(الصفر) مجموعة قصصية لبشرى حيدر

عبد الله الطنطاوي

الصفر

مجموعة قصصية لبشرى حيدر  

بقلم : عبد الله الطنطاوي

للكاتبة الأديبة الصغيرة بشرى مجموعة قصصية سبقت هذه بسنة وبضع سنة، هي (حكايات من بلدي) وكان لها صدى في الوسط الأدبي والإعلامي، ذلك أنها أصغر كاتبة يظهر لها كتاب في وطننا العربيّ الكبير. فالكاتبة ليست مجهولة من قرائها.

ولكنّ الذي يطالع هذه المجموعة، يرى الفوارق شاسعة بين هذه المجموعة القصصّية وتلك، وهي فوارق لا تتأتّى لمن كبر سنة أو سنتين.. إنها كبرت عشر سنين، من حيث الفهم لطبيعة العمل القصصي الفنّي، والوعي بطبيعة الظروف التي تعايشها وتعاصرها، سياسيّة كانت أو اجتماعية.. ترصدها بعين ذكيّة، وعقل نيّر، وإحساس سليم، يخرجها عن دائرة الطفولة وبراءتها وعبثها في لهوها وجدّها.

ولا عجب.. فجيل الانتفاضة من الصغار -الذين تقدّموا وحملوا راية الكفاح الدّامي في فلسطين الحبيبة –هذا الجبل الثائر، صَّدر ثورته ووعيه وفهمه إلى الأجيال المجاورة، وبشرى من هذا الجيل (13سنة) الذي يبشّر بالخير في سائر المجالات: الأدبية والفنّية، والإصلاح السياسي والاجتماعي.

الموضوعات

تناولت بشرى -في هذه المجموعة- موضوعات اجتماعية، وسياسية، ورومانسية ذاتية، وتعليمية، تحدثت فيها عن أحوال مجتمعها، وأحوال الأهل في فلسطين، فوصفت أحوال الفقراء والمعدِمين، والثكالى والأيتام والمعذّبين الذين يعانون من ضَنْك الحياة وقسوتها، ويتُمها وثكلها، فيما الآخرون.. الآخرون من الجيران وسواهم، لا يأبهون بمعاناة هؤلاء، ولا يكترثون لأولئك الذين يرمون أنفسهم على الرَّدى دفاعاً عن الأرض والعِرْضِ والكرامة، وكأنّهم لا يدرون بما يجري..

القصّة السياسية

كتبت بشرى في (الشهادة) عن الشاب (عمر) ابن التسعة عشر ربيعاً أمضاها في طاعة الله وطاعة والديه الصالحين، وها هو ذا يقبع في الزنزانة، ينتظر تنفيذ حكم الإعدام عليه، ليفوز بالشهادة في سبيل الله، بعد أن سبقه أبوه.

ولكن.. لماذا اعتقلوا أباه ثم أعدموه؟

ولماذا اعتقلوا عمر وحكموا عليه بالموت؟

لا ندري.. وعلى القارئ أن يخمّن، فالزمن زمن العلوّ اليهودي، والمكان في فلسطين المحتلة، وبإمكانك أن تتخيّل ما يجري هناك.

وفي (الحلم) تحكي حلماً تحقق في مجزرة الحرم الإبراهيمي.. البنت تحكي منامها الذي فسّره الإجرام اليهودي في خليل الرحمن، إذ فقدت أباها وإخوتها الثلاثة الذين تعطّروا وذهبوا إلى صلاة الفجر، فجر يوم رمضانيّ تملأ أجواءه ملائكة الرحمان.

وفي (هو والسلام) تعالج قضية (السلام) ببساطة وذكاء، وبأسلوب مؤثر.

وفي (حب الوطن) نقرأ حكاية من آلاف الحكايات التي يتناقلها الناس الطيبّون عن أبطال الانتفاضة.. إنها حكاية شاب اسمه خالد، ثأر لأبيه محمد الخالد، وطعن جندياً ثملاً بسكين، ثم استشهد برصاص العدوّ اليهوديّ.. حكت قصّته بأسلوب حيّ مؤثر.

وكذلك الأمر في (يوميات كسيح) التي تعطينا صورة مؤثرة وواقعية عمّا يعانيه أهلنا الفقراء والمساكين تحت ثقل الجزارين اليهود، قدّمتها الكاتبة بنجاح، على شكل يوميات أظهرت تماسك الأسر الفقيرة، فالولد يعتني بأبيه الفقير المقعد، ثم يعتني بابنه المقعد، كما اعتنى بأبيه.

وتقصّ بشرى علينا قصة أحد المبعدين الذين أبعدتهم سلطات الاحتلال اليهودي، في أقصوصتها: (وافرحتاه).. وكأنها تريد أن تعيد إلى أصحاب الذاكرة المتعبة، ذكرى وذكريات الإبعاد الذي مارسه الصهاينة المغتصبون الغزاة، ضدّ إخواننا في الأرض المقدّسة المحتلة، ذات يوم غير بعيد، وقد يمارسون مثل هذا الإبعاد في قابل الأيام، لأنهم –الصهاينة- مجرمون متوحشون... هذا (المبعد) كان الأب والأخ والعمّ والجدّ للشخصية المحورية في القصة، التي تتحدث بأسلوب الترجمة الذاتية، فتستخدم ضمير المتكلم، كما تستخدم اللاوعي في أسلوب الارتجاع أو الارتداد إلى الماضي وهو يسمع كلمة (مبعد).

وهذه القصة سياسية تتحدث عن ظلم اليهود المتسلطين، والجور الذي يوقعونه بأبناء الشعب الفلسطيني المجاهد.

القصة الاجتماعية

الحقيقة الصارخة تقول: إن بشرى مزجت بين الجوانب السياسيّة والوطنيّة والاجتماعية في قصصها، والذي يعود إلى قراءة القصص التي تحدّثنا عنها قبل قليل، يرى صحة هذه المقولة، ومع ذلك، نستطيع أن نلحظ الجوانب الاجتماعية، وهي كلها تنضح بالحزن، في قصص غير التي ذكرناها آنفاً كقصة (أفكار مصابة) التي تحكي عن حال أسرة فقيرة، ورثت الفقر كابراً عن كابر، أو صاغراً عن صاغر.

وفي (مشاعر أخت) وصفٌ دقيق لمشاعر أخت ترى أخاها الذي تعرفه أسداً، ممدَّداً أمامها، عاجزاً عن الحركة.

وفي (التجاعيد) تطالعنا صورة امرأة شابة، أكلتها الهموم، فغزتها التجاعيد..

وكذلك نقرأ في (الشعور المجروح) قصة تلميذ اسمه عوني، فقير، انعزالي، يتحمل إهانات زملائه بصبر عجيب، حتى حسبه زميله راوي القصة (محمد) بلا إحساس. والراوي يروي لنا هذا في يومياته، ويعدّ تحمُّله تلك الإهانات من بقايا الاستعمار، أو نتيجة البعد عن الإسلام دين الكرامة والعزّة.

عالم الطفولة

كاتبتنا الصغيرة بشرى طفلة بنت ثلاث عشرة، وهذا يعني أن تبقى في دائرة الطفولة، مهما حاولت الخروج عليها، وهذا العالم البريء الجميل الذي نحنّ إليه جميعاً، يتبدّى في عدد من قصصها الجميلة، في هذه المجموعة الجميلة.

ففي (درس القطّة) –وللحيوانات مكان بارز وحيّزٌ كبير في أخيلة أحبّائنا الصِّغار- تطالعنا صورة طفل تمتدّ يداه لإيذاء قطة، ثم ينام ليرى في منامه تلك القطة المظلومة، تنهش لحمه، ويكون هذا الحلم سبباً في الحدّ من شقاوته، وفي صلاح أمره.

وفي (شرخ في جدار العدل) حكاية تلميذة ظُلمت في الامتحان، ثم رُدّت إليها ظُلامتها.

وفي (تجدّد الأمل) تحكي قصة فوزها في المسابقة، فعفاف هي نفسها بشرى، والله أعلم. وقد تمكنت الكاتبة الصغيرة من تقديم صورة عن مشاعرها تجاه أول فوز لها بمسابقة أدبية، وقد أشعرها فوزها هذا بأنها غدت أديبة، تقف إلى جانب المعلمات بقامتها القصيرة –تلميذة في الصفّ الثامن- والجميل في هذه الفائزة الصغيرة، ألاّ يكون فوزُها هذا سبباً يدفعها إلى الغرور الذي هو هبة الله للنفوس الصغيرة، بل كان دافعاً إلى الأمام، لدخول مسابقة العام القادم في جدّ واجتهاد.. يعني.. هي بشرى في فوزها الأول، وفي نجاح مجموعتها الأولى، ثم في فوزها الثاني، وفي مجموعتها الثانية هذه.

وفي (رنا والمكتبة) نقرأ قصة تعليمية هادفة.. (رنا) الفتاة المجدّة الصغيرة، ترشد الأخريات إلى الآداب التي على روّاد المكتبات العامّة أن يتحلّوا بها.

وكذلك الأمر في (شجرة الأقلام) التي تتحدث عن طفلة تعبث بحديقتها..

فنّيتها

عندما ندرس هذه المجموعة القصصية، نضع في اعتبارنا أنها لفتاة لم تغادر عالم الطفولة بعد، فهي -عندما انتهت من كتابتها- كانت في الصف الثامن.. ابنة ثلاث عشرة سنة.. نقول هذا، لما له من تأثير في الحكم على فنيّة القصة، وعلى نضج أفكار الكاتبة، ونضج معالجتها لموضوعاتها وخيالها الجوّال في خصوبة نحمدها لها، ونرجو لها المزيد منها.

وقد تفاوتت القصص علوّاً ونزولاً، ويبدو أن لهذا صلة بعمرها، وفي لحظة القدح الإبداعي لديها. وإن كانت قصص أحداث، حكاية حدث، لها بداية ووسط ونهاية.

استخدمت في قصّها السرد المباشر، باستخدام ضمير الغائب، ولم تستخدم ضمير المتكلم إلا مرة واحدة، ولو أن عمرها ساعدها في الاطلاع على بعض الكتب التي تتحدث عن فنّ القصة، وعن فنّ المقالة، لتجاوزت بعض المطبّات التي جعلتها تتردد بين القصة والمقالة في (مشاعر أخت) و(الشعور المجروح) مثلاً، ولتجاوزت المباشرة والوعظ الفاقع، كما في (الدرس) و(درس القطة).

نطالع النجاح في أسلوب القصّ، وفي الحبكة المُحْكَمة في (يوميات كسيح –أفكار مصابة –حبّ الوطن –هو والسلام –الحلم –والتجاعيد) بأسلوبها الشاعري وبوصفها الدقيق، وكذلك (شرخ في جدار العدل) التي لم يكدّر صفاءها سوى استخدام المضارع بدلاً من الماضي، كدأب كتبة اليوم، المتأثرين بالأساليب المترجمة. وكقصة (الشهادة) التي لجأت فيها الكاتبة إلى استخدام أسلوب جديد في القصّ، استخدمت المونولوج الداخلي وأسلوب الارتجاع أو الارتداد إلى الماضي، ومزجت بين الواقع المعيش، والماضي القريب، ولا تحتاج هذه الأقصوصة إلا إلى بعض(الرتوش) حتى تكون قصة فنيّة مكتملة البناء، من حيث الحدث والحبكة والشخصيات.

رسم الشخصيات

تفاوتت الشخصيات من قصة لأخرى.. بعض الشخصيات كانت مسطحة، وبعضها عرفنا منها بُعداً أو بُعدين، وبعضها عرفناها بأبعادها الثلاثة..

ففي (الدرس) رسمت لنا الكاتبة البُعد النفسيّ لأحمد، وأغفلت البعدين الآخرين: الجسدي والاجتماعي، بينما لم نعرف شيئاً ذا بال عن الشخصيات الأخرى. وكذلك في (رنا والمكتبة).

أما شخصيات (هو والسلام) و(حبّ الوطن) فهي معقولة. وقد وصفت اليهوديّ وصفاً منطقياً سليماً في الأخيرة.. وصفت منطقه العجيب، وتفكيره الأعجب في سؤاله عن أولئك الشبان الذين يرمون بأنفسهم إلى الموت المحقق، فيجيبه الآخر بلهجته اليهودية الساخرة: "حبّ الوطن خبيبي".

وفي (وافرحتاه) ذكرت الأبعاد الثلاثة للشخصية المحورية، في كلمات قليلة، ولكنها معبّرة.

جيل جادٌّ حزين

سمة الجدّ والحزن ظاهرة على قصص هذه المجموعة، وهي تشير إلى بداية نضج فنّي، ووعي سياسيّ واجتماعي، بل وعي لما يجري حولها في دنيا العرب والمسلمين الكبار، وليس في عالم الصغار من أترابها.. نضج مبكّر، ووعي لما يحدث.. إنه الحزن الأبدي الرابض على قلوب الأتقياء الأنقياء الواعين المخلصين الذين يعملون على مسح البؤس القاسي الظاهر على وجوه الأمهات الثاكلات، وعلى وجوه الأخوات والجدّات والعمّات، وعلى وجوه الأرامل والأيتام الذين يَلقَون الألاقي في عهود الظلم التي فعلت ما فعلت وما تزال تفعل.

بين المجموعتين

التطور واضح بين المجموعتين.. الأولى (حكايات من بلدي) بما فيها من طفولية في التفكير والأسلوب وطريقة القصّ، وبين هذه المجموعة (الصفر) بما فيها من وعي لحاضرنا الموجع الذي ينزّ آلاماً وأحزاناً واكتئاباً تعيها الكاتبة.. آلام الظلم السياسي، والجور الاجتماعي، اللذين لم يوفّرا أسرة من شعبنا الطيب، إلا وعصفا بها، هنا وهناك وهنالك.. خاصة في فلسطين الحبيبة الأسيرة، حيث يئنّ أهلها الطيبون المجاهدون تحت وطأة الاحتلال والاستيطان.. احتلال الهمج أوباش البشرية، من اليهود، وبسبب ظلم العملاء والخونة والجواسيس المحسوبين على هذه الأمة.

في هذه المجموعة: تطوّر في الفكر، وفنيّة في الأداء، وإشراق في الأسلوب، يجعلنا نحسب الكاتبة كبرت عشر سنين، وليس سنة وبضع سنة، بما أوتيت من دقة في الإحساس، ودقة في الملاحظة، ودقة في الوصف أيضاً، جعلتها أكبر من الشهور التي تخطّتها إلى هذه المجموعة، الأمر الذي يحفزني إلى التفاؤل بميلاد كاتبة مجيدة، خاصة في فنّ القصّ والوصف.

مرحى بشرى، ونحن في انتظار مجموعة ثالثة بعون الله!