السيرورة في الشعر الإسلامي الحديث
السيرورة
في الشعر الإسلامي الحديث
الشاعر وليد الأعظمي نموذجاً
بقلم: محمد الحسناوي
من الأطروحات التي لم تدرس بعد في الأدب الإسلامي "السيرورة في الشعر"، وإن كانت
مسألة التواصل بين الأديب المسلم وجمهوره ليست غامضة ولا مستبعدة، ولعلها مسوغة
ومتضمنة في التصور الإسلامي الذي ينفي الأنانية أو الانغلاق على الذات، ويسـتوجـب
وقد قيل - ولهذا القول بحث مستفيض ليس مكانه هنا: أعذب الشعر أكذبه! فأين نحن من مسألة "السيرورة" في شعرنا الحديث؟
المراد بالسيرورة في الشعر: أن يتمتع الشعر بمواصفات تسهل إذاعته وانتشاره وحتى حفظه وتداوله لدى أوسع حجم من الناس في زمانه وغير زمانه، مواصفات خاصة بالتعبير والتصوير، وأخرى في المعاني والمشاعر، وفي تاريخ الشعر العربي قصص ونوادر حول ذلك. مثلاً كان العرب يمنعون الأسير من قول الشعر لئلا يهجوهم فيحفظ السامعون من نسائهم وغلمانهم هذا الشعر، فيشيع بين الناس فيضيرهم، وشذَّ عن هذه القاعدة عبد يغوث الذي وقع في الأسر، ووضع في القيد والقِد، وربط لسانه ثم استجاب آسروه لطلبه، ففكوا الرباط عن لسانه، وسقوه خمراً ليذم أصحابه الذين تخلوا عنه، وينوح على نفسه، فقطعوا له عِرقاً يقال له الأكحل، وتركوه ينزف حتى مات، فقال قصيدة فريدة، تعرض فيها لأصحابه ولقاتليه حتى النساء منهم، وذهبت مذهب الأمثال، مطلعها:
ألا لا تَلوماني كفى اللومَ مابيا فما لَكُما في اللوم خيرٌ ولا لِيـا
ألـم تعلـما أن الملامةَ نفعُها قليلٌ، وما لومي أخي من شِماليا
وزاد من سيرورتها وأكدها الشاعر الإسلامي مالك بن الريب لما حضرته الوفاة وهو جريح مغترب أيام الفتح في سمرقند، ونظم قصيدة يرثي بها نفسه معارضاً بها قصيدة عبد يغوث، وعلى البحر والقافية نفسيهما:
ألا لـيتَ شِعْـري هل أبـيتنَّ ليلـةً بجنبِ الغَضى أُزجي القِلاص النَّواجِيا
فليتَ الغضى لم يقطعِ الركبُ عَرْضَه وليتَ الغضـى ماشـى الرِّكابَ ليالِيا
لقد كانَ في أهلِ الغَضى لو دنا الغضى مَـزارٌ ولكـنَّ الغضى لـيس دانـيا
ولما كانت قصيدة مالك بن الريب من الروعة بمكان "زعم بعض الناس أن الجن وضعت الصحيفة التي فيها القصيدة تحت رأسه بعد موته.
وقال القالي: كان من أجمل العرب جمالاً، وأبينهم بياناً".
وبوسعنا أن نستذكر عدداً من القصائد نسبت إلى الجن، أو وجدت تحت رأس أصحابها بعد موتهم، وهي من ذوات السيرورة أيضاً، منها قصيدة ابن زُريق البغدادي:
لا تعـذُليهِ فـإن العَـذْلَ يُولِعُهُ قـد قُلتِ حقَّاً ولكنْ ليسَ يسمَعُه
وقد روى صاحب الأغاني أن الفرزدق مرَّ بنسوة يتغنين بشعر:
بانَ الخليطُ ولو طُوِّعتُ ما بانا وقطَّعوا مـن حبالِ الوصلِ أقرانا
يا أمَّ عمروٍ جزاكِ اللـهُ مغفِرةً رُدّي علـيَّ فـؤادي مثـلما كانا
إنَّ العيونَ التي في طرفِها حَورٌ قَـتلنَـنا ثم لم يُحـيـينَ قَتلانا
فأعجبه الشعر، فقال: لمن هذا الشعر، فقلن له: ويلك إنه لجرير يهجوك!
السيرورة الشعرية قديماً كانت مزيّة مستحبة، وهي المجال الحيوي الذي كان يتقاتل عليه شعراء النقائض، وما أجمل قول الأخطل: "جرير يغرف من بحر، والفرزدق ينحت في صخر".
أما في زماننا هذا فإن السيرورة الشعرية أصبحت موضع جدل إن لم نقل أصبحت لدى بعض المحدثين سبة أو نقيصة.
من الدعاوى التي سوّغت شعر التفعيلة أن عروض الخليل أو الشعر (العمودي) مَعرض للضجيج والموسيقى الصاخبة، والناس اليوم بحاجة إلى "الشعر المهموس"، كما أن النبرة الخطابية في الشعر القديم- على حدِّ قولهم- لا يرتاح لها إلا العامة والأميون وأصحاب الذوق الساذج، زد على ذلك أن حياتنا المعقدة لا يعبر عنها بوضوح، والفن عدو التعبير المباشر. ولم يقف الجنوح عند حد حتى وصل إلى إلغاء التفعيلة والقافية والمتلقي مستمعاً كان أو قارئاً! وصار أدونيس مرشحاً لجائزة نوبل عن الشعر العربي؟!
نحن لسنا مع الشعر العربي القديم كله ولا ضد الشعر العربي الحديث كله، بل نحن مع الشعر الحقيقي أولاً، ومع الشعر الذي ينبع من التصور الإسلامي أو يلتقيه أو لا يتعارض معه، ثانياً.
فما الشعر الحقيقي؟
إنه الشعر الذي تعارفت الأمم لا العرب وحدهم على أنه شعر، وهذا لا يمنع أن يكون لكل أمة خصوصيات في شعرها، كقول عباس محمود العقاد بأن العرب انفردوا بالتقفية في شعرهم وأن الشعر الأوربي اقتبس التقفية فيما بعد من الشعر العربي(2).
أما الذي لا نستسيغه فهو أن تضيَّق مساحة الشعر على نوع من أنواعه كالشعر الغنائي أو الشعر الملحمي أو القصصي، أن يغلب التعصب للمذهب الإبداعي (الرومانسي) ضد المذهب الاتباعي (الكلاسيكي) أو الرمزي، وتكون الطامة حين تمارس عمليات طمس وترويج وإرهاب لتسويق شعر هجين يستعير مواصفاته ورموزه وخلفياته الفكرية والذوقية من أمم أخرى ليكون الأنموذج الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه باسم الحداثة، ثم ما بعد الحداثة.. وهكذا دواليك.. إنها مؤشرات على عقد النقص الحضارية، والاستهتار بهوية الذات التي لا بدَّ منها لكل عمل أصيل، لا سيما الشعر والفن.
بدأ الشعر العربي - كما نقدر- شعراً غنائياً شفوياً، وظل هذا الطابع غالباً عليه سواء في الايقاع الموسيقي أم في الأغراض والموضوعات، وهناك من يرى أن أجمل الشعر هو الذي قالته الأمم في بداوتها، ولعل تعليل ذلك راجع إلى غلبة العاطفة الفطرية والأخيلة الساذجة والبعد عن التعقيد، وهذا ما يفسر انعطاف الشعر بين حين وآخر إلى هذه الجذور من خلال العودة إلى الأساطير أو الشعر الرعوي أو ما شاكل ذلك.
في عصرنا الحديث الذي سمي عصر النهضة، انطلق الشعر العربي من عقاله واستعاد خصائصه الحية، ودخل الحياة العامة من بابها العريض، فصار لسان الجماعة في المحافل والمنابر والصحف والمجلات والأناشيد والأهازيج الشعبية. وكان الشاعر أحمد شوقي الجامع لفنون الشعر في زمانه، أغلب ما يغلب على شعره شعر المناسبات الدينية والوطنية والاجتماعية والسياسية، لم يكن في ذلك ضير، بل كان استجابة طوعية فنية لمقتضيات الزمان والمكان والسكان والوجدان بآن. ثم تعرضت مدرسة شوقي لنقد مرير من مدرسة (الديوان: العقاد والمازني)، ثم تعرضت مدرسة الديوان لانتقاد مدرسة شعر التفعيلة، وتعرضت مدرسة شعر التفعيلة لانتقاد من مدرسة الحداثة، وهكذا دواليك. وحتى أصبح المشهد الشعري مختلطاً على غير المتخصصين، وحتى أصبح الشعر غريباً على جمهوره العربي. بين هذا الركام يرتفع صوت الشاعرة نازك الملائكة النقدي قائلة: سيغدو شعر التفعيلة رافداً من روافد الشعر العربي العام كما غدت الموشحات. وتعلل ذلك بقولها: إن موسيقى بحور الخليل أغنى وأكثر تلويناً من موسيقى التفعيلة الواحدة. وهكذا تختصر معارك الشعر النقدية ومذاهبه المتعددة إلى غربلة، يزول فيها مايزول ويبقى فيها ما يبقى رافداً من الروافد لا بديلاً عن الأصل(3).
ويبقى السؤال ما مصير السيرورة الشعرية؟!
نحن نزعم -مطمئنين- أن السيرورة مزية شعرية أصيلة من مزايا الشعر العربي، إن لم تكن من مزايا الشعر العالمي، لذلك كان الغناء الفردي عند العرب والغناء الجماعي عند غيرهم في بواكير نشأة الشعر(4)، وإن إلغاء هذه المزية تجفيف لمنابع الشعر، وخنق لصوته الساحر. لامانع من أن يكون هناك ألوان من الشعر المهموس أو الخافت أو الرمزي، لكن الموسيقى لابد منها، واستجابة الآخرين لا يستغنى عنها، على الأقل استجابة الحبيب أو الخليل أو الصديق أو الجمهور المخاطب. يقول الشاعر حسان بن ثابت:
وإنّما الشعرُ لُبٌّ المرءِ يَعرِضُه على المجالسِ إن كَيْساً وإن حُمقا
وإنَّ أشعرَ بيـتٍ أنـتَ قائِـلُه بـيتٌ يقـالُ إذا أنشـدتَه صَدَقا
حكي أن زوج "عزة" أراد أن يحج بها. فسمع الشاعر "كُثيّر" الخبر، فقال: "والله لأحجنَّ، لعلّي أفوز من عزة بنظرة. قال: فبينما الناس في الطواف نظر كثير لعزة، وقد مضت إلى جمله فحيَّته، ومسحت بين عينيه، وقالت: حُييتَ، يا جَملٌ. فبادر ليلحقها، ففاتته، فوقف على الجمل، وقال:
حَيَّيَتكَ عزَّةُ بعدَ الحجِ وانصرفَتْ فَحيِّ -ويحَكَ- مَنْ حيَّاكَ يا جَمَلُ
لو كنتَ حييتَها ما كنتَ ذا سَرَفٍ عِنديْ ولا مسَّكَ الإدلاجُ والعَملُ(5)
مثل هذا الشعر المطبوع قال فيه ابن قتيبة: "والمطبوع من الشعراء من سمح بالشعر، واقتدر على القوافي، وأراك في صدر بيته عجزه، وفي فاتحته قافيته، وتبينت على شعره رونق الطبع ووشي الغريزة، وإذا امتحن لم يتلعثم ولم يتزحر"(6). كما قال الجاحظ في البيان والتبيين: "خير أبيات الشعر الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته"(7) وهكذا كان قبلهما الخليل بن أحمد يرى أن أحسن شعر ما تؤدي صدوره إلى قوافيه، بل إنه نظم قطعة استعمل فيها قافية واحدة تكررت ثلاث مرات. أما النقاد المتأخرون فحاولوا تقعيد هذه السيرورة وغيرها من أسرار البيان في قواعد ومصطلحات مثل "التعطف والإرصاد، والإبداع، والتوشيح، والايغال، والتصدير والتمكين، والتطريز..." ومع ذلك ظلت المصطلحات والقواعد أضيق وأعجز من أن تستوعب الإنجازات الفنية، وربما كانت سبباً من أسباب التكلف والصنعة اللذين خنقا الأدب والشعر في العهود المتأخرة.
وليد الأعظمي
نحن الآن أمام علم من أعلام السيرورة في الشعر العربي والإسلامي هو الشاعر وليد الأعظمي، المولود في الأعظمية ببغداد عام 1930م، صدر له على التوالي أربعة دواوين شعرية هي: (الشعاع 1958م) و(الزوابع عام 1961م) و(أغاني المعركة عام 1965م) و(نفحات قلب عام 1998م). وقد تجلت هذه السيرورة بتعدد طبعات هذه الدواوين، وذيوع أشعاره على أفواه الناس والمنشدين من الخليج إلى المحيط، وحتى من طنجة إلى جاكرتا، إن لم نضف إلى ذلك الجاليات العربية في أقاصي المدن والعواصم الأوربية والأمريكية والروسية على حد سواء.
ظهر شاعرنا الأعظمي في نهاية المرحلة التي ظهر فيها الشعراء الأعلام، أمثال شوقي وحافظ في مصر، والرصافي والزهاوي في العراق، الذين أتيحت لهم المنابر والصحف والمجلات في حينها، أي جاء معاصراً للسياب ونازك الملائكة والبياتي الذين أتيحت لهم الدراسات النقدية المواكبة والمعرفة بإبداعهم، ولم يتح له هو غير صوته يقاتل به وينافس حتى من وراء القضبان(8).
واستطاع بسيرورته أن يحقق لنفسه هذا الحضور الضخم. فأنّى له ذلك؟!
السيرورة هي محصلة معادلة، تلخص العلاقة بين الشاعر وجمهوره، من خلال وسيط مهم هو الشعر. وبقدر ما يكون الوسيط ناجحاً في عملية التوصيل، وبقدر ما يكون الشاعر معنياً بهموم جمهوره ورغباته وطموحه وآلامه وقضاياه المصيرية.. تكون المعادلة ناجحة والوسيط فعالاً، والسيرورة ممكنة، وبالمعيار نفسه يمكن أن نقدر حجم السيرورة التي حققها بعض الشعراء الآخرين مثل المرحوم نزار قباني.
قد يكون الشاعر وشعره في معادلة السيرورة أهمَّ في دراستنا من عنصر المتلقي سامعاً أو قارئاً، لكن لابدّ للشاعر من أن يُعنى بمتلقي شعره تحقيقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أُمرتُ أن أخاطب الناس على قدر عقولهم"، أو انسجاماً مع القاعدة البلاغية السارية المفعول: "البلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال"، ومع ذلك نشير إلى أن الجمهور المعنيّ في السيرورة الشعرية هو الدائرة الأوسع من جماعة النخبة، أي جمهور الأوساط المثقفة في المدن والأحزاب والنوادي والجامعات والمدارس وقراء الصحف اليومية، أي معظم سكان المدن وموظفي الدولة. أما البقية الباقية التي لا تتجاوب إلا مع الشعر العامي (الزجل)، فنأمل أن يأتي يوم تنضم إلى الشريحة الأوسع والأرقى ثقافة، وفي تقديرنا أن تطور المجتمع العربي والإسلامي يسير في هذا المنحى.
وهكذا يمكننا أن نرجع عوامل السيرورة الشعرية إلى قيم شعورية تتعلق بالعواطف والمعاني والأفكار، أي الأغراض والموضوعات، وإلى قيم تعبيرية تتعلق بالأساليب من ألفاظ وتراكيب وأخيلة وموسيقى. فلنتلمس تجليات هذه القيم في شعر الأعظمي.
الموضوعات والأغراض
من دواعي السيرورة في الشعر ونتائجها أن تكون الموضوعات والأغراض غير ذاتية، أي موضوعات وأغراض جماعية، لأن الذي يوحِّد بين الشاعر والمتلقي هي المشكلات والقضايا المشتركة: قضايا الوطن والقوم والمجتمع والعقيدة والمصير المشترك، فضلاً عن الآمال والآلام المشتركة، لذلك يقول الأعظمي في أول ديوان له وفي أول صفحاته:
ولستِ الشاعرَ الرِّخوَ الـذي يقـنعُ بالهمسِ
وخيرُ الشِعرِ ما كانَ صريحَ الغاي كالشمسِ
فمـا مِلتُ إلى ليلى ولا فـكّرتُ في قَيـسِ
ولكنْ حبُّ إخـواني قد استولى علـى نفسي
الإخوانيات
نستعجل فنقول: إن قصائده (الإخوانية) أي التي أرسلها إلى الأصدقاء من الشعراء والعلماء والمربين وقادة الرأي ليست إخوانية بالمصطلح المعلوم، بل هي مناسبة أخرى لتناول القضايا العامة: من قضية فلسطين إلى قضية الحل الإسلامي، مثل قصيدته (رغم القيود) التي أهداها إلى زميله الشاعر ذي النون يونس مصطفى، قال فيها: (الشعاع: ص 43).
أخي. نحنُ رغمَ القيودِ الثِقالِ سنمضي مع الموكبِ الظافِرِ
ونمشي بـروحِ الكتابِ المُنيرِ نُضيفُ الطَّريفَ إلى الغابرِ
ونرعى الذِّمارِ ونحمي الديارَ ونُعـلي المَنار إلى الحائِرِ
وحدة الموضوع
على عادة الشعراء المعاصرين يعالج الشاعر وليد الأعظمي موضوعاً واحداً في القصيدة الواحدة، لكن بعض الموضوعات مثل (المناسبة الإسلامية) تستدعي الإلمام بأكثر من قضية أو موضوع، فقصيدة (ذكرى المولد)، وهي أبرز قصائده في المناسبات الدينية أو الإسلامية، لابد من أن تعقد مقارنة بين حال المسلمين البائس اليوم وبين حالهم الماجد في الأمس، والحديث عن حال المسلمين يقتضي أحياناً الحديث عن مشكلات تحرير الأقطار العربية والإسلامية مثل قضية فلسطين أو الجزائر أو تونس أو مراكش أو كشمير أو أفغانستان، والمناسبة الإسلامية قد تستدعي الحديث عن مزايا الإسلام والحكم الإسلامي، والرد على مطاعن الأعداء على الإسلام، ولذلك غلب على قصائده الطول، فقصيدته (الجزائر) في ديوان (الشعاع) بلغت (92) اثنين وتسعين بيتاً، وقصيدته (لينام أصحاب الكروش) في ديوان (الزوابع) بلغت (82) اثنين وثمانين، وقصيدته (ربيع النبي) في ديوان (أغاني المعركة) بلغت (60) ستين بيتاً، وقصيدته (ياليلة القرآن) في ديوان (نفحات قلب) بلغت (84) أربعة وثمانين بيتاً. مثل هذه القصائد الطوال تلقى في المناسبات على منابر جماهيرية، والجمهور متعاطف معها يقاطع الشاعر بالتهليل والتكبير طالباً منه الإعادة لبعض الأبيات أو المقاطع. وعلى ذكر شعر المناسبات -وهو يحتل حيزاً كبيراً في شعره، المناسبات الدينية أو السياسية أو الاجتماعية- يعمد الشاعر أحياناً إلى نقد شعر المناسبات الدينية المنحرفة عن الإسلام، مثل تحويل ذكرى المولد إلى تطريب وتغزل يقول: (الزوابع: 59)
إسلامُنـا لا يستقيمُ عَمـودُهُ بدعاءِ شيخٍ في زوايا المَسجدِ
إسلامنـا لا يستقيمُ عمـودُهُ بقصــائدٍ تُتـلى لمدحِ مُحمّدِ
إسلامُنا نورٌ يضيء طريقنا إسلامنـا نارٌ على من يَعتدي
ومثل ذلك رده على مطاعن الفسقة المستهينين بالإسلام وشعائره: (الزوابع: 111 و112)
ما كانَ في الإسلامِ من رَجعيةٍ ليقومَ ينعـتُه بها غِـرٌّ دَعِي
ما أُنزلَ القرآنُ كي يُتلى على قَبرٍ تمـدَّدَ فيـه ميتٌ لا يَعي
ما أُنزل القرآنُ كيـما تُقتنـى منه التمائمُ في صُدورِ الرُضَّعِ
هذي القُشورُ فلا تُقيموا حُجةً منهـا على إسلامـنا للمُدَّعي
الدعوة إلى الإسلام
أمـا عرضه لمـزايا الإسلام ذلـك الـعرض الجـميل المجيد، وهـو مـن أهـم موضوعات شعره، فـحدّث ولا حـرج، يقول: (الـزوابع: 81)
آمنتُ بالإسلامِ نهجـاً عادِلاً مـا فيه من عِوَجٍ ولا تَقصيرِ
آمنتُ بالإسلامِ سـوراً مانعاً يَحمي الحِمى أمنِعْ بهِ مِنْ سُورِ
آمنتُ بالإسلامِ سـيفاً قاطِعاً يَمحو الفَسـادَ بحدِّهِ المَطْـرورِِ
آمنتُ بالإسلامِ سِـراً خالداً جَلَّتْ معانيـهِ عــن التعبيـرِ
آمنتُ أنَّ النصرَ مضمونٌ بهِ من غيـرِ تطـبيلٍ ولا تزميرِ
مما يجعلك تحس بقوة الحملات المغرضة التي تحاول النيل من هذا الإسلام العظيم سواء من فعل المستشرقين أو أتباعهم في الأحزاب المحلية.
بوسعنا أن نلقي نظرة إحصائية على حجم اهتمامه بأنواع الأغراض والموضوعات وقد وجدنا اهتمامه يتوزع على النسب التالية:
الموضوعات أو المناسبات الدينية 38 قصيدة
الموضوعات أو المناسبات الاجتماعية 24 قصيدة
الموضوعات أو القضايا السياسية (وطنية - قومية) شؤون داخلية 30 شؤون داخلية
47 قضايا عربية
30 قضايا إسلامية
الاستعمار
أما حديثه عن الاستعمار لاسيما الإنكليز والفرنسيين والأمريكان فمتعدد المناسبات والأشكال، وأبرز ما فيه أنه لا يطلق لفظ الاستعمار على عواهنه، بل يميز بين أنواعه، لاسيما الشرقي والغربي، يقول في (ديوان الشعاع) (ص 60):
الله أكبـرُ عِزُّنا ومَلاذُنـا وشِعارُنا الداوي بأُفقٍ أرْحَبِ
أنا مسلمٌ لا أرتضيها عيشة نكـراءَ بينَ مُشرّقٍ ومُغرِّبِ
كما يقول في ديوان (نفحات قلب)(ص47):
طاشتْ سِهامُ الفارغينَ وطأطأتْ هامـاتُ مَـنْ عافوا الهُدى وتَذبذبوا
ودوافِـعُ الفِتَنِ الجِسامِ بقومنـا أوحى بهـنَّ (مُشرِّقٌ) و(مُغرِّبُ)(9)
الهوامش
(1) المستثنى من حديث الكذب: حديث شريف - الأذكار للنووي - ص 336 - دار إحياء التراث العربي - بيروت - ط4.
(2) اللغة الشاعرة - العقاد - ط16 - ص 4 - 5. وانظر موسيقى الشعر - د. إبراهيم أنيس - ط3 – ص156 - وانظر شمس العرب تسطع على الغرب - زيغريد هونكه - ترجمة بيضون ودسوقي -ط1- ص 508.
(3) شجرة القمر - نازك الملائكة - ط1 - ص - 16 - 17.
(4) اللغة الشاعرة - ص 137 - 138.
(5) المستطرف من كل فن مستظرف - الأبشيهي - ج2 - ص 191 -192.
(6) الشعر والشعراء - ابن قتيبة - ص 26.
(7) البيان والتبيين - الجاحظ - ج1 - ص2.
(8) يقول الشاعر في التعريف بنفسه: "وفي سنة 1960 كنت من المؤسسين للحزب الإسلامي العراقي في الأعظمية، وعضواً في لجنته المركزية، وأصدرنا بياناً حول سياسة عبد الكريم قاسم، فأغلق الحزب، واعتقلنا ستة أشهر" مذكرة تعريف بالشاعر بخط يده (وليد الأعظمي) ص 5.
(9) انظر الزوابع: ط: 1400هـ: 1980م - ص 54 و 103. نفحات: 48 و49. وانظر أغاني المعركة - دار البشير للطباعة - ص 69:
فالغربُ ما انفكَ يسبينا ويظلمنا والشرقُ كالغربِ زمّارٌ وعوّادُ
ـ يتبع ـ