قراءة في ديوان "نعيم الروح" لسليم عبد القادر

نعيم الروح.. وقفة على الضفاف

قراءة في ديوان "نعيم الروح"

 لسليم عبد القادر

بقلم: عبد الله عيسى السلامة               سليم عبد القادر

الكتابة عن الإبداع، لا تقل صعوبة عن الإبداع نفسه، بل ربما تزيد عليه أحياناً..

والإبداع، يعني ما تحويه الكلمة، من أعماق وآفاق، ومن إيحاءات وإيماءات وظلال، ومن معان ومبان ورموز وأخيلة..

وحين يكون الحديث عن (الإبداع الشعري) تكون للمصطلح خصوصيات أخرى، لما للشعر من خصائص يتفرد بها.. فالشعر أشد الفنون إثارة وتعقيداً..

في القصيدة عناصر أساسية شتى، وعناصر فرعية تستعصي على الحصر.. أما العناصر الأساسية، فأبرزها ستة: اللغة والوزن والفكرة والعاطفة والصورة والأسلوب.

فاللغة والوزن هما باجتماعهما مادة النظم، وهما الركيزتان اللتان تقوم عليهما القصيدة.وأما الفكرة، فهي التي تعطي القصيدة جلالها.

وأما العاطفة فهي التي تهب القصيدة، دفئها أو حرارتها.

وأما الصورة، فهي مجلى عبقرية الشاعر، والميدان الفسيح والمعقد والرائع، الذي تتسابق فيه أخيلة الشعراء.

وأما العنصر الأخير، الذي هو بؤرة الإبداع الشعري كله، فهو الأسلوب، أسلوب المزج بين هذه العناصر الفنية كلها، ويمكن تسميته بلا مجازفة (الخلطة).

ولكل شاعر (خلطته) التي تميزه عمن سواه، وتشير إليه بالبنان.

من ها هنا، كانت هذه الوقفة على الضفاف، ضفاف المجموعة الصغيرة الكبيرة، المميزة (نعيم الروح).

وقد آثر القلم، أن يقف على الضفاف.. وأن يلقي نظرات عجلى، هنا وهناك، يشير ويومئ، دون الغوص في الأعماق، لأن النقد الانطباعي، العام المسطح، لا يجدي فتيلاً في تقديم النص للقارئ، أو تعريفه به.. والنقد التفصيلي الواجب، لإعطاء النص حقه من الدراسة المتأنية، والتحليل الدقيق العميق.. يحتاج إلى صفحات كثيرة، تزيد على حجم النص –المقصود هنا الديوان- كثيراً، وغنى الدراسة يتناسب طرداً مع غنى النص وجودته، مع التذكير بأن الإبداع، مهما كان قليلاً، إنما هو فيض، والكتابة مهما طالت، إنما هي قيد..

مجموعة (نعيم الروح) هي عالم قائم بذاته، وهي أحد العوالم المختزنة المائجة، في أعماق صاحبها، أخي الحبيب سليم، وليس هذا بدعاً، فإن في أعماق المبدع عوالم شتى، قد تستعصي على الحصر، وإلا فكيف يستطيع الشاعر أن يحلق في كل فضاء، وأن يرتاد كل أفق، وأن يغوص في كل سر من أسرار الجمال، أو النفس، أو الحياة، أو الفن، أو الفكر، أو الوجود؟!

ولن أقف محصياً عناصر الجمال، أو الإبداع، أو التفرد في ديوان (نعيم الروح) وحسبي أن أشير إلى ثلاثة آفاق في هذا الديوان:

أ – الأفق الفني (ويشمل العناصر الستة المذكورة في بداية هذه المقدمة).

ب – الأفق الوجداني (النفسي – القلبي – الروحي).

ج – الأفق الفكري.

مع التذكير بداية، بأن هذه الآفاق، مزيج متلاحم داخل النصوص.

الأفق الفني:

ويشكل بعناصره الخمسة المتلاحمة المندغمة في (الخلطة – الأسلوب) عالم القصيدة، الذي يحتوي كنوزها وأسرارها.

ولقد يشكل أحد العناصر، رافعة أو حاملاً للقصيدة، يرفعها إلى المستوى الذي يريده لها الشاعر، فيكون هذا العنصر (الرافعة) هو بؤرة الإثارة، أو الإدهاش في القصيدة، وتكون العناصر الأخرى، برغم قيمتها الكامنة فيها، روافد أو متممات.

والشاعر المبدع، هو الذي يعرف جيداً، عناصر القوة الأبرز في موهبته، فيجعل منها روافع لقصيدته، وقد يكون في القصيدة رافعتان أو أكثر، فإذا كان كل عنصر من عناصر القصيدة ممتازاً إلى درجة أن يشكل رافعة لقصيدته، وصلت القصيدة بروافعها المتنافسة المندغمة، إلى الذروة في الروعة والإدهاش.

ولنقف أمام (نعيم الروح) لتنعم أرواحنا ببعض ما فيه..

وأترك للقارئ الكريم، بعد إيراد كل نموذج، حرية تلمس القوى التي ترفع كل بيت، سواء أكانت فنية، أم فكرية، أم وجدانية.

فلنقرأ (من قصيدة: آلاء) مطلعها:

روحي بحبك هائم مشغولُ    والقول أبعد شأوه التمثيلُ

فلأنت أعلم بالفؤاد ووجده    ربٌّ وعبد، فالكلام يطولُ

ولنقرأ مطلع قصيدة (بين يومين):

مثل يوم الميلاد يوم الوفاةِ    بين يومين كان سرُّ الحياةِ

ولنتأمل هذين البيتين، من أواخر قصيدة (أبي):

كـان ينبوع حكمة، فـي بيان   ساحر، ينبت التقى في الرمادِ

كابد المر في اصطبار وصمت   ومضى فـي مسالك الـزهادِ

ثم لننظر في هذه الأبيات من قصيدة (أشواق حلبية):

إلى وجه الحبيبة هل تتوقُ   وقد رحل الشباب؟ أما تفيقُ؟!

لقـد فارقتها عشرين عاماً    وأنت لـوجهها أبـداً مشوقُ

ويقول في أواخرها:

نحب بلادنا، ولنا عليها   حقوق، والبلاد لها حقوقُ

ولنلق نظرة على هذه الأبيات، من قصيدة (الجلاد) ولن أقول إنها رائعة، لأني تركت الحكم للقارئ، على النماذج التي أعرضها، لينظر إليها منفردة أو في سياقاتها، حيث تكون أبلغ، لأنها أعضاء في جسد واحد هو القصيدة.

في حياتي هذا السؤال الصغيرُ    كيف يحيا ذاك الشقي الكبيرُ؟!

ألــه إخـوة وأم  وصحـب    يـا تـرى، أم حياتـه تزويرُ

جاوز الوحش، إن للوحش حداً    ينتهي عنـده الأذى  والشرورُ

أما قصيدة (جدال) الحوارية، فيمتد فيها الحوار من أولها إلى آخرها، وقد سماها (جدال) وهي كذلك.. ولنسمع المطلع والخاتمة:

قـالت بعينيها، ومـا فاهت به    والعين أبلغ في الهوى تفهيما

قالت، وقلت، وأردفت، وأجبتها    صمتاً، وكـان جدالنا مفهوما

ويختمها بقوله:

قالت، وقلت، وما يزال جدالنا     يمتد ما دام الوجود مقيما

لقد كنت أود أن لو أتيح لي عرض أكبر قدر من النماذج الحية المعبرة، لا عن عالم الديوان فحسب، بل عن عالم الشاعر نفسه، وأعني عالمه الفني..

إلا أن ما ضاقت عنه المقدمة، اتسع له الديوان..

ولا بد لي هنا، بعد هذه الإطلالة على نماذج منتزعة من سياقاتها الفنية الفكرية الوجدانية.. لابد لي من التأكيد على أن أفكار القصيدة، الكلية والجزئية، ليست هي الأفق الفكري العام للشاعر، إنما هي بعض المفردات التفصيلية المنتزعة من هذا الأفق الكلي العام، دالة عليه، فاتحة بعض الأبواب للولوج فيه.

ومثل ذلك العواطف والمشاعر والاحساسات، ونميل إلى تسميتها (الوجدانيات) فهذه الوجدانيات في القصيدة، إنما هي أجزاء من الأفق الوجداني العام للشاعر، أو (العالم الوجداني) له. ونعود إلى التذكير بأن هذه الآفاق، إنما هي أمشاج في نسيج كلي متشابك، وعلى ضوء هذا، ننتقل إلى الإطلالة الثانية، الإطلالة على الأفق (الوجداني).

* الأفق الوجداني:

أزعم بادئ ذي بدء، أني كنت أقرأ الشاعر عبر كلماته وأبياته وقصائده في هذه المجموعة، قبل قراءة شعره. ذلك أنني عرفت الشاعر قبل أن أعرف شعره، وحين قرأت شعره، وجدت الشاعر نفسه في شعره، ومع أنني قرأت الكثير من شعره، من قبل، فإنني لم يتح لي أن أتأمل شعره بالدرجة ذاتها التي أتيحت لي في هذه المجموعة. مع أن الديوان الأول للشاعر (القادمون الخضر) صدر قبل هذه المجموعة بسنوات طويلة، والمألوف أن دارس الشعر، يحرص على استكناه عالمه أولاً، ثم يحاول تلمّس ملامح الشاعر من خلال شعره..

أما أنا، فكنت أرى أخي سليماً في كل كلمة وجملة وبيت..

إنه هو هو.. الإنسان المؤمن الأبي المتسامي، المهاجر إلى ربه، المتوثب نحو السماء.. رقيق الشعور، مرهف الحس، غني النفس.. يراه من يراه فيظنه من ذلك الطراز غير المبالي بشيء، وغير المكترث لشيء.. ويعرفه من يعرفه عن قرب، فيعرف رجلاً متوكلاً على الله، مستسلماً لقضائه، صابراً محتسباً، موقناً بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. فهو يواجه أحداث الحياة، بعزم الرجال، وصبر الرجال، ويقين المؤمنين المتوكلين الأحرار.

هذا ما عرفته فيه حين كان شاباً في الجامعة، وهذا ما رأيته قد تعمّق في كيانه وازداد رسوخاً، بعد تجاربه المرة في السجن والغربة وفقد الكثير من الأحبة ورفاق الصبا والدرب، وتوزعهم بين المنافي والسجون والقبور..

هذا هو العالم الوجداني للشاعر (ولم أذكره لأمدح الشاعر، بل لأقدم للقارئ مفتاحاً لشعره صاغته معرفة عميقة) كان لابد من إطلالة عليه، للإمساك ببعض المفاتيح التي تساعد على قراءة شعره، واكتناه المسارب الوجدانية في شعره، وهي التي تفسر معنى أن يكون المرء شاعراً.

وأقف هنا لأعرض بعض النماذج الوجدانية من شعره، مذكراً مرة أخرى، بأنها أجزاء من كل متلاحم، تشير وتومئ، لكنها لا تصدر أحكاماً عامة، فهذه إنما تحتاج إلى دراسة متأنية للديوان كله، وربما لشعر الشاعر كله..

يقول في قصيدة (ذرة):

تقـذف الـريح  بجسمي يمـنة حيناً ويسرةْ

غـير أن الـروح فـي آفـاقه قد غذّ سيرهْ

طائراً نحو السموات  العلى يحـمل طهـرهْ

طـائـراً، والفكر سـام دافئ، والنفس حرةْ

         *  *  *

أنـا فـي التيار ، تـيار الهدى أنشد نصرهْ

أنـا في التيار، تـيار الهدى الهـدار قطرهْ

قطرة في الخير، لا في الشر، فالإنسان فكرةْ

ولابد من التأكيد هنا، على أن أهم مفتاح في شعر سليم هو (الازدواجية) بل بمعنى أدق، إمساكه هو بهذه الازدواجية، بعد إدراكه العميق لها، والتفنن في التعامل معها، بأوسع مدى وأعمق غور، في الحياة والنفس والفن والمصير..

إنها ازدواجية متعددة الوجوه، مفتاحها واحد وأبوابها شتى..

ازدواجية الموت والحياة، الدنيا والآخرة، الخير والشر، الحق والباطل، النور والظلام، الروح والتراب، النعيم والجحيم، الكفر والإيمان.

إن هذه الازدواجية هي سر فلسفة الحياة كلها، منذ خلق الله آدم من تراب، ونفخ فيه من روحه.

وقد أخذ منها الناس، كل بحسبه.. فضلّ بعضهم ضلالاً بعيداً حين ثقفها بعيداً عن الضوء الساطع الذي يجلي حقيقتها، ألا وهو وحي السماء.

أما المؤمنون، فصورتها واضحة لديهم، وضوابط التصور واضحة محكمة كذلك.

قال تعالى: {الذي خلقَ الموتَ والحياة ليبلوكم أيُّكم أحسنُ عملا}.

وقال سبحانه: {إنا هديناهُ السبيلَ إما شاكراً وإما كفورا}.

والآيات التي تعبر عن هذه الازدواجية كثيرة في كتاب الله عز وجل.. ومن هنا نرى هذه الازدواجية، تنتشر في شعر سليم بشكل قوي جداً، حتى لا تكاد تخلو منها قصيدة..

وإذا كان لهذه الازدواجية ارتباط وثيق بالأفق الفكري لدى الشاعر، فإن ما يهمنا منها هنا، هو هذا الامتزاج الوجداني بأحد عنصري (الثنائية) مع النفور الشديد والتنفير القوي، من العنصر الثاني.

فعلاقة الشاعر مع هذه (الثنائية) ليست علاقة فلسفية فكرية باردة جامدة.. بل علاقة وجدانية عاطفية حارة جداً، تكاد تحرق أعصابه أحياناً.

يقول في قصيدة (نعيم الروح):

يقول لي صاحبي في دهشة: عذراً    ضيعت دنياك في بحث عن الأخرى

وبعد كلام طويل من صاحبه ومنه، حول الدنيا ولذاتها، يقول لصاحبه:

دنياكَ  هذي التي تسبيكَ، طلعتُها    لو جئتُ  تحسبها ما جاوزتُ صفرا

مـا كنتُ أعبدها، أو كنت أمقتها    أعطيتها ما استحقتْ في النهى قدْرا

هي الطريق إلى الأخرى، فأتقنها     فليس  ينجو الذي لم يُحسن السيرا

ثم يقول:

آمـنتُ بالله إيمـاناً عـرفتُ به    مغـزى الحياة، فأمسى سرُّها جـهرا

وصرت أحيا نعيم الروح مبتسماً    في المر والحلو، أبدي الصبر والشكرا

فلست أقـنط من بؤس أمـرُّ به    ولسـت أبـطر من بِـْشٍر إذا مـرا

تعـيا لتـأسرني الـدنيا بزينتها    فـما تطـيق، وأبـقى مـؤمناً  حرا

فالدنيا والآخرة لديه، ليستا مجرد فلسفة (فيزيقا- ميتافيزيقا) إنهما حياة كاملة، روحية نفسية بدنية سلوكية.. حياة تنبض بها كل ذرة في كيانه، نبضاً حاراً متدفقاً واعياً مصمما..

ويقول في قصيدة (آلاء):

ولقـد أكابد فيك ألف مرارة     فالـمر حـلو، والأسى مقـبولُ

يـا مـن وهبتَ  لي الحياة     ودفأها ومن الحياة العقل والتنزيلُ

آلاؤك الغـراء تغمر مهجتي    غمـراً، وجودك دائـم موصولُ

أعطيتني حبّيـك حباً صادقاً     يشفي فـؤاد الصخر وهو عليلُ

وجعلتني–والريح تعصف بالدنا- آبـى الضلالة، والضلال سيولُ

هذا غيض من فيض، والديوان كله يضج بهذا الدفق الوجداني الإيماني الحار، وهو وجدان منضبط بوعي فكري دقيق وصارم، وما أكثر (الوجدانيات) التي تطيش بعقول أصحابها فتدفعهم إلى الزيغ والضلال، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً!

* الأفق الفكري:

بعد أن أشرنا –لدى حديثنا عن الأفق الوجداني- إلى المفتاح الأبرز في شعر الأخ سليم، وفي حياته كلها، وحياة كل مؤمن عاقل حصيف.. ألا وهو (وعي الثنائية في الحياة والمصير) ثم التعامل مع هذه الثنائية بوعي المؤمن وحسّ المؤمن، من خلال وحي السماء..

بعد أن أشرنا إلى هذا المفتاح، وهو فطري بالدرجة الأولى، لم يبق لنا هنا، إلا عرض بعض التفصيلات، التي تعد تفريعات وتنويعات، أو تعد أغصاناً وأوراقاً في شجرة وارفة الظل، ضاربة الجذور في أعماق الشاعر وشعره وحياته..

يقول في قصيدة (بين يومين):

مثل يوم الميلاد  يوم الوفاةِ    بين يومين كان سـر الحياةِ

سوف نمضي كما أتينا، فما   ثمّ اختـيار، ولا بقـاء لآتِ

بيـد أنَّـا لما أتينا، أتـينا    في نقاء الشذا وطهر الصلاة

وسنغـدو ، محملين بأسفار   اختبار محـفوظة الصفحاتِ

                        *  *  *

قد أتيت الوجود ما لي اختيار   في وجودي، ولا برأتُ سِماتي

بيـد أني استبنتُ بالله رشدي    وتـشبثت جـاهـداً بالثباتِ

قد يكون الظلام أهمى، كثيفاً     ليس يـجلي بالأنجم النيراتِ

غـير أني أكـون  دفقة نور   لا دخـاناً يـزيد في الظلماتِ

قد تكون الصحراء ظمأى، ولا  تروى بسيل، فلأعطها قطراتي

وإذا لـم يكـن  ربيعٌ بـهي    فـلأكـن  زهـرة بـلا جناتِ

أإذا كـنت شـوكة كان خيراً    أم إذا كنـت وردة فـي فـلاةِ

وهل المرء في ضياع وبؤس     مثل مـن عاش في سنا الآياتِ

أنا ضـد التيار إن كان شراً     وليكن مـا يكون .. هذي حياتي

ورضا الله غايتي من وجودي    وإلـى الله سافـرت أمنـياتي

إنها فلسفة حقيقية.. يذكرنا بعضها بفلسفة المعري قديماً، ويذكرنا بعضها بفلسفة (إيليا أبي ماضي) حديثاً.. إلا أنها فوق هذي وتلك.. إنها فلسفة مؤمنة واعية مصممة، عارفة ما تريد، ولماذا تريده، وعارفة إلى أين تمضي، وكيف يجب أن تمضي.. وكل ذلك عبر وعي الثنائية المشار إليها.. وهذا المعنى نجده في قصائد أخرى، مثل قصيدة (ذرة):

أنـا لم أختر زماني، أيـنا يختار عصرهْ؟

أنا لم أختر مكاني، أينا يخـتار مصـرهْ؟

أنـا لا أملك عمري، أيـنا يملك عـمرهْ؟

بيد أني اخترت دين الله، واستحببت أمرْه

أنـا في التيار ، تيار الهدى، أنشد نصرهْ

ويقول في مقطوعة، أو (نبضة) تحت عنوان (نبضات):

قـالوا: مثاليّ لأني لم أزل  آبـى الخنوع مـع القطيع إباءَ

ولأنني والليل عاتٍ حالك    أوقـدت عمـري للحياة ضياءَ

ولأن روحي لم يزل متألقاً    والرأس يرفض أن يكون خواءَ

الواقعـية أن أكون مجاملاً    للـخائبين، وأن أكـون  غثاءَ

وفي المجموعة ألوان من المعاناة والتأملات، ورفض الظلم والطغيان، وخبرات الشاعر ورؤاه في الكون والحياة.

وبعد، فما أعذب الغوص في الأعماق، حين يمتزج نبض القلب، بومض الفكر، برفيف الروح، في هيكل من هياكل الفن الراقي.. ما أعذب الغوص في الأعماق، وما أمتع التحليق في الآفاق.. إلا أن المضطر لا يملك إلا المضي سريعاً، بسبب من ضيق الحيز. لا يملك إلا (وقفة على الضفاف) وإيماءة إلى الكنوز والأسرار، ثم توديعة عجلى، على أمل اللقاء في أعمال إبداعية قادمة.