قراءة في كتاب (في نظريات التغيير)
قراءة في كتاب (في نظريات التغيير) لمنير شفيق
بقلم: محمد الحسناوي
في السبعينات قرأت كتاب (علم الحرب) لمؤلفه منير شفيق، فلفت نظري بعلمه وبعد نظره وموضوعيته، وعلى الرغم من مضمون الكتاب العسكري، وبعده عن اختصاصي الأدبي ، وجدتني أكتب مراجعة له ، أو أتوقف عند مسألة في غاية الأهمية ، ألا وهي استراتيجية الحرب عند رسول الله - صلى الله عليه وسـلم- والفتـوح الإسلامية، فهي عند المؤلف انعطاف كبير في تاريخ الحرب عالمياً من جهة، ومن جهة ثانية وجود ملامح جوهرية بينها وبين حروب (نابليون بونابرت). وبما أن (بونابرت) جاء بعد الإسلام بزمن طويل، فهذا يثير سؤالاً أو احتمالا أن يكون (نابليون) نفسه اطلع على حروب الفتوحات، وأفاد منها، فكان له ذلك الدور الكبير في تاريخ الحرب. لذلك رأينا المؤلف منير شفيق يعقد فصلاً خاصاً للمقارنة بين حروب الفتح الإسلامي وبين حروب نابليون ،لتأييد وجهة نظره.
بعد ذلك صرت أتتبع كتابات منير شفيق- لاسيما المقالات الصحفية التي كتبها في مجلة الدستور اللندنية وأعجبت بها- أذكر من عناوينها وأفكارها، مثلاً: (على المسيحي العربي أن يقرأ الإسلام كما يقرأ الماركسية أو الليبرالية أو الوجودية على الأقل)، أي بفكر منفتح، لا بأفكار مسبقة.
ولابد لي- بالمناسبة- من ملاحظة على حياتنا الثقافية، مفادها أن العالم العربي قد احتفل، واهتم كثيرا بانتقال (روجيه: رجاء جارودي) من ضفة فكرية إلى ضفة الإسلام، وهو احتفال في محله، لكن لم يحدث شيء من ذلك- في حدود علمي- بالنسبة إلى انتقال الأخ الأستاذ منير شفيق هذا الانتقال نفسه!
أشهد أنني لما اجتمعت بالرجل شخصياً منذ سنة، عرفت فيه زهده بالمظاهر، وعزوفه عن الضجيج الإعلامي وحب الظهور. ومع ذلك رغبت إليه -ومعي الكثيرون ممن حضروا تلك السهرة- أن يدون (تجربته) الفكرية الأصيلة الخصبة، لما فيها من فوائد، ولما لها من مدلولات ومؤشرات على مرحلة كاملة في حياتنا السياسية والحضارية. وإلى الآن لم يستجب الرجل لرغبتنا.
مع تقديري لمكانة الأستاذ رجاء جارودي الفكرية عالميا، وملئه ساحة واسعة من ميدان الصراع الحضاري، واستحقاقه لكل ما حظي به من تكريم واهتمام به وبفكره ومواقفه، وما سوف يحظى به هو أهل لكل ذلك، أقول: إن تجربة منير شفيق لا تقل عن تجربة جارودي أهمية وخصباً. ويكفي أن أشير إلى مفارقة واحدة معبرة عن أمور كثيرة، وهي أن الانتقال إلى الإسلام أصبح أمراً عادياً في أوروبة، أما في شرقنا وعالمنا العربي المعجون بالعقد والعصبيات والصراعات الجانبية (البينية) العربية -العربية، فالأمر يكاد يكون من العجائب، على الرغم من وجود مسوغاته الكثيرة. وهذا ما كان يشير إليه منير شفيق باستمرار، في سياق حديثه عن المعوقات التي تقف في طريق (المشروع العربي الإسلامي النهضوي).
هو ذا مفتاح شخصية منير شفيق، وهو نفسه المفتاح الذي نمضي به في مراجعة آخر كتاب له، وهو (في نظريات التغيير).
(إن الأوضاع العربية والإسلامية والعالمية بحاجة إلى تغيير جذري، وهذا ما جعل علماء الأمة ومفكريها وسياسييها، - والأمر كذلك بالنسبة إلى وضع العالم ككل - يسعون بهذا الشكل أو ذاك للإسهام في عملية التغيير المنشودة، بل هي في الحقيقة عملية إنقاذ من الكارثة)(1). يضيف المؤلف قوله: (يمكن أن يسأل هنا: لماذا لم تستطع كل محاولات التغيير والنهضة على اختلافها: إسلامية وقومية وقطرية أن تحقق أهدافها؟)(2). يجيب باختصار شديد في آخر الكتاب بعد أن فصل بقدر ما استطاع في الفصول السابقة، فيقول: (إن مشروع التغيير يحتاج إلى فكر سليم وعقل سليم في فهم سنن التغيير، بما في ذلك تقويم حجم العقل والفكر والجوانب المعنوية في التغيير، ويحتاج إلى فهم الواقع بكل معطياته، على المستوى القطري والإقليمي والدولي، وما يحكمه من قوانين وموازين قوى، وما يحتاج إليه من شروط من أجل النجاح في التغيير)(3).
ولعل من أهم اللمسات النقدية لنظريات التغيرية عندنا.. إغفال الدور الذي تمارسه العوامل الخارجية، يقول المؤلف: (فما من محاولة نهوض سقطت من تلقاء نفسها أو داخلياً بسبب نواقصها، وإنما سقطت بالفعل الخارجي، فالتقييم يجب أن يربط سلبيات الداخل بالفعل الخارجي، وإشكاليات العقل بواقع التجزئة والسيطرة الخارجية، بما يقدم بديلاً يقوى على مواجهة إشكالية التجزئة والفعل الخارجي، وعلى معالجة نقاط الضعف الناجمة عن التجزئة والتبعية في الوضع عموماً) (4).
بالطبع لم يكن حديث المؤلف عن نظريات التغيير عاطفياً ولا إنشائياً، لأن هذا الموضوع (كان محطاً لاهتمام المؤلف طوال أربعين عاماً الماضية، ولهذا فهو ثمرة، أو خلاصة، لمجموعة من المجهودات والدراسات والترجمات السابقة، وهذا ما جعله يخرج على صورة خلاصات أكثر منه على صورة بحث أكاديمي للموضوع)(5). وإذا كان من أغراض مقالي هذا دعوة المعنيين من قادة حركات التغيير عندنا إلى دراسة هذا الكتاب بعناية، فلا بأس بأن أضيف بأن هؤلاء المعنيين أكثر فهماً واستفادة منه من غيرهم، لأنهم سيجدون فيه أنفسهم عيانا، لكأنه قد كتب خصيصاً لهم، وهذا وحده كاف لإعطاء الكتاب أهمية بالغة، وفي مرحلتنا هذه.
بصرف النظر عن عرض أبواب الكتاب الثمانية من خلال فصوله الأربعة: (ثوابت التغيير ومتغيراته -حول أساليب التغيير- في نظريات التغيير- حول موضوع العنف- ميزان القوى في الصراع-التحالف في السيرة- مرتكزات في التغيير في الواقع الراهن) نشير إلى أن المؤلف يدرس نماذج التغيير في دعوات الأنبياء جميعاً -عليهم السلام- لكنه يتوقف، ويطيل في الحديث عن التغيير في صدر الإسلام، والعهد النبوي، لأنها (العملية التغييرية العظمى التي قادها محمد بن عبد الله، المتحرك بالقرآن والوحي وخاتم النبيين والمرسلين -صلى الله عليه وسلم- في إدارة الصراع ضد ملأ قريش وأصنامهم وشركهم، ثم ضد شرك اليهود في المدينة، وضد الجاهلية العربية، ثم في فتح مكة، ثم في التوجه نحو العالم كله، فقد حمل أعلى درجات العمق والشمول، بل إن عملية استقاء الدروس والعبر، سواء أكان من القرآن أو من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حول الثابت والمتغير في التغيير، فذات ثراء، لا ينضب لها معين، فنحن هنا أمام بينة يقينية تفصيلية حول ما جاء فيها، وإزاء تجربة مكتملة، بما عرفته من اختلاف المراحل والأطوار التي مرت بها، وتعدد الحالات والظروف التي واجهتها، وقد قدمت لكل منها الحلول المناسبة ففي هذه العملية الكبرى استخدمت عدة أساليب) (6) يذكر منها مثلاً: 1- أسلوب الدعوة والجدال بالتي هي أحسن 2- أسلوب الانتقال إلى بناء القاعدة الآمنة أو نواة الدولة (بينما امتلأت هذه المرحلة بعدة تحالفات، وانفراط تحالفات. وبمعارك جانبية... ودخلت في مرحلة التوازن شبه الاستراتيجي، الذي دشنه صلح الحديبية، ثم مرحلة أسلوب الحصار والتطويق المتبادلين، بلا استخدام مباشر للقتال والجيوش)(7).
على أن أهم درس يقدمه المؤلف في التعامل مع السيرة النبوية أو نماذج التغيير المختلفة (وكل نموذج له خصوصيته) هو التقاط الجوهر، لا التقليد الحرفي (فعلى سبيل المثال، هل يمكن في ظرف آخر ومكان آخر أن يطبق أسلوب الاستجارة في تأمين الحماية، بينما ليس للاستجارة فيه مكان، الأمر الذي يتطلب أن يحمل أسلوب التغيير في مرحلته الأولى سمات مختلفة تماماً، غير تلك التي عرفها أسلوب الرسول - عليه الصلاة والسلام- وذلك بسبب التغير في المعطيات... فالتأسي بالسنة هنا يكون بالتقاط الجوهر لا الشكل، أي التقاط كيفية التعاطي والعوامل الذاتية والموضوعية- الداخلية والخارجية للبلد المعني)(8).
هذا الدرس نفسه يطبق على النص القرآني، يقول: ما من آية في القرآن الكريم استشهد بها في بحث موضوع التغيير أكثر من آية (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).. -ويضيف- إن الإشكالية الأولى هنا ربما تكون منهجية في التعاطي وآيات القرآن أو أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- وذلك باتخاذ آية أو حديث، واختصار كل الموضوع بها أو به، أي تجاوز آيات أخرى وأحاديث صحيحة أخرى حول الموضوع نفسه، ولعل آية (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم..) من أكثر الآيات التي اختصر بها القرآن والسنة، وحملت أكثر مما تحتمل.. إن هذه الآية، على عظمتها وأهميتها، لا تلغي سنن الله الأخرى في التغيير، ولا تختصر آيات القرآن الأخرى، مثل: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها، ففسقوا فيها، فحق عليها القول، فدمرناها تدميراً)، هنا آية أخرى، تكشف شرطاً ضرورياً آخر من شروط التغيير، وهي ضرورة أن يفسق مترفو السلطة...)(9).
ومثلما بدأ المؤلف بدراسة نماذج التغيير من أقدم العصور، في دعوات الأنبياء عليهم السلام، انتهى إلى دراسة الواقع الراهن، وحركات التغيير فيه، لاسيما موضوعات (العنف) و(التحالفات) و(موازين القوى)، مسلحا بالدقة والعمق والشمول في الفهم، وفي التعامل مع النصوص الشرعية، والنماذج التاريخية أو المعاصرة على حد سواء. انظر إليه، وهو يدرس (صلح الحديبية) بذاته، وفي التبسيط المخل، حين قورن (باتفاق أوسلو) أو (اتفاق القاهرة)، ثم الضرب بعرض الحائط بالمعطيات وموازين القوى التي أوجبت صلح الحديبية وبنظائرها في هذين الاتفاقين: (فمناقشة موضوع صلح الحديبية يجب ألا يحصر في مناقشة جواز عقد الصلح أو الهدنة، أو عدم جوازهما من الناحية الشرعية، بل إن الجواز الشرعي يجب ألا يعني الوجوب أو الجواز في حالات أخرى إذا كانت المعطيات مختلفة. فالتفكير التبسيطي، هو الذي يعقد المقارنات المخطئة، ويسيء استخدام القياس، أي المطلوب أن تقدم كل الحيثيات، التي توجب أو لا توجب اتخاذ هذا القرار أو ذاك، وفقا للمعطيات والظروف والخصوصيات المستجدة في عصرنا، ومن ثم يؤصل القرار، ويحتكم إلى رأي الشرع)(10).
ويوضح المؤلف ذلك فيقول: (إن القول بالتحريم أو عدم الجواز، قد يجابه بمبدأ (الضرورة) أو (الاستطاعة) ليرفع التحريم، وعدم الجواز، إلى أن تنتهي الضرورة وينتهي الاضطرار، ويتغير حال الاستطاعة. هذا يعني أننا سنظل باستمرار محكومين بمدى صحة تقدير الموقف أو عدم صحته، وبمدى فهمنا للوضع الذي نواجهه، حتى يأتي حكمنا قريباً من الصواب، أو قل قريباً من منهجية رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في إدارة الصراع)(11).
على الرغم من ذلك يرتقي المؤلف بالتحليل وتقدير الموقف وموازين القوى درجة درجة، وهو لا ينفك مستمسكا بالثوابت، ولو اقتضى الأمر التضحية بإنجاز خطوة ضخمة في التغيير، مثل إقامة دولة إسلامية، من خلال انتهاز فرصة انشغال الدول الكبرى بقضية عارضة، أو بانتقال من حال سياسي إلى حال آخر، مثل سقوط الاتحاد السوفياتي، واختلال موازين القوى العالمية آنذاك، قبل استقرار القطبية الواحدة. فالحركة الإسلامية قد تنجح في أحد الأقطار بإقامة نموذجها الإسلامي، ثم تتعرض للحصار الخارجي، وللمشكلات الداخلية، مما يلجئها إلى القمع الأمني، وإلى تقديم تنازلات، تبعدها شيئا فشيئا عن القدوة الإسلامية التي تعتقدها، وتسعى إلى تحقيقها، فينقلب النموذج الإسلامي إلى حال تشبهه بنماذج العلمانيين والمغامرين العسكريين، فيقول: (إن انتهاء المحاولة بصورة مشرفة، خير من بقائها على تلك الصورة، وهذا ما يفرض أن ينمي وعي واستعداد للتخلي عن السلطة أو فقدانها، أو خسارة مكاسب معينة في وضع قانوني، أو مكاسب شعبية، إذا لم يكن الاستمساك بالسلطة والمحافظة على المكاسب، مقروناً بتطبيق المثال الإسلامي أو الاقتراب منه، ولعل نموذج الخليفة عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه- بليغ في هذا المجال... ولهذا إن حكما قصير الأمد، يجسد المثال الإسلامي في العدل والشورى، وإعلاء القيم العليا في كل مجال، أي يقدم نموذجاً إسلامياً حضارياً متميزاً فعلاً عن نموذج الدولة الحديثة في الغرب أو العالم الثالث، يستأهل أن يكون الهدف، ويعمل من أجله، حتى لو كان ثمن ذلك قصر عمر الحكم)(12). (وعندما لا يكون رفع أعمدة البناء وجدرانه وسقوفه ممكناً، فلنؤسس القواعد على أساس متين)(13) (ليس هنالك من وضع لا يستطيع المرء فيه أن يكون قريباً من القدوة أو المثال الإسلامي، فهذا المثال يمكن أن يتجلى وأنت مستضعف يتخطفك الناس، كما حين تصبح متمكنا ذا قدرة)(14).
إذا كانت السياسة استمراراً للحرب في عهد السلم وبمفردات أخرى، فإن منير شفيق جمع التخصص العسكري: علما وخبرة، إلى تجربته السياسية المتميزة الطويلة الأمد، مضافاً إلى ذلك كله معاناته الشخصية، في البحث والتنقيب النقديين عن مشروع خلاص نهضوي لأمته وللإنسانية جمعاء، طوال أربعين عاماً كما أشار. ولهذه الأسباب وأمثالها من المزايا.. نؤشر دوراً متميزاً، يحتله بجدارة، لا يكاد يجاريه فيه أحد في حدود علمنا، وهو بذلك يكمل الأدوار التي يشغلها نفر محدود من مفكري الصف الأول في حركاتنا التغييرية المعاصرة، أمثال الدكتور يوسف القرضاوي وراشد الغنوشي وسيد قطب، وتأتي خصوصيته من رصيده الفكري والسياسي الذي اختزنه، واختمر لديه من تجربته السابقة في (الخندق الآخر)، قبل تحوله إلى الخندق الإسلامي، فضلاً عن تجربته الشخصية العميقة الأصلية، التي هي شاهد من شواهد مستقبل الإسلام الحنيف.
(1)- في نظريات التغيير -منير شفيق-الناشر للطباعة والنشر للتوزيع والإعلان- ط1- ص:7.
(2)- المرجع السابق- ص: 149.
(3)- المرجع نفسه: 151.
(4)- نفسه-ص: 150.
(5)- نفسه:ص: 8.
(6) و(7)- نفسه: 28.
(8)- نفسه-ص: 28.
(9)- نفسه- ص: 145-146. إن هذه المسألة مهمة جداً، لذلك يقول المؤلف موضحاً ومبرهنا: (بكلمة أخرى إذا لم تكن هنالك آية في القرآن كله تستطيع أن تغني عن القرآن كله، إذ لو كان الأمر ممكناً لما نزل القرآن كما نزل. وإذا لم يكن هنالك حديث لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- يغني عن الأحاديث الأخرى كلها، فإن هذا يعني أن ما من آية يمكنها أن تختصر كل العقيدة أو كل سنن التغيير... فالقرآن كله والسيرة بمجموعها، هما المرجعية في فهم موضوع بعينه...) ص: 147.
(10)- نفسه- ص:2.1.
(11)- نفسه- ص: 113.
(12) و(13)- نفسه- ص: 141. (14)- نفسه- ص: 142.