الشاعر الشهيد د. إبراهيم

الشاعر الشهيد د. إبراهيم المقادمة:

شاعر على مائدة الرسول

 صلى الله عليه وسلم

الدكتور/ كمال أحمد غنيم

أستاذ مساعد في الأدب والنقد

الجامعة الإسلامية – غزة

الدكتور إبراهيم المقادمة في ديوانه (لا تسرقوا الشمس):

شاعر على مائدة الرسول صلى الله عليه وسلم

لقد  كانت الشمس ونورها محور حياة الشهيد الشاعر الدكتور إبراهيم المقادمة، فهو يؤثرها على القمح والنفط والروح، لأن من امتلك الشمس استطاع أن يمتلك كل تلك الأشياء، ومن أضاعها فقد في شكل مواز لتلك الرموز مقدرات الحياة والحضارة والوجود.

   والرغبة في الامتلاك هنا هي رغبة إنسانية بعيدة عن التحيز والأنانية، فمن يسرق الشمس قد يحقق الطعام ومعطيات الحياة اليومية والمعيشية، لكنه في المقابل يمنحها بتقتير وتسلط وتملك للناس؛ الذين ولدتهم أمهاتهم أحرارا، وسرعان ما تنقلب الشمس وبالاً على أولئك، لأنها ستحرقهم، بينما إن امتلكت زمرة القلب الموحد خيوط ضياء الشمس المشدود إلى القلب والعروق؛ ستحتفي بها، وتوقظ بها كل النيام والحيارى والسكارى، وتفتح بالحب دارا فدارا، ولن تستأثر بها وتمنع فضلها جارا!

   وينتصر الدكتور الشهيد لشمس الحقيقة والإيمان، ويفعل ما يقول، فيبذل من أجلها حريته، فيسجن من سنوات عمره ما يساوي خُمس حياته، ويضحي بقوته وقوت أهله، وإمكانات الثراء والعيش البليد الهنيء، ويُتوّج الأمر بالانتصار من بعد الظلم شهيداً في سبيل الحق، ينتظر لحظة الشهادة بشوق عارم، وقد لبث حسبما يرى وطال انتظاره، ويهمس لمن حوله: (سيقصفونني!)، ويؤثر المواجهة الشجاعة، وعدم الاختباء والتخفي، وهكذا هم أساتذة الدفاع عن الشمس، والتفاني في العطاء والبذل، هكذا هم فلاسفة الإيمان والثورة!

   وفي مقاربة شعر الدكتور الشاعر والشهيد الإنسان "إبراهيم المقادمة" يلمس المرء ثقافة أدبية، ورهافة أحاسيس، وإشارات إنسانية لها دلالاتها، فالشاعر حسبما نرى في مجموعته الشعرية مقل، فالمنشور له هنا هو اثنتا عشرة قصيدة على مدار اثنتي عشرة سنة، من عام 1984 حتى عام 1995، فهل كتب الشاعر من ذلك العام فقط، وهل توقف عام 1995؟

   دعونا نقول إنه من الثابت أن الشاعر قد كتب منذ المرحلة الابتدائية فمعلمه "خضر الكردي" من جباليا يقول إن الشهيد قرأ مكتبة الفصل البالغ عددها 300 كتاب بكاملها، وكان يكتب الشعر في الخامس الابتدائي، وقد نُشرت له بعض القصائد في صحيفة (روز اليوسف) بالقاهرة، وعندما جاء أنيس منصور الصحفي المشهور إلى غزة، وزار الفصل الذي يدرس فيه إبراهيم المحاط -وفق كلام مدرسيه- بهالة من النبوغ ؛ وقف إبراهيم الصغير ليحاور الصحفي الكبير، وعندما خرج أنيس منصور من الفصل قال لمرافقيه: "لقد شعرت بنفسي صغيراً أمام هذا الطفل!".

   وقد تميز الشاعر بحب جم للغة العربية وآدابها، وساعدته إنسانيته الفذة في تعمق جوانبها، إذ إنه زامل في دراسته الجامعية طالبا كفيفا يدرس العربية، فكان يقرأ له ويساعده في تحصيله العلمي، ويرافقه في الامتحانات ليكتب عنه ما يمليه عليه، مما أكسبه خبرة واسعة في العربية وأبوابها.

   وامتلك ذاتاً شاعرةً مرهفة الأحاسيس، لمستها أخته الطفلة الصغيرة ذات الست سنوات، عندما كانت مريضة في المستشفى، إذ راحت تطلب من أمها أن يكون إبراهيم -وقد كان في الثانوية العامة- هو مرافقها، وفي ذلك دلالة على الحنان الأبوي الذي امتلكه في سن مبكرة، وقد رأينا ما فعله مع زميله الكفيف في الدراسة، وقد عرفنا ما قام به مع زميل له في المعتقل بعد ذلك، عندما رآه في فترة (الفورة) في السجن يجلس وحيداً وقد بترت ساقه اليسرى وفقد إحدى عينيه،  فصرف وقت النزهة كله معه، وسأله عن حفظه لشيء من كتاب الله وسنة النبي r، فلما أدرك أنه عاجز عن متابعتهما، اتفق معه على أن يعلمه كل يوم نصف ساعة أو ساعة القرآن الكريم، ويحفظّه له، ويعلّمه أبجديات الفقه الإسلامي.

   وقد أدرك الدكتور إبراهيم أن رحلة الدنيا قصيرة فزهد فيها على الرغم من أنها أقبلت عليه، فتبرع في طفولته بقروشه القليلة لثورة الجزائر، وتبرع في معتقله بملابسه الجديدة، حيث كان يوزعها على زملاء له، ويلبس من ملابس السجن أو ما تبقّى له بعد اختيار الشباب، وتعلق قلبه ببلوزة قديمة بالية أصر على لبسها، ولم يدرك زملاؤه سر هذا التعلق؛ إلا عندما وجدوا اسم الشهيد مصباح الصوري عليها، فقال لهم عندئذ: "هذا شهيد قد حفظ القرآن، وأنا أتبرك بها، ولن أفرط بها أبدأ ".

   وعرف زملاؤه الذين عايشوه في السجن تواضعاً منقطع النظير لهذا القائد الذي كان يعدّ لهم الطعام، ثم يوقظهم لتناوله؛ على الرغم من انشغاله بإعداد الدروس والمحاضرات والدورات لهم، وعكوفه على الدراسة، وتأليف الكتب، وحفظ القرآن، ولعل ذلك هو ما لمسه أهله عنده من قبل، فعلى الرغم من هذه الانشغالات الكبيرة آثر الدكتور أن يكون رجل عامة، رحالة، ينتقل من قلب إلى قلب، في رحلة تعمير ودعوة وتبليغ، في حيوية لا تعرف الكلل، تقتات على مخزون كبير من العواطف والمشاعر، التي لم يستطع الشعر أن يلاحقها في زحمة الشعر العملي الذي يمارسه الدكتور في سلوكه و تصرفه وأنفاسه، ولعل هذا الأمر يفسّر ظاهرة شعره الذي يكاد أن ينتمي  بمجمله إلى شعر السجون والمعتقلات، فقد كتب إحدى عشرة قصيدة من اثنتي عشرة في السجن، وإذا علمنا أن خُمس حياته قد قضاه في السجن، أدركنا أن الدعوة والعمل أخذا الحيز الأكبر منه.

   وهذا يفسر من ناحية أخرى كون سبعة قصائد متجهة إلى أسرته وأفرادها، وكأنه يعبر من خلال ذلك عن إنسانيته تجاه هذه العلاقات، وهو الجبل الشامخ في التضحية والعطاء دعوة وثورة وسجناً وملاحقة واستشهاداً، وكأن ذلك رسالة لهم يعبر فيها عن مدى أهميتهم لديه، وإذا أدركنا أن هذه القصائد الأسرية لم تسلم بحال من الأحوال من نفحات الدعوة، ونفثات الثورة، والإخلاص لطريق التضحية؛ أدركنا مدى الانسجام بين هذا القرب الحميم من العائلة والبعد القريب منهم، من ذلك التعلق الذي نراه يتجه نحو أمه بشكل كبير على الرغم من كبر السن وكثرة الأبناء،  وهو يبثها مع كل كلمة التذكير بالنبع الذي شرب منه هذا التفاني، والحث الخفي على الصبر والصمود والإيمان بترابط الأجيال وتعاضد الآمال بمستقبل مشرق يضم الجميع:

        حملتك في ديار اليتم والغربة

        وكنت الحمل كنت الزاد والرغبة

        وبين الشوك كم كنا نشقّ دروبنا الصعبة

        حملتك ثورة في القلب ترفدني

        حملتك في شغاف القلب أغنية ربيعية

        ورحت أقاوم الإعصار

        والريح الصليبية

   و الشاعر لا ينسى رسالته في أحلك الظروف، عندما يأتيه نبأ غرق ابنه البكر أحمد، الذي كان يعوّل عليه كثيرا، ويدخره لمواصلة الطريق من بعده، وقصيدته مجبولة بالدموع، فما زال أصدقاؤه في السجن يذكرون تلك اللحظة الحرجة، عندما حاولوا أن يمهدوا له الأمر، ولكنه شعر على الفور بحدوث أمر جلل، فلما أن علم، قال: "الحمد لله"، وتلقى العزاء بصبر مشهود، ولم يغير برنامجه الثقافي اليومي، بل أصر على إعطاء درسه المسائي لإخوانه، وعندما جاء الليل خلا إلى نفسه، وإلى أوراقه، ودموعه، وفي الصباح كانت بين يديه لؤلؤة شعرية اسمها "أحمد"، ولما روجع في ما حدث معه، قال: لما علمت أن في الأمر مصيبة خشيت أن تكون في الدين والدعوة، فلما علمت أنها مصيبة خاصة حمدت الله على ذلك، ولما خلوت إلى نفسي في الليل جاءني الشعر فكتبت قصيدة "أحمد" بدموعي!

   وفي محك التجربة يظهر المعدن الأصيل، فالدكتور إبراهيم المقادمة أستاذ الصبر والإقدام والتضحيات، ادخر الدمع لنفسه، وعلّم من حوله معان جديدة من معاني الصبر والصمود، وفي صومعته أطلق لعينيه العنان، ولامس قلبه المعتصر بحنان، منسجماً مع الحديث الشريف، القائل إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإن الفراق يبعث الحزن، ولكنه حتى في بكائه كان لاجئا إلى الله وإلى الصلاة في أكثر من موضع بالقصيدة، وفي ذلك مواساة وعلاج لحزنه الخاص، ومن فرط حنانه لم يتذكر في تلك اللحظة نفسه وحدها؛ بل تذكر وقع المصيبة على أبنائه الأطفال الآخرين، وعلى أمه وزوجته وأهله، وهو يسافر من وراء الزنزانة بخياله ليكون معهم في هذا الظرف الصعب، ويمارس أفضل أنواع المواساة، يشاركهم مشاعرهم، ويتألم لألمهم، ولكنه من أعماق هذا الألم يبعث الصبر والرضى في نفوسهم، ويحوّل المحنة إلى منحة إيمانية، تزيد القلب قوة، وتعلي من شأن الدين في نفوسهم، ويقف الشاعر كإنسان أمام البحر كأداة من أدوات الموت، الذي ينفرد بفلذة كبده في غيابه، وكأنه يصفّ إلى جانب العدو الذي حال بينه وبين أهله، كما حال البحر بينه وبين ابنه، ويعبر عن ذلك بتزوير اسم البحر كما يرد عن العدو (يام):

        عشقتك يا بحر طفلا وكهلا

        عشقتك يا بحر ماء ورملا

        ما خفت منك وما رهبتك

        إذ أبادلك الغرام

        هل يغدر العشاق؟

        هل يجتاحهم غول انتقام؟

        أنا لا أصدق ما فعلت.. وأنت أنت

        هل دنسوك؟ وسمموك؟ وجندّوك؟!

        هل غيروا وجه المحب؟!

        هل غيروا اسمك صار (يام)؟!

        هل علموك الغدر؟ نقض العهد؟ تحريف الكلام؟

        وهل انتهت طلقاتهم؟ فقدمت أنت

        يا بحر أنت  مسخر وأنا مسخر

        فلماذا تسخر اليوم وتفخر؟

        وأنا رهين القيد تغدر

        ما كنت أترك مهجتي بيديك

        ضارعةً وأنظر

        فالموت أهون مطلبا وأنا وأنت.

   وهذه قطعة شعرية ساخنة، جمرها صلية من طلقات أسئلة حرّى، تعبر عن شدة الصدمة، ومرارة الموقف، إذ يحدث كل هذا وهو مكبل اليدين وراء قضبان لا ترحم، وكأن التجربة إضافة لصنوف التعذيب، ومشاركة من البحر الأثير إلى نفس الشاعر لقوات الاحتلال، وكأن البحر يسقط في مستنقع الخيانة، ويضيف الشاعر إلى هذا الكم الساخن من الأسئلة مفارقة تسهم في إبراز لوعة الصدمة وقسوتها، ، فالبحر صديق قديم منذ الطفولة إلى زمن الكهولة، وهو حبيب بكل مفرداته يشكِّل في وجدان الشاعر جزءاً من الحرية التي افتقدها، والانطلاق الذي حُرم منه، وتنصهر ممارسة البحر في عنفوان الخيانة التي طالما حذّر منها الدكتور، وأعدّ لها الدراسات والمؤلفات، وتبرز من وراء كل ذلك شخصية (الفتوة) الفارس ذو القوة الجثمانية التى تمتع بها الشهيد - رحمه الله- فهو يعلن التحدي لغول الانتقام، ويعتبر ما حدث غدراً لا يتلاءم مع مفاهيم الرجولة، ويصرخ بأنه ما كان - لو كان حرا- ليترك فلذة كبده بين يدي البحر ضارعة إليه، ولكنه لا يؤكد القدرة على رد القدر، بل يعلن شعاره في معركة الحياة: (فالموت أهون مطلبا وأنا وأنت)، وكأنه يقول: ماض في مواجهة غول الانتقام، ولا يضيرني إن كان المصير شهادتي أو انتصاري، لكن ما يضيرني هو صمتي وانكساري.

   ويحمل الديوان رسالة إنسانية أخرى تفسر سلوك طريق الجهاد، وتبين أسباب عنف المواجهة مع العدو، فالشاعر يرد على تهمة (الإرهاب) التي تطارد الإنسان الفلسطيني المسلم في ميادين الإعلام الغربي والإسرائيلي، وهو يلقي الضوء على ممارسات الاحتلال البشعة، ولا يحض على المقاومة إلا ويذكر معها بواعثها من دمار وتخريب وعذاب ومعاناة، فإن كان الشهيد "يحيى عياش" رمزا للموت والتفتت في ذهن العدو، ورقما صعبا من أرقام الإرهاب الفظيع، فإن الشاعر يذكرهم بجولدشتين المجرم صاحب مجزرة الحرم الإبراهيمي وجرائم الجيش الإسرائيلي:

        عياش لا ترحل فجولدشتين ينتظر الجواب

        نشروا ببلدتنا الخراب فما لهم إلا الخراب

        لم يرحموا شيخا ولا طفلاً تلفّح بالثياب

        قد أرضعوه قنابل الغاز المدمّع والهباب

        قد علموه الحقد مع علم القراءة والحساب

   وهو يرافق بخياله أحد الاستشهاديين الذين يشكّلون في العقل الإسرائيلي أبشع صور الموت والدمار، فيلتقط الشاعر من وجدان الاستشهادي أكثر من صورة تدور في ذهنه قبل اللحظة الأخيرة من التفجير، إنه إنسان شاب أمامه مستقبل مشرق، وراءه أم حفيت قدماها في البحث عن عروس له، وأتعبت نفسها بحلم جميل وهي ترى نفسها على عرش الفرح في أثناء العرس تارة، وتلاعب أولاده في حجرها تارة أخرى، وهذا الاستشهادي إنسان من دم ولحم يعايش معاناة شعبه اليومية، وتتلجلج في ذاكرته وواقعه صور دموية من تهجير ومجازر ورحيل، ولذلك فإن لديه أكثر من مبرر للاستشهاد وتدمير ما يستطيع من مقدرات العدو، يقول في قصيدة (حديث على أبواب الجنة):

        ومضة أخرى

        وأصحاب السلام الآسفون، يتشدقون

        قاتل للأبرياء

        يا ويحهم

        بعدما هاجر غصبا

         والدي من حقله ذات مساء

        لم يعد من أبرياء

        بعد دير ياسين، قبية، شاتيلا وصبرا

        بعد قانا، كم هنا سالت دماء

        لم يعد من أبرياء!

   والشاعر يؤكد بوعي أو بلا وعي على فكرة المعاناة والاضطهاد من خلال قصيدة (على الشبك) التي يبرز فيها معاناة الصغار بسبب سجن والدهم، وفي قصيدة (في التحقيق) يبرز ألوان معاناة السجين في التحقيق وأصناف العذاب التي تمارس في حقه، وعندما ينتهي التحقيق تبرز معاناة أخرى في قصيدة (عام دراسي جديد)، حيث يبرز حرمان السجين من مشاركة أبنائه وعائلته أبجديات الحياة الإنسانية البسيطة مثل مشاركة الأعياد والمواسم الدراسية وانعكاس معاناة الأبناء على نفسية الأب، وفي قصيدة (حسين) تجربة من معاناة الأسرى الفلسطينيين في حرمانهم من العيش مع أفراد أسرتهم وإخوانهم في سجن واحد على الأقل، بالإضافة إلى معاناة أم الأسير في قصيدة (شوق إليها)، والتجربة الأقسى تتمثل في حرمان مشاهدة اللحظات الأخير لميت عزيز مثل أحمد في قصيدة (أحمد)، مما يدفع الشاعر إلى اعتبار موته مسئولية العدو:

        حبيبي، أهذا أنت؟ يخذلني العزاء

        نموت كنبتة الصحراء حتى

        غرقت، ولم أمدد إليك يدا

        ومتّ، ولم أدفع فداك فدا

        وغُسّلت لم أحضر

        ولم تلثم شفتاي ثغرك

        ودُفنت لم أبصر

        ولم أوسّدك قبرك!

   ولا تنتهي معاناة الإنسان الفلسطيني فهو في قصيدة (خذيني إليك) يصور حاله إن خرج من السجن،  فهو مطلوب للجميع، ومحاصر مطارد، ومنفي محاصر.

   ويتمتع الشاعر بنفسٍ قصصي يأخذ حيزا كبيرا من شعره، فقصيدة (على الشبك) هي قصة طفلة صغيرة تتكلم كعصفورة مع والدها السجين عن إخوتها وأعمامها، وكيف تحسب الأيام لموعد خروجه، ويعاهدها والدها على الجهاد المستمر حتى تتحقق لها بسمة حقيقية، فتمد أصابعها من بين فتحات الشبك معبرة عن معاني شوقها، وتوصيه بالصبر، لكن صياح حارس السجن يؤذن بانتهاء الزيارة، فتتركه ولمّا تكمل كلامها، لكن عيونها أرسلت كل الرسائل، وتنتهي القصة بتوجه الأسير إلى الله وهو يعلن إيمانه بالنصر.

   ويمكن أن نلمح عناصر القصة في قصيدة (في التحقيق) التي تبرز حكاية الليل الذي يطرق باباً مقفلاً، وجواب قلب الشاعر على الطارق الذي يبرز رحلة عذاب في سراديب السجن: من قيد، وكيس على الرأس، وثلج يصب على الصدر، وغاز يخنق، وصلب على الجدران، وحرمان من النوم، وضرب وركل، وعلى صعيد آخر تشريد الأسرة وهدم المنزل وتعذيب الأبناء، والآه التي يرددها ليست للألم بل رسالة لله، وفي قصيدة (زيارة قصيرة) يعتمد تقانة القصة القصيرة في تكثيف المشهد ووحدة الموقف، حيث يصور لمحة عابرة مكتنزة بالمشاعر تبرز حرمان الأسرى من الأصدقاء والأهل، وما محور الحكاية إلا زيارة قصيرة جدا داخل السجن لرفاق الدرب: يحيى، والشيخ، وصلاح، وشريتح، ويُلاحظ الحوار القصير الذي تناسب مع الموقف: (كان التواصل يا صلاح، عجبا لروحك يا شريتح).

   ويلجأ الشاعر في قصيدة (عام دراسي جديد) إلى لحظة درامية تتمثل في ليلة صبيحتها عام دراسي جديد لأبناء غاب والدهم عنهم، ويتكىء لتكثيف الحدث على أحداث سابقة مرت مثل الأعياد والمناسبات وما رافقها من معاناة، ويلجأ إلى أحداث مستقبلية يستبق بها خروج السجين؛ مستفيداً من تقانة الأماني والأحلام، وأحداث قصته تراوح مكانها، في لحظة فاصلة بين أحداث سابقة وأحداث متمناة لاحقة تشكّل نهاية سعيدة، والأشخاص هم: (الأبناء، والوالد الأسير، والأطفال الآخرون السعداء بوجود آبائهم بينهم)، ويتشابك الزمان بين أعياد مضت وموسم العام الدراسي الجديد والحلم برؤيته في المستقبل في مثل تلك المناسبات وهو يعود لبيته محملاً بالهدايا ولوازم الأعياد.

   ويعتمد الشاعر في إبراز ذلك حواراً بين الأبناء ووالدهم الأسير، فهم يحكون عن معاناتهم بفقده سجيناً، ويتكلمون عن آمالهم وأمنياتهم وواقعهم، بينما يرد عليهم بضرورة الصبر، والإصرار على مواصلة التضحية حتى النصر أو الشهادة، ويحاول أن يزرع الصبر في قلوبهم ليثبتوا في مستقبل الأيام إن عاد لهم بما يحلمون، أو إن عاد لهم يوماً شهيداً، وهو يستبق الزمان ليصور شهادته وأشلاءه التي سيلقى بها الله يوماً.

   وفي قصيدة (حسين) تظهر الشخصيات الرئيسة متمثلة في الشاعر وشقيقه الأسير حسين، والشخصيات الثانوية الإنسانية متمثلة في رفاق السجن ورفاق الطفولة والزوار، وتمثل الزنزانة كمكان شخصية رئيسة تجسد الظلم والحرمان، ولكنها لا تستطيع أن تحاصر الشاعر، فهو يخرج منها ليصف مراحل الخروج الروحي من الحديد ثم المتاريس، ثم الشوارع، بل يخرج من الزنزانة في رحلة إسراء إلى سجن أخيه الآخر، ليتجول داخل جرحه، ويدور مع دمه؛ وصولا إلى روحه للتعبير عن توحد أخوي، يتمثل في الرجوع إلى أماكن أخرى التقي فيها الاثنان: (كنا معا، جرينا معا، ضُرِبنا معا)، حتى وصلا إلى مكان قريب من الزنزانة هو غرفة التحقيق:

        سُجنا معا... سئلنا معا

        وحين اكتويت بنار العذاب

        تئنّ بنفحة مني العظام

        وأُحرم منها هدوء المنام

        وتسهر موثقا كفيك

        مشدوداً إلى الحائط

        وأسهر بالليل... قيدك قيدي

        وتصمد...أصمد... لا فرق

        كنا معا

        رضعنا لبان الإباء معا

        وكان النقاء لنا مرضعا

   ويقتحم على الأمكنة المتشظية من مكان واحد هو الزنزانة؛ مكان جديد هو عالم الحرية، فحسين يخرج حاملاً ثقل عكازته، وينتظر شقيقه الشاعر زيارته، ومن ثم انتقامه ومواصلته درب المقاومة.

   وأما قصيدة (حديث على أبواب الجنة) القصصية، فيعتمد فيها الشاعر التقانة السينمائية والتلفزيونية عبر ومضات تذكّر المتلقي بالومضات السينمائية الاسترجاعية (فلاش باك) والمزج بينها وبين الومضات الاستباقية في مزيج يحقق أكثر من مفارقة، ويعطي أكثر من بعد، فلحظة الذروة تتمثل في خطوات مطمئنة لاستشهادي مقبل على لحظة التفجير، وفي الومضة الأولى يسترجع صورة أمه في بحثها الدءوب عن عروس له، وفي حلمها بأولاده يلعبون في حجرها، وفي الومضة الثانية يستبق الأحداث ليصور حالة أصحاب السلام وغضبهم من عمله، وفي الومضة الثالثة يسترجع في مقابل اتهامه بقتل الأبرياء صورة والده والمهاجرين عام 1948 والمذابح المتتالية التي عاناها الشعب، وفي الومضة الرابعة يستبق الأحداث ليصور أقوال الأدعياء عن قوت الشعب ومعاناة العمال، ويضع رده على ذلك في الومضة الخامسة عندما يسترجع أحوال العمال والناس في سنوات السلم العجاف بعد أن استلم  اللصوص المفاتيح؛ فلا هم حرروا الوطن، ولا هم حققوا العزة، بل عاش الناس في مذلة، ثم يرجع الشاعر إلى اللحظة الزمنية الأولى؛ والاستشهادي مقبل بخطواته ليصور لحظة التفجير وما تحدثه على أرض الواقع وما تثيره من تداعيات لسنوات مقبلة.

   ويعتمد الشاعر في قصيدته على شخصيات رئيسة تمثلت في الاستشهادي وأمه وأصحاب السلام ووظف شخصيات غائبة كان لها دورها في بلورة الحدث وإعطائه بعداً درامياً إنسانياً مثل: أولاد الاستشهادي المتخيلون في ذهن والدته، ووالده المهاجر ومن معه من مهاجرين، والشهداء الأبرياء في المذابح المتتالية، والجياع، والعمال، وموقّعو السلام، واللص، بالإضافة إلى شخصيات متخيلة، تمثلت في السارد المطلع على خفايا الأمور، والمتلقي صاحب الضمير الذي يقارن بين الأقوال ليصدر بالتالي حكمه.

   واعتمد الشاعر في قصيدته المكثفة الحوار بنوعية، فهناك حوار خارجي بين الاستشهادي وأمه من جهة ومع أصحاب السلام وبعض الأدعياء من جهة ثانية وثالثة، بالإضافة إلى الحوار الداخلي (المونولوج) الذي بين فيه الشاعر رفض الاستشهادي لمصطلح براءة المحتل مبرزاً أفانين العذاب التي واجهها شعبه والجرائم البشعة التي ارتكبها المحتل.

   ولم يكتف الشاعر في قصيدته القصصية باللغة العادية بل وظّف لغة الجسد في أكثر من موضع ليمنح الحوار والحكاية شكلاً درامياً واقعياً، يمكن تصوره بسهولة، ويوسع دائرة معايشة المتلقي لأدق التفاصيل، مما يمنحه نسبة مشاركة أعلى في التفاعل مع الحدث، من ذلك قوله: (كان يمشي مطمئنا، واثق الخطوة، يتشدقون، ضغط الزر ففجر، فتبسم، وتبسم...).

وتميز أسلوب الشاعر على صعيد اللغة بأكثر من سمة، حيث اعتمد التكرار في فعل التبسم في نهاية قصيدة الاستشهادي؛ ليكثف من خلالها فكرة استهانة الاستشهادي بالموت وقناعته بالفعل الذي يقوم به، وكرر عبارة (نموت كنبتة الصحراء) في قصيدة أحمد، ليعبر عن مرارة تجربة الطفل أحمد، التي تُوّجت بالموت والغرق، كما أنه يكرر معنى موت أحمد بأكثر من لفظ ليعبر عن مرارة التجربة: (غرقت، مت، غسلت، دفنت، لم أوسدك)، ويستخدم الشاعر أسلوب الحذف والإضمار في بعض المواضع من ذلك:

   خذوا كل شيىء ولا تسرقوا الشمس منا

   خذوا القمح لكن...

   خذوا النفط لكن...

وفي ذلك إيحاء برفض قاطع للاستيلاء على الشمس وحذف عبارة (لا تسرقوا الشمس منا) في كل المواضع أبلغ من تكرارها، ففي تعدد المعطيات المضحّى بها في مقابلها تأكيد على معناها، ويكون الخفاء في بعض الأحيان أبلغ من الظهور والتكرار.

   ووظّف الشاعر بعض التعبيرات الخاصة به، مثل قوله: "تداعب قلبي المربوط بالشبك"، ففي ذلك إيحاء بقسوة المحتل وفاشيته، ومن ذلك قوله:

   عائد مثل (فج النور) في قلب المجاهد

   عائد مثلما حقي لباطلهم يطـــارد

فهذه التعبيرات تحمل صوراً نابعةً من تجربة مميّزة للإيمان الذي مثل فج النور، والحق الذي يطارد، والتعبيرات هنا تعبر عن إحساس قوي بالإيمان، ومحاولة تجسيد ملموسة ومميزة لانبعاثه في قلب المؤمن، كما تعبر عن يقين كبير بالحق الذي يصفّ إلى جانبه، ويقينه بأنه قوي مهما ضعف أصحابه، وأنه بقوته يطارد الظالم والباطل، وتأمل التعبير في قوله:

   يا زمرة القلب الموحد ليس تخلطه الشوائب

حيث يوظّف فهمه الحركي، ويستخدم تعبيرات راشدة، تنطلق من رقة القلب إلى المسار الذي يصنع الحياة، ويدرك أسرار النجاح، من تجمع وتوحد ومحبة ونقاء من الأهواء، رحم الله شهيدنا الشاعر، وشاعرنا الشهيد، فقد ملأ الدنيا بفكره وعمله، وتركنا نتأمل  نبوءته اليقينية لشهادته التي قطعها على نفسه مع أولاده يوم أن كانوا صغاراً، يحزنون لفراق عابر في سجون الاحتلال بمناسبة عام دراسي جديد:

   يا شغاف القلب عهداً لن نحيد

   فاكبروا للحق جندا

   يبذل الروح يضحي بالحياة

   لا يبالي في سبيل الحق لو سالت دماه

   يحمل الروح على الكفّ ويمضي في مناه

   أنا للجنة أحيا، يا إلهي

   في سبيل الحق فاقبضني شهيدا

   واجعل الأشلاء مني معبرا

   للعز للجيل الجديد

   وهي نبوءة شاعر ومفكر تنسجم مع رؤيا صالحة يراها الشهيد ليلة استشهاده ويحدث بها ابنه (أبو بكر) على مسمع من زوجته، حيث ناداه وقال له: "يا أبا بكر، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاني إلى مأدبة الغداء"، ثم أوصاه بأمه وأهله، وانطلق خفيفاً مسرعاً، ملبياً دعوة الرسول، مقبلاً على الله، فهنيئا لك يا أبا أحمد على مائدة الرسول صلى الله عليه وسلم !!