جرح ورسالة
قراءة في قصة "نجلا العروس" للكاتب الأخ الزميل: حامد إغبارية
صالح أحمد
جرح، نكبة، رحلة عذاب، ورسالة... تلكم هي المحاور الحدثية في قصة نجلا العروس؛ ابنة فلسطين المجروحة المنكوبة ... وقد أبدع الكاتب في الربط بين هذه المحاور الحدثية، من خلال رموزها... وما رموزها إلا شخوصها – أصحابها وأهلها-
نجلا: النجلا لغة تعني: الكريمة الأصل والنسل، والنجلا أيضا: الظاهرة الواضحة والبيّنة... ونجلا؛ عروس قصّتنا، فتاة من قرية بيت الزير الفلسطينية، إحدى القرى المنكوبة والمشرّد اهلها عام 1948... بتخذها الكاتب أنموذجا لما حلّ بشعبنا الفلسطيني من مآس وويلات، لا تختلف من قرية إلى أخرى الا بقليل من التفاصيل والحكايات هنا وهناك. فالجرح واحد، والمأساة عامة على الجميع، وأقل ما توصف به أنها نكبة ما بعدها ولا مثلها نكبة..
بيت الزير إذن رمز مكاني يمثل عموم النكبة، وقصة نجلا قصة كل فتاة فلسطينية سلبت منها احلامها وفرحتها وفخرها... يسوقها لنا الكاتب في دائرة حدثية لتكون إحدى الشواهد على همجية ووحشية وإرهابية الاحتلال، وجريمة العالم بأسره؛ المتمثلة بالصمت المتواطئ، بل المشارك في جريمة النكبة... هذا الصمت العالمي الذي اتخذه الصهاينة ضوء أخضر لارتكاب جرائمهم الوحشية ضد شعب أعزل، أريد له وخطط له عالميا بأن يكون أعزلَ، وذلك من خلال إحكام قبضة الاستعمار على هذا الشعب، وتضييق الحصار عليه عسكريا واقتصاديا، ومنعه من التسلح، ومنعه من الاستعداد للدفاع عن نفسه وعن أرضه ووطنه وحقوقه، ومن ثم التخلي عنه وتركه وحيدا أعزلَ أمام قوة الصهاينة التي أمدّت بالسلاح والارشاد والدعم الكامل لتشكل جيشا قويا مدربا ...
هذا إضافة لتواطؤ الزمر العربية وما يسمى "هزلا" بجيش الإنقاذ؛ وتقاعسه المبرمج والموجه من قبل أسياده وقادته الحقيقيين – الإنجليز والفرنسيين- بل وقوى العالم الاستعماري أجمع بتعبير أدق وأشمل، لتكتمل بذلك خيوط المؤامرة على هذا الشعب المنكوب الأعزل؛ شعب فلسطين.
نجلا العروس إذن؛ رمز لفلسطين العروس، فلسطين الفردوس المغتصب... نجلا الجريحة، المغتصبة، المشردة... زمز فلسطين التي سرقت منها أفراحها وبهجة وراحة بال أهلها... وغرست مكانها الغصة الحرقة والنكبة والتّشرد والعذاب...
نجلا المشردة، بجرحها المزمن، ونزيفها المفتوح، وذراعها المشلولة من أثر العدوان، رمز لشعب فلسطين الذي وجد نفسه عاجزا مشلول القوة أمام تآمر العالم عليه، وقد حرم كل أسباب القوة والاستعداد للدفاع عن نفسه الا بجسده العاري ودمه النازف... والذي مازال مطاردا... كلما اشتد ساعده قليلا، وجد العالم يضربه ليضعف هذا الساعد أو يشله...
نجلا عروس فلسطين المهجّرة قسرا بنزيفها ونكبتها وعارها... إلى لبنان... الى المخيم؛ لتلاحقها النكبات والمآسي... حيثما حلت أو رحلت...
نجلا الجرح الذي لا يتوقف عن النّزيف، والألم الذي لا يتقوف عن عصر الروح والجسد... تحت وطأة النكبات المتلاحقة، لتخلف الذكريات المتراكمة ألما وحرقة ...
نجلا رحلة العذاب والمرار، ونجلا الذاكرة الحية رغم كل ذلك.. نجلا الكريمة الحرة، العروس الباقية على الزمن، ورغم المآسي والمحن والفتن؛ نجلا هي العنوان، نجلا هي الرسالة الباقية تقض مضاجع الظالمين.
***
ليس صدفة أن اختار الكاتب المبنى الدائري إطارا لقصته. وليس صدفة أيضا أن يختار لشخوصه النمط المسطّح؛ الواضح البيّن... وذلك لأنه أراد للقارئ أن يعايش بساطة الشخصيات، وصدقها وعفويتها ، للتدليل على صدق الأحداث المروية في إطار واقعي مسطح وواضح المبنى والمرمى... دون تورية أو رمز أو تعقيد أو حتى تزيين...
إنهم أشخاص بسطاء، كل أمورهم واضحة، لا شيء لديهم يُخفونه حتى ألمهم وجرحهم... وقد عاشوا بسطاء راضين بعيشهم البسيط وواقعهم البسيط... بل إن ميزتهم بساطتهم!! حتى دارت عليهم الدائرة، دائرة الأيام والأحداث والمآسي المبيّتة، التي لا ترحم البسطاء.
من هنا... أعتقد أنّ اختيار المبنى الدائري لعرض أحداث القصّة كان موفقا... فالمبنى الدائري يتميّز بمساحات تعبيرية واسعة... مع إمكانيات كبيرة لتداخل الأحداث وعودتها على بعضها، مع فرض جوّ تصاعدي للأحداث دون أن يعرض للحلول أو يلوّح بالنهايات... فكل مشهد يعتبر عقدة وقمة بذاته... ولا حل يلوح في الأفق ولا نهاية... النهايات في المبنى الدائري كلها مفتوحة... ولا حلول... فكل الأحداث مترابطة ومتداخلة ومصاعدة... ولا فاصل بينها على الرغم من البون الزمكاني ... وكأنما الشخصيات والأحداث تدور في دائرة محكمة، وتبدو كقدر محتوم ولا يد لهم به...
تبدأ القصة بعرس نجلا وفخري الفرحان... عرس القرية، عرس فلسطين الآمنة الوادعة التي بُيِّتَ لها الشر وهي في غفلة... لينتهي عرسها بجراح واغتصاب وقتل وتشريد... إنه جرح فلسطين ونكبتها.. واغتصاب أرضها وعرضها... وقتل أفراحها وفخرها.. الذي تلخصه نجلا بقولها لابنها: "أخذ حق أبوك" وحق أبيه أرضه وعرضه وفرحه ودمه وروحه.. الذي سلبوه إياه.. ولكن تبقى إرادة السماء، وعدل الله لا يغفل ولا ينسى.. فتخرج نجلا من المجزرة حية... وتحمل في رحمها جنين الحياة... ابنها عايد... الذي سيعيد لها الحياة مهما طال الزمن وقست الظروف ..
خرجت نجلا من قريتها من فردوسها وقد سلبت فرحها وفخرها، "إشارة لعريسها فخري الفرحان" تتكئ على عمر العلي الجريح إخو الشهيد، ليسند الجرح الجرح، ويغذي النّزف النّزف... ويتوحد الدم والجرح والمصير.. ليظل هذا الجرح وهذا المصير خيط القدر الذي يجمع بينهما بعد كل نكبة، ليصرخ من وراء الكلمات: مازالت اخوتنا باقية، ووحدتنا باقية، وذاكرتنا حيّة، توحدنا لتضعنا معا في مواجهة الواقع والمصير...
وفي نفس الدائرة، دائرة النكبة والجرح المفتوح؛ تدور الأيام والأحداث والمشاهد، ليكبر عايد، ويعرف سبب جرح أمه ونكبة شعبه، ليعرف مغتصب حقه وحق أبيه- عرضه وارضه وفرحته وفخره- ليعود عايد، وفي قلبه صرخة الحق، لتكون هي الرسالة: رسالة نجلا عروس فلسطين... "كل ظالم سيجني شر افعاله" "وعلى الباغي تدور الدّوائر" إنها الدائرة التي لا تستقر، بل تبقى دائرة والأحداث معها دائرة، حتى ينال الظالم جزاء ظلمه، ويعود الحق لأصحابه.
لقد عاد عايد ليولد من جديد: عايد فخري فرحان، لتهتف أمه من قلب المعاناة ورغم المعاناة " اليوم بقدر أقول أني أم عايد إبن فخري الفرحان"ص47.
وتستمر دائرة النكبات والجراح، عايد أسير (رمز حق العودة الأسير المقيّد) وأمه تحت رحمة وحوش الكتائب ومجرمي الحرب، وقد نجت مجددا من مجزرة جديدة، (صبرا وشاتيلا).. ويعود عمر رمز التشرد، من تونس ليجد اخته (أخت الجرح والنكبة) ليعلن وحدة الحق والمصير رغم الجراح والنكبات: " أنت الحكاية من أولها لآخرها؛ أنت نجلا العروس، ورح تظلي نجلا العروس"ص46 . إشارة إلى أن القضية ما زالت حية متجددة قوية في الذاكرة والنفوس.
وتعلن نجلا حقيقة واضحة لا لبس فيها: "رحلة العذاب بعدها ما انتهت خيّا! زي ما صار معي مبارح، صار معي اليوم" ص46
إنها دائرة الجرح، الذي لم يغيره الزمان ، ولم يختلف رغم اختلاف المكان، إذ لم تختلف الأيدي الآثمة، إنها واحدة، تنبع من نار واحدة، نار المصالح الإستعمارية الآثمة. والأيدي المنفذة تبقى مجرد أدوات، والجريمة هي الجريمة والجرح هو الجرح... والمحصلة: عالم صامت يشارك المجرمين بصمته، بل برضاه عما يحدث ، بل بالدفع اليه وتكريم مرتكبيه...
ولكن الذاكرة ما تزال حية، والرحم ما زال ينجب، وعايد مازال حيا، وحقه بقلبه وذاكرته حي، وسيبقى عايد بن نجلا العروس، بن فخري الفرحان، ولا بدّ للعروس من فرح يورثها الفخر العظيم وإن طال الزمان، ومهما دارت الدائرة...
*********
قصة مشوّقة على قصرها، شعرنا معها بدائرية الحدث والرواية، وتفاعلنا مع شخوصها ، وكانت بساطتهم، وشفافيتهم، وحقيقتهم أهم عناصر التشويق في القصة...
البناء الدائري للقصة بهذا الشكل الرائع والمحكم يشي برغبة دفينة في نفس الكاتب بأن ينتج رواية ضخمة تتشابك فيها الأحداث أكثر وأكثر، وتتضح ملامح الشخصيات وتتطوّر وتتدوّر أكثر وأكثر، وتتكشف عن نفسيّات وأحلام، وآمال تتشابك مع واقع مرير بأحداثه وجراحه ليكشف عن مستقبل أكثر وضوحا، وحل أكثر شفافية وأوضح ملامح ومعالم ..
ولكن وكما أشار الكاتب في مقدمته، ولأسباب في نفسه، آثر الإختصار لتخرج هكذا...
نعم كان بالإمكان أن تنَمّى الأحداث، وأن تُطَوَّر الشخوص لينضج العمل إلى رواية أكثر تأثيرا وأعظم شموليا للاحداث، وتصويرا لتصاعد الوقائع والتفاعلات النفسية والحياتية والفكرية ...
نبارك للزميل المبدع حامد إغبارية هذا العمل الموفق الرائع... وننتظر منه مستقبلا إبداعات أكثر نضوجا فنيا وتعبيريا ...