الشعر في الأعداد الأخيرة من مجلة الأدب الإسلامي
الشعر في الأعداد الأخيرة
من مجلة الأدب الإسلامي
قراءة نقدية
بقلم: محمد الحسناوي
بعد مطالعة النصوص الشعرية في الأعداد الخمسة الأخيرة من مجلة ( الأدب الإسلامي ) : ( 31 و32و34- 35 ) يمكن الخروج بالحصيلة النقدية التالية :
هناك نوع من التوازن الكمي في المساحة المخصصة للشعر في كل عدد ، حيث كان عدد النصوص على التوالي : ( 14قصيدة – 11- 10 – 16 = 49 ) ، لكن توزيع الحصص على الأقطار العربية والإسلامية لم يكن متوازناً ، وهو :
السعودية 14 قصيدة
سورية 12 =
مصر 11 =
المغرب 6 =
فلسطين 2 =
تركية 1 =
الجزائر 1 =
فإذا علمنا أننا أعدنا الجنسية للشعراء إلى أقطارهم من حيث الولادة لا الإقامة أو التجنس ، كالمنتسبين إلى الجنسية السعودية ، نجد أن المساحة ما تزال متفاوتة بين الأقطار قياساً إلى حجم كل منها البشري أو عمقها الثقافي أو عطائها الشعري . وأوضح مقارنة نقع عليها ، التفاوت بين حصة شعراء السعودية وشعراء القطر المصري أكبر الأقطار ، وأغناها عدداً وثقافة وشعرأً ! فهل لوجود مقرّ ( المجلة ) في ( الرياض ) علاقة في المحصلة ، أم لوجود المجاملات ، أم للأمرين معاً ؟! نحن لا ندعو إلى التحكم في حساب الحصص ، بل ندعو إلى مراعاة الكفاءة ، ثم يأتي التوزيع عادلاً بشكل طبيعي أو عفوي ، ولا بأس شرعاً أو عرفاً أن تكون الجياد من قطر واحد ! ولن تكون .
أما (العروض) الذي اختاره الشعراء ، فقد تراوح بين أربعين قصيدة على بحور الخليل ( أي الشطرين والقافية الواحدة ) ، وبين سبع قصائد على عروض التفعيلة الواحدة والقافية المنوعة ، ثم قصيدتين مترجمتين نثراً . هذه المؤشرات ليست بذات بال في حدّ ذاتها ، لكن إذا انضمت وفرة النصوص الخليلية إلى وفرة الموضوعات التقليدية ، صار لهذا التفاوت مدلول معين ، غير مرغوب !
بالنسبة إلى الموضوعات أو الأغراض التي تناولها شعراء النصوص المدروسة ، نجدها موزعة على الشكل التالي :
الرثاء ( الإخوانيات ) 20 قصيدة
الاستنهاض ( الفخر ) 7 =
فلسطين 7 =
الشعر الروحي 5 =
الذاتي الصرف 4 =
الوطن ( حنين ) 2 =
الحِكَم 1 =
للشاعر مطلق الحرية في اختيار الموضوع أو الغرض الذي يرغب بتناوله ، لكن ازدحام الشعراء حول موضوعات ، وانصرافهم كلياً أو جزئياً عن أخرى – في المجال الإحصائي – أمر يلفت النظر . فالواقع الأدبي والشعري يتخفف في عصرنا من الموضوعات التقليدية ، ويقبل على الموضوعات الجديدة أو ذات البعد الجماعي ، ولا سيما الأدب الإسلامي ، كالموضوعات الوطنية والاجتماعية والإنسانية والإلهية . إن الأدب الإسلامي جدير أن يكون سباقاً في مثل هذه القضايا الجماعية أو الروحية ، لأنه أدب ملتزم ، لا يعدم الشعر الذاتي ، لكنه يرحب بالتجارب الأوسع والأعمق والأسمى . ولا يقولنّ امرؤ : إن مناسبة ( تأبين ) الأعلام كالطنطاوي – رحمه الله تعالى – هي السبب ، فنقول : يمكن جمع النصوص التأبينية في تقرير ملحق بالمجلة ، بعد الاحتفاظ بقصيدة أو أكثر ( متميزة ) . والأغرب انه تم جمع قصائد منشورة سابقاً خارج المجلة . وبالمناسبة أقترح فتح باب جديد ، بعنوان : ( رسائل الأدباء ) ، تنشر فيه مثل هذه النصوص الإخوانية وأمثالها .
أما النصوص المترجمة ، فاثنان : أحدهما عن اللغة التركية ، والثاني عن الأمازيغية . والترجمة عن الأمازيغية قابلة للجدل ، لكن النص على كل حال جميل .
من حيث البناء الفني للنصوص كان حظ الشعر الغنائي هو الأكثر ، كما هو شائع في الشعر عامة . أما أن يطغى عند الإسلاميين ، فتكون النسبة : خمسة وأربعين نصاً غنائياً ، وخمسة نصوص قصصية ومسرحية واحدة ، فإن الأمر غير طبيعي ، وما أدري مدى مسؤولية ( المجلة ) أو أسرة التحرير عن ذلك ، لكنها ظاهرة ، تستحق لفت أنظار المبدعين الإسلاميين إليها .
المستوى الفني لهذه النصوص هو القضية البالغة الأهمية .
بكل اطمئنان أرى الامتناع عن نشر النصوص المتوسطة الجودة ، لأنه – في نظري – لا توسط في الفن ! وعلى هذا الأساس يمكن الاستغناء عن عشرة نصوص في الأقل ، مثل : ( مواكب النور – فخر النساء – بلد الظافرين – مناجاة – صيحة القدس – المعلم – وقفة على قبر شاعر – يا نخلة الجود – حان اللقاء – فقيد البيان ) .
مع تقديرنا للمواهب والإبداعات ، لا تبهرنا قصيدة في بقية النصوص الجيدة ، ومع ذلك تسترعي انتباهنا مزايا مشرقة نخصها بالذكر .
الشهادة
مسرحية ( الشهادة ) للدكتور غازي طليمات الشعرية ، حققت حضوراً مشهودا ، فموضوعها ( الشهادة ) ، المستقاة أحداثها من معركة ( مؤتة ) ، موضوع إسلامي بامتياز . حتى الآن لم ألق في قراءاتي الأدبية العربية والمترجمة ما يرقى إلى الإقناع حول ما يسمى ( النضال) أو ( التضحية ) من أجل الآخرين من وجهة نظر العلمانيين أو الماركسيين ، مثلما تفعله عقيدة الاستشهاد في سبيل الله . وهي من مزايا هذا الإسلام على مرّ الأزمان .
والحديث عن الشهادة في عصرنا يلبي مطلباً ملحاً ، ويعكس ما في الساح من نماذج بطولية ، لا سيما ضريبة الجهاد اليومي في فلسطين المحتلة . زد على ذلك القدرة على نفض الغبار والشبهات عنها ، سواء بالنسبة إلى الأعداء أو الأصدقاء . فالشهادة – في المسرحية ، كما هي في العقيدة الإسلامية – طريق للحياة ، سيان في الجنة أو في بقاء المجتمع البشري آمناً معافى ، بعد تضحيات الشهداء . الشهادة ليست مغامرة يائسة بائسة ، أو طلباً للموت وحده . حين يقرر الصحابي خالد بن الوليد – رضي الله عنه – انسحاب الجيش المسلم من موقعة مؤتة ، بعد استشهاد عدد وافر من القادة والصحابة ، بسبب التفاوت الهائل بين حجم الجيشين المتصارعين ، يحتج أحد المجاهدين لحرمانه من ( الشهادة ) كالآخرين – وهو عباد بن قيس - يدور حوار بينه وبين خالد :
خالد : عباّدُ ما الجهاد ؟
عباد : تضحيةٌ ، فجنّةٌ تُراد
خالد : بينهما ثالثةٌ يهفو إليها الجندُ والقوّاد
عباد : وما التي بينهما ؟
خالد : شمسٌ تٌُزيل غبشَ الضبابِ
عباد : ماذا عنيتَ ؟
خالد : حملنا النورَ للأنام
ودمُكَ الزيتُ يوقَدُ كي يُبدّد الظلام
أَحْرِقْهُ في المِصباح
لا تُرقْهُ في الأقداحِ كالمُدام
ليستضيءَ بالسنا القدسيّ كلٌّ جَبَلٍ وواد
يضاف إلى ذلك تمثّل التصور الإسلامي ، وحسن التعبير عنه . فالقصائد الأخرى تلمّ بالتصور الإسلامي بأشكال وبدرجات متنوعة متفاوتة : بدءاَ من الواجب إلى المندوب إلى المباح أو المعفوَِ عنه . وفي المعارك الفكرية ، كالمعارك العسكرية ، يتقدم التصور الأكمل والأجمل , وهذا ما توفر أيضاً لمسرحية (الشهادة ) التي نحن بصددها ، حتى استشف الشاعر دلالة القرار النبوي ، في تسمية ثلاثة رجال من الصحابة ، للتناوب على استلام الراية أو القيادة ، بما يوحي بالمقتلة التي سوف تحصل / حصلت ، وذلك خلافاً لعادة الرسول عليه السلام ، في الاكتفاء بتعيين قائد واحد للمعارك الأخرى .
نحن ندعو إلى انطلاق الأدب الإسلامي من واقعنا الاجتماعي أو الحضاري أو السياسي، ولا نمانع في الاستعانة بالتاريخ أو الانطلاق منه ، لكن موضوع الشهادة – وهو موضوع مهيب ، له قدسيته وظلاله الجادة – يكتسب من التاريخ ، لا سيما تاريخ الصدر الأول والصحابة دلالات ، تزيد في بهائه وإشعاعه . وإذا كان بعض الشخصيات ، مثل عبد الله بن رواحة – رضي الله عنه – شاعراً ، بل الشعر سليقة عند الصحابة أيضاً ، تمّ التسويغ الفني في أن تكون المسرحية شعرية ، على الرغم من تحول المسرح والذوق في عصرنا إلى المسرح النثري .
كل ذلك في رصيد هذه المسرحية ، أما مزيتها الأولى ، فهي التعبير الشعري ، والتناول الشعري لموضوعها . ذلك لأن التزامها العروض وحده ، لا يكسبها البعد الشعري . فالمسرحية النثرية ، إذا شفّ تعبيرها وتألق ، وكان تناولها لموضوعها شعرياً ، غدت مسرحية شعرية بمعنى من المعاني .
ومن براعة التعبير الشعري في مسرحية الشهادة ، تناسق الصور والظلال مع بيئة الأحداث زماناً ومكاناً ، فضلاً عن تصويرها خلجات الشخصيات النفسية . فالبطولة أو الشهادة ، ليست خياراً سهلاً على النفس البشرية . ومن الصدق الفني الاعتراف بذلك ، كالحوار الذي دار بين مضمد الجراح والصحابي ابن رواحة بعد قطع إصبعه :
عبد الله : ضمّدْها ، وضمّدْ فاكَ عن مَدحيَ بالسكوتِ
فلو عَراكَ ما عَراني متَّ من خوفِكَ حتفَ أنفِكْ
المضمد : أَخِفتَ عبدَ اللهِ جيشَ الروم؟
عبد الله : خوفَ الطِفلِ من عِفريتِ
ثم غسلتُ القلبَ بالإيمانِ من هوانهِ المكبوتِ
فأصبحَ العِفريتُ أوهى رهبةً من هدبٍ في طَرْفِكْ
في هذه السطور ما لا يقل عن أربع صور مندغمة في الحوار أيما اندغام ، معبرة عن المراد أجمل تعبير ( ضمد فاك – خوف الطفل من عفريت – غسلت القلب بالإيمان – العفريت أوهى من هدبة ) .
أما التناول الشعري لموضوع الشهادة – وهي قضية معنوية مجردة – فقد تجلى حضورها حياً نابضاً من خلال الأحداث ، وتفاعل النفوس الإنسانية معها درجة درجة ، لأن الشهادة تبدأ وتنتهي في النفوس . إن الشهادة ليس موتاً عبثياً ، ولا طلباً للجنة وحسب ، بل هي أيضاً : مصباح للإنارة ( دمك الزيت يوقد كي يبدد الظلام / أحرقه في المصباح / لا ترقه في الأقداح كالمدام / ليستضيء بالسنا القدسيّ كل جبل وواد ) .
تلويحة الوداع
من مزايا قصيدة ( تلويحة وداع ) للشاعر د . عبدالرحمن صالح العشماوي ، غير الافتتاحية المطولة : حول الشعر والحزن ، وتوالي المآسي ، ومفارقة الأحباب ، والحكم الموفقة : عن طباع الدنيا المتقلبة ، وضيعة الأدب والقيم في عصر الزيف ، ثم إيفاء المرثي حقه : من عرض أياديه البيض على الأدب واللغة والمجتمع ، ووقع رحيله على محبيه من بعده ، بأداء شعري لطيف .. أخص الذكر الانسيابية العفوية ، أو ما يسمى الشعر المطبوع ، أي استجابة الشاعر لطبعه في الأداء ، ولذوقه الفني أكثر من استجابته لثقافته العقلية أو الصناعية ، لأن الشعر يظل تعبيراً عن مشاعر ، لا عرضاً للذخيرة الثقافية . ومع ذلك كان المرجو أن يبرأ من بعض الهنات مثل : لفظ ( كذلك ) النثري ، و( لمّا ) التي هي حرف جزم وليست ظرف زمان مع الفعل المضارع : ( لما يضاحكها ) .
علـيّاً ستبقـى
مثل ذلك النفس المطبوع الرفاف نصادفه في قصيدة ( علياً ستبقى ) للشاعر سليمان بن زيد الجربوع ، والتوفيق في التعبير عن التصور الإسلامي أو الإشارة اللامحة للأسماء . يقول مخاطباً الموت خطاباً إبداعياً :
وهل هدأَ الحزنُ من ( بازِنا ) لِتُلحقَهُ نجمَنـا الأسعـدا ؟
وهلا عصفتَ بروض الهوى وأبقيتَ روض الهدى ممرعا
ولكنه الحكْمُ .. حُكْمُ القضـا وكلكمـا للقضا قد سعــى
في هذه الأبيات الثلاثة جملة من القضايا الفنية والإيمانية : أولها توظيف الأصل اللغوي لاسم الشيخ ابن باز – رحمه الله تعالى – حين أضافه إلى الضمير ( نا = نحن ) ، فاكتسب اللفظ بعداً جديداً من معناه : اسم طير قوي أبيّ من جهة ( وليست هنا تورية ) ، ومن اتصاله بـ (نا : نحن ) قومه وحزبه وأحباؤه وأمته .
مثل ذلك اللمحة الدالة على الفقيد الطنطاوي من غير تصريح ( نجمنا الأسطع ) ، فهو أولاً : نجم ، وهو في الوقت نفسه : أشد سطوعاً من بقية النجوم والأعلام .
في البيت الثاني براعة في مقابلة معسكر الإيمان بمعسكر الضلال من جهة ، ووصف كل منهما بالروض ، مع العلم أن الروض الحقيقي هو روض الهدى ! وليس المسوغ الوحيد لوصف معسكر الضلال بالروض هو تسهيل ( المقابلة ) أو ( المجانسة ) اللفظية ، وهما مطلوبان فنياً ، إنما عامل الشهوات التي تزين لأصحاب الهوى ذلك المعسكر ، وهو توفيق فني مطلوب .
بقيت الإشارة اللطيفة إلى التقارب/ التجانس اللفظي بين ( الهوى) و( الهدى) موسيقياً ، وبين اختلافهما دلالة ، وهذا بعض العوامل الخفية في التأثير على الحس والذوق .
في البيت الثالث وددنا لو لم يستخدم الشاعر لفظ ( لكن ) النثري ، لكنك ستغفر له ذلك في الصورة الفنية الإيمانية ، حين يقرن الشاعر حركة الموت موازية لحركة الفقيد ( كلكما للقضا قد سعى ) ، ففيها التسليم الإيماني من الشاعر ومن الفقيد بقضاء الله وقدره ، فضلاً عن تشخيص الموت بإنسان أولاً ، وبصديق أو رفيق ثانياً . لعلك تتساءل : هل كانت بقية الأبيات على هذا المستوى من الجودة ؟ نقول : نتمنى ذلك !