مع الشاعر تميم البرغوثي

في ديوانه (في القدس)

"الهوية والرؤيا"

إبراهيم جوهر

 ينشغل الشاعر تميم البرغوثي في ديوانه (في القدس) بهموم الهوية الثقافية الفلسطينية . و يأخذ من مكوّناتها دافعا يمضي به إلى الأمام فيحاوره ويناوره ، يشير إليه ويثبته ، يعلي من شأنه أو يقسو عليه .

الفكرة هي أساس المنطلق عند الشاعر في هذا الديوان ، والفكرة عادة تنبع من إحساس الشاعر بالمشكلات وتعامله معها والرد عليها : إنه يحدّد شيئا ما في مواجهته ، فيتحداه ويحاوره ، أو يصف وضعه في مقابل الوضع الآخر المقابل له في معادلة الصراع .

ومعادلة الصراع لدى الشاعر معادلة ذات مكوّنين مختلفين ، متناقضين ، متصارعين يشبهان الخطين المتوازيين إذ لا التقاء بينهما أبدا ، وإن كان اللقاء / التقاطع فهو مؤقت عابر ودام عدائي .

والشاعر يقول هذا صراحة بأسلوب خطابي ظاهر لا تلميح فيه  ، بل تراه معبأ بكل الأنفة والكبرياء والتحدي الغائص إلى جذور التاريخ والجغرافيا والثقافة . هذه الأقاليم التي تشكل ثقافته ومدده الذي يتكئ عليه ويثق به .

وهذا المدد الثقافي عند الشاعر يشمل الإنسان والتراث الأدبي وقصص النبوة التي تحدت كفار قريش وانتصرت عليهم بتوفيق من رب العالمين .

يعلي الشاعر البرغوثي من شأن المكان والإنسان في فلسطين ، فالمكان محور الصراع الذي لا حلّ فيه إلا بكون واحد لطرف الصراع العربي / الفلسطيني / الإسلامي . يقول في نهاية قصيدة ( في القدس ) :

" لا تبكِ عينك أيها المنسيّ من متن الكتاب

لا تبكِ عينك أيها العربي واعلم أنه

في القدس من في القدس لكن

لا أرى في القدس إلا أنت  "  (ص12) .

هكذا ترى العين رؤيتها البصيرية / البعيدة  . بعدما رأت العين رؤيتها البصرية العادية القريبة من واقع أسود قائم بفعل القوة والواقع ، هذا الواقع الذي يراه الشاعر زائلا ، متغيرا لصالح الطرف صاحب الامتداد الثقافي والحق الإنساني والقانوني في الوجود .

فماذا رأت العين في الواقع ؟ وكيف قادتها هذه الرؤية الواقعية البصرية إلى رؤيتها البصيرية المتحققة في المستقبل ؟ رأت العين الواقع متمثلا في 1) قانون الأعادي الذي يمنع الناس من زيارة القدس 2) جمال القدس الواقعي والنفسي المبهر ( متى تبصر القدس العتيقة مرة // فسوف تراها العين حيث تديرها ) ص3 .

3) أغراب جاؤوا من أصقاع الدنيا ( من جورجيا ، منهاتن ، بولونيا ، أثيوبيا ، بلاد الإفرنج )

4) جنود يفرضون واقعا احتلاليا .

ولكنّ البصيرة ترتد إلى التاريخ الذي ينبئها بــ :

1) الآثار الإسلامية الباقية ذات العلاقات الحميمة الحانية من أقواس وقباب وأبنية .

2) المدارس التاريخية

3) العبق التاريخي

4) القبور الإسلامية التاريخية

5) السجل التفصيلي بالأقوام التي وفدت إلى المدينة وحطت رحالها فيها ( تقبل كلّ من أتاها كافرا أو مؤمنا ) ص11

إنه يحدد معالم الهوية المقدسية ، يرتد من الواقع إلى التاريخ ، ثم يعود إلى الواقع في رحلته المحاصرة ، ليصعد في بصيرة واثقة إلى مستقبل يراه مؤكدا : ( لا تبكِ عينك أيها العربي واعلم أنه // في القدس من في القدس لكن // لا أرى في القدس إلا أنت ) ص12 .

الهوية عند الشاعر :

( أنا لي سماء صغيرة زرقاء // أحملها على رأسي // وأسعى في بلاد الله من حيّ لحيّ // هذي سمائي في يدي ) ص24 .

والسماء نفسها في كلّ مكان ولكن الأرض تشاركها هذه السمة ، لذلك ينهي الشاعر قصيدته مشيرا إلى امتلاكه  شقا واحدا من المعادلة غير المكتملة ، فنراه يتمنى  : ( يا ليت أرضا / أي أرض / في يديّ ) ص34 .

ويحمل الشاعر هموم شعبه في قصيدة ( أيها الناس ) :

ثم إني أحكي حكاية قوم // لغة الله خبزهم والماء ص169

ولغة الله : اللغة العربية بالمعنى اللغوي ، ولغة العدل والمحبة والقيم السمحة ، بالمعمى الاصطلاحي .

أما قوله : ( أحكي ) فتعني هنا : أنقل  و أتبنى وأحمل . إنه يعرّف بنفسه وبشعبه / قومه ، رابطا هذا كله بالمعتقد الديني الذي يشكل جزءا أصيلا من هوية الفرد الفلسطيني في هذه البلاد .

ثم نراه يختم هذا ا لتفصيل الشعري لغة وإيحاء بالتعريج على هويته الذاتية الشخصية المؤطرة بإطار عام بليغ الدلالة : ( أنا ابن مريد ورضوى // بلادي فلسطين // واسمي تميم ) ص173

لقد انشغل الشاعر بالهوية : هوية الوطن / وهوية الإنسان ، وهوية التاريخ في ديوانه الأخير ( في القدس ) .

وما العنوان نفسه إلا دلالة واضحة المعاني .

لقد جاء ديوان الشاعر تميم البرغوثي ، وقصيدته الأشهر التي حمل الديوان اسمها ( في القدس ) في وقته ، زمانيا وسياسيا واجتماعيا ؛ ففي الوقت الذي غاب فيه جمهور الشعر لأسباب عديدة ، جاء هذا الديوان ليعيد للشعر جمهوره . وفي الوقت الذي غيّبت فيه القدس ، وأجلت قضيتها ، جاء هذا الديوان ليضعها على رأس سلم الأولويات. وفي الوقت الذي بدأت فيه الهوية المقدسية كمفهوم وانتماء وافتخار وتحد وثقة ، جاء هذا الديوان ، وتلك القصيدة الأشهر .

ومما أسهم في زيادة الأثر والترويج له : هذه اللغة الحميمة الواضحة الصادقة ، التي حملت من الشعر أحاسيسه ، ومن النثر وضوحه وجماله ، ومن الشاعر فكره وعشقه .