تاريخهم الحافل بالبطولات. ولم يختر باكثير فترة من فترات عهد النبوة أو الخلافة الراشدة، وإنما اختار عهداً تفرقت فيه الأمة الإسلامية إلى دويلات ضعيفة، خارت فيه الهمم، وكثر فيه المثبطون الداعون إلى الاستسلام للعدو لأمن بطشه وفتكه.
في ذلك العصر استطاع المسلمون بفضل إيمان وإخلاص قائدهم المظفر قطز، وبفضل شجاعة عالمهم الرباني عز الدين بن عبد السلام وصدعه بكلمة الحق دون خوف أو وجل، وبفضل إصرارهم على الجهاد وإعداد أقصى ما يستطيعون من عدة وإيثارهم ما عند الله على عرض الدنيا الزائل، استطاعوا بفضل ذلك كله الانتصار على العدو نصراً مؤزراً مبيناً.
لقد كان باكثير في هذه الرواية نموذجاً للأديب المسلم الذي يسخّر أدبه لإيقاظ أمته وبثّ الأمل بالنصر فيها وإرشادها إلى طريق الفلاح والعزة والنصر.
وتظل رواية (وا إسلاماه) صرخة تتردد في جنبات العالم الإسلامي حتى يومنا هذا بعد وفاة مؤلفها بأكثر من ثلاثة عقود من السنين، فهل من مجيب؟
الهوامش:
1- سورة التوبة، الأية24.
2- وا إسلاماه، ص(66) .
3- وا إسلاماه،ص(66).
4- علي أحمد باكثير:وا إسلاماه، دار الكتاب اللباني-بيروت، دون تاريخ،ص(232).
5- أي قطز.
6- أي ابن عبد السلام.
7- وا إسلاماه،ص(141).
8- وا إسلاماه، ص(237).
9- وا إسلاماه، ص(124).
10- وا إسلاماه، ص(161-162).
11- وا إسلاماه، ص(222).
12- وا إسلاماه، ص(222-223).
13- وا إسلاماه، ص(124).
14- وا إسلاماه، ص(124).
15- سورة الأنفال، الآية ص(60).
16- وا إسلاماه، ص(239).
17- وا إسلاماه، ص(215-216).
18- أي قطز.
19- وا إسلاماه، ص(216).
20- وا إسلاماه، ص(239-240).
21- سورة آل عمران، الآية (159).
22- وا إسلاماه، ص(252-253).
23- وا إسلاماه، ص(254).
24- وا إسلاماه، ص(253).
25- سورة البقرة، الآية (249).
26- أي قطز.
27- وا إسلاماه، ص(248).
28- وا إسلاماه، ص(248).
29- أي قطز.
30- وا إسلاماه، ص(258).
31- وا إسلاماه، ص(238).
32- وا إسلاماه، ص(251).
33- وا إسلاماه، ص(251).
34- وا إسلاماه، ص(18).
35- وا إسلاماه، ص(65).
36- وا إسلاماه، ص(70- 71).
37- وا إسلاماه، ص(160).
38- وا إسلاماه، ص(19).
39- وا إسلاماه، ص(9).
40- وا إسلاماه، ص(15).
41- وا إسلاماه، ص(175).
42- وا إسلاماه، ص(12).
43- وا إسلاماه، ص(13).
44- وا إسلاماه، ص(134).
45- وا إسلاماه، ص(136).
46- وا إسلاماه، ص(108).
47- وا إسلاماه، ص(67).