مسرح علي أحمد باكثير ـ قصر الهودج

عبد الله الطنطاوي

أضواء على مسرح باكثير التاريخي (3)

قصر الهودج

 بقلم: عبد الله الطنطاوي  

[email protected]

نوع المسرحية

"قصر الهودج" مسرحية غنائية تاريخية، تتحدث عن شهامة الآمر بأحكام الله - الخليفة الفاطمي، من خلال قصة حب كتلك التي شاع ذكرها بين أعراب البادية، كقصة ليلى والمجنون، ولبنى وقيس، وعفراء وعروة، وسواها من حكايات الأعراب عامة، وبني عذرة خاصة، أما قصة قصر الهودج، فهي قصة حب سلمى وابن عمها ابن مياح.

قصة المسرحية

سلمى وابن ميّاح درجا في البادية، وتبادلا الحب، وقبل أن يجمعهما عشّ الزوجية، شاءت الأقدار أن يلتقي الخليفة سلمى، فهام بها حباً - حسب العادة- فقد أسره جمالها، وصبته ملاحتها، فلم يعد يطيق نوماً، ولا يهتدي إلى راحة، ولن يعرف للحياة طعماً إلا إذا ظفر بها، وكانت من بين زوجاته ومحظياته، فتنكر الخليفة -كدأب الحكايات الشعبية- وذهب إلى بيت الشيخ عمار بن سعد -والد سلمى- على طريق صحراء الصعيد في مصر. وبيت الشيخ عمار عبارة عن خيمة من خيام البدو، فيها مقاعد خشبية مفروشة بالوبر. جاء الخليفة متنكراً زاعماً أنه ساعي الخليفة، جاء يخطب سلمى من أبيها، ويكون حوار بين سلمى وابن عمها، حول طلب الخليفة يد سلمى، ويحتج الوالد المسكين على ما كاد يتفق العاشقان عليه من الهرب، لأنهما لم يفكرا بما قد يصيبه من حاكم مصر، فيبدي ابن مياح ندمه، ثم يهيم على وجهه في الصحراء دون أن يودع الحبيبة الغالية، بعد ما عرف أن ذلك الساعي لم يكن سوى الخليفة نفسه، الذي عرَّض نفسه للإهانة، عندما لطمته سلمى بكفها الرخصة، وكاد يبطش به أبوها الذي رآه يتغزل بها، ويطلبها لنفسه، وهو لا يعلم أنه إنما يكلم الخليفة ويشتمه.

كان هذا في الفصل الأول، وفي الفصل الثاني الذي تجري حوادثه في جزيرة الفسطاط (الروضة) بقصر الهودج الذي بناه الخليفة لزوجته وحبيبته البدوية، وهو يطل على النيل من جهة، ومن حوله ضربت الخيام العربية كأنها حي من أحياء العرب في البادية...

يأتي ابن مياح ليودع ابنة العمّ الحبيبة، إذ لا يجوز له أن يهيم على وجهه في الصحراء دونما وداع، وأخذ شيء من الذكرى، وترتاع سلمى، ومعها وصيفتها التي تنسحب إلى الشرفة، تاركة الحبيبين يتناجيان، ويظهر الخليفة فجأة أمام ليلى (الوصيفة) فترتاع لرؤيته، فيشير إليها أن تسكت وتبقى في مكانها وإلا فسيقتلها، فبقيت جامدة في مكانها تسمع كما يسمع الخليفة نجاوى العاشقين، ويرى هو من فرجة الباب ما يجري بينهما.

يسمع الخليفة زوجته سلمى وهي تلوم ابن عمها الذي جاءها ليلاً، ولم يأتها زائراً في وضح النهار، ويسمع عتابها له، لأنه تركها وغادر إلى الصحراء، ولو بقي لتمسكت به، وما رضيت بالزواج من الخليفة، وأنها غير سعيدة بهذا الزواج، على الرغم من أريحية الخليفة وكرمه، فلم يدع شيئاً يمكن أن يدخل السعادة إلى نفسها إلا قدمه لها، فقد جعل الجزيرة كلها ملكاً لها وحدها، وبنى فيها القصر العجيب، وضرب حوله الخيام، ليشعرها أنها بين أهلها، فهي ترى حولها الشياه والأنعام والإبل وكل ما كانت تراه في البادية، إكراماً لها، ثم تتأوه لأنها ظالمة له، لزوجها المحب، إذ لم تجزه حباً بحب، حتى إنها لتشعر بالخيانة في موقفها وصدّها عنه.

وشاهد الخليفة ابن مياح يطلب من سلمى أن تسمح له بتقبيل يمناها، فتزجره لأن الدين والخلق النبيل يأبيان ذلك، وعندما طلب منها ذكرى، نهضت وقدّمت له خمس مئة دينار، فرفض قبولها، وغضب منها، فهو لم يأت مستجدياً، فقامت تقدم له منديلاً من مناديلها الملوكية، ولكنه يرفضه، إنه يريد شيئاً من أشيائها القديمة، فتذهب وتأتيه ببرقعها الأسود القديم البالي، فيأخذه ويقبله، ثم يطويه ويخفيه بين ثيابه، ثم ينهض لينصرف، وإذا الخليفة يدخل الغرفة، ويقف أمامه، فيرتاع العاشقان، ويحاولان شرح الموقف، غير أن الخليفة يأمر بأخذه إلى السجن، ويتركها في قصرها تبكي ابن عمها ونفسها وحظها العاثر.

وفي الفصل الثالث، في قصر الهودج نفسه، تجري الحوادث بعد خمسة شهور على سجن ابن مياح.. يحضر الشيخ عمار من بادية الصعيد، تلبية لدعوة الخليفة، فتتلقاه ابنته سلمى بالترحاب، ولكنه يرى الشحوب في وجهها، فيسألها عمّا بها، فلا تستطيع الإفضاء بما في نفسها، وتنخرط في البكاء وهي تقول:

سلمى: يا أبي، دع سيّدي يفضي إليك.. أنا لا أستطيع أن أفشي سرَّه.

عمار: أيّ سرّ؟

سلمى: إنه سرّ خطير.

عمار: أيّ سر؟

سلمى: يكمن العار وراءه.

ليس لي منه سوى الله مجير.

فهو العالم طهري والبراءة.

ويأتي الخليفة، فتنسحب سلمى إلى مخدعها، ويسأل الشيخ عمار صهره الخليفة عما إذا كانت سلمى قد أساءت إليه ليؤدبها، فيحكي له الخليفة عن زيارة ابن مياح لها في جوف الليل. ويثور الأب، ويسأل الخليفة عن ابن مياح ليذبحه ويذبح سلمى معاً، ويغسل العار الذي جلّلاه به في أواخر عمره، ثم يأمر الخليفة بإدخال ابن مياح، بعد أن يكون الشيخ عمار قد وثب على سلمى، يجرها من شعرها إلى حيث الخليفة جالس، وعندما جيء بابن مياح، استل الشيخ عمار خنجره، ووثب عليه ليذبحه، ولكن الخليفة يأمره بالعودة إلى مجلسه، فلا يجوز له أن يقتل جار الخليفة، فيعجب الشيخ عمار من تصرفه، ولكن الخليفة يشرح ما كان رآه من أمر العاشقين ويقول:

إن سلمى لم تخن زوجاً، ولا والله لم تفضح أباً

إنها أطهر من ذلك أخلاقاً، وأسمى أدباً

ثم يقول: إنه طلّق سلمى من تلك اللحظة التي أدخل فيها ابن مياح السجن، وقد كملت عدّة سلمى منذ شهر، وهو يزوجها من ابن مياح، ويدفع عشرين ألفاً صداقاً لها، وتعود سلمى إلى البادية مع زوجها ابن مياح، ليعيشا زوجين حبيبين في أحشاء الصحراء

موضوعها

وهكذا ظهر لنا أن موضوع المسرحية مطروق، وهو لا يختلف كثيراً عما كتبه أمير الشعراء أحمد شوقي في (مجنون ليلى ) وعزيز أباظة في (قيس لبنى) وغيرهما من شعراء العرب وكتابه.

إنه الحبّ الذي يمتلك قلوب العاشقين، فيضحون بكل شيء في سبيل الحبيب... فابن مياح يخاطر بحياته، من أجل نظرة وداع لحبيبته، وسلمى تضحي بالمال والجاه والعيش الرغيد في قصر أسطوري، من أجل ابن عمها وحبيبها ابن مياح.. ويبدو أن في أعراب الصعيد نفحات مما في ربوع بني عذرة، شهداء الحبّ العذري العفيف الطاهر.

فنية المسرحية

يقول علي أحمد باكثير في تقديم هذه المسرحية:

"جعلتُ وكدي في هذه المسرحية الغنائية أن تتوفر فيها صفتان لا غنى للمسرحيات الغنائية الناجحة عنهما:

(1) تطويع لغتها، بحيث يفهمها الجمهور العادي بدون صعوبة، مع احتفاظها بالإشراق والروعة الشعرية.

(2) اختيار الأوزان والقوافي الملائمة لمواقف الرواية المختلفة، والعمل على أن تغلب عليها الموسيقية اللفظية والمعنوية التي تساعد الملحن على بلوغ الغاية في تلحينها".

وإذا عدنا إلى المسرحية، وتأملنا في لغتها، فإنا واجدون أن المؤلف قد تمكن من تطويع اللغة، بحيث يفهمها الجمهور العادي. وتحقيق هذا الشرط ليس سهلاً في مسرحية شعرية تاريخية، فأكثر الذين كتبوا المسرحية الشعرية أو النثرية التاريخية، خانهم التوفيق في تطويع اللغة، فالذي يقرأ (مجنون ليلى) و(أميرة الأندلس) و (عنترة) لشوقي، و (قيس لبنى) وسواها لعزيز أباظة يجد صعوبة في فهم معانيها ومراميها، لصعوبة ألفاظها وبدويتها، ناهيك عن المشاهد لها على خشبة المسرح.. ومع هذا التطويع، بقي أسلوبه شاعرياً مشرقاً، حافظ فيه على المستوى الذي استقر له في مسرحياته الشعرية الأخرى كما في (شادية الإسلام) و(أخناتون ونفرتيتي).

وقد لوّن الشاعر في أوزانه وقوافيه فلم يقف ضمن إطار الوزن الشعري الواحد، والقافية الموحدة، بل بلغ به التنويع إلى حد البيتين والثلاثة في حوار الشخصية الواحدة، ناهيك عن تجزيء البيت الواحد بين الشخصيتين المتحاورتين، ليحقق الشرط الثاني في اختيار الأوزان والقوافي الملائمة لمواقف الرواية المختلفة: فهذا البيت يجري تفتيته هكذا في هذا الموقف:

عمار: أتنويان الرحيل؟ ويحكما.

سلمى: (مضطربة) لا يا أبي

عمار: قد سمعت قولكما.

وفي حوار بين الشيخ والخليفة المتنكر في صورة الساعي لخطوبة الخليفة نقرأ هذا الحوار:

عمار: إنّ بيتي لهو بيتك.

القادم: لا تؤاخذني فديتك ما أنا اليوم بضيف.

عمار: ما تقول؟

القادم: لا ولكني رسول.

عمار: رسول إليّ؟

القادم: نعم.

عمار: مرحباً بك

خير أتى بك،

من أرسلك؟

القادم: مليك البلاد.

عمار: يعيش الخليفة.

القادم: قد قال لي:

عمار: ما الذي قال لك؟

وهكذا يستمر الحوار، مفتتاً الأبيات التي نسجها على الطريقة العمودية، مع أن باكثير -رائد شعر التفعيلة- كان بإمكانه أن ينسجها على نول الشعر الحر شعر التفعيلة الذي سبق له أن قدّم مسرحية روميو وجولييت به، بعد أن ترجمها عن إنجليزية شكسبير، وقدّم مسرحية (أخناتون ونفرتيتي) كذلك. ولكن الشاعر، مهتم بنجاحها غنائياً. والشعر العمودي (الكلاسي) أطوع للغناء من شعر التفعيلة الذي قد يساعد على الحركة، ويتماشى مع طبيعة المواقف الدرامية أكثر مما عليه الشعر العمودي. ومع هذا، فإننا نرى المؤلف المتمكن من فنه الشعري، ومن فنه المسرحي، قد حقق الشرطين معاً، فطوّع اللغة والأوزان والقوافي للحوار الحي البعيد عن الحشو من أجل استقامة وزن البيت، كما نجت الحركة المسرحية من البطء، وإن كان ثمة ملاحظة في هذا المقام، فهي قصور الحوار هنا عن رسم المعالم الجسدية للشخصيات، بينما نجح في تصوير بعديها: النفساني والاجتماعي، كما نجح في إبراز الصراع بأنواعه بين الشخصيات المتضادّة.. بين الشيخ عمار وسلمى وابن مياح من جهة، وبين رسول الخليفة من جهة أخرى، ثم بين سلمى الزوجة وبين ابن مياح العاشق الولهان، ثم بين العاشقين من جهة وبين الخليفة من جهة، ثم بين الشيخ من جهة، وبين سلمى وابن مياح من جهة أخرى، فقد تعددت جبهات الصراع في هذه المسرحية الشعرية الغنائية التي لم تزد صفحاتها عن تسعين صفحة من القطع الوسط.

مشكلات يتجاوزها باكثير

تعترض الحياة الفنية من وجهة النظر الإسلامية، مشكلات، يبدو أن باكثير تجاوزها، كمشكلة المرأة وظهورها على خشبة المسرح ممثلة، ومغنّية، مختلطة بالرجال، وكمشكلة الموسيقى التي ترافق العمل المسرحي والغناء وبعض الأعمال الفنية: الإذاعية والتلفزيونية والسينمائية...

وقد بذلنا -نحن الفقراء إلى الله- جهوداً مضنية لحل هذه المشكلات، فلم نتوصل إلى رأي قاطع فيها، حتى اضطررت -شخصياً وفي الجمعية العربية المتحدة للآداب والفنون التي كنت أرأسها بمدينة حلب في سورية- إلى إعطاء الأدوار النسائية لبعض الفتيان المردان، ولكن خشيت من انعكاسات هذه الأدوار على نفسيات الفتيان، وعلى ما قد يصيبهم من أذى زملائهم، كما أن شيخنا الجليل عبد الرحمن زين العابدين- رحمه الله رحمة واسعة- لم يستحسن هذا الاستبدال، وفضّل عليه تمثيل المرأة نفسها عليه، إن لم يكن من المرأة بدٌّ على خشبة المسرح، كما عانينا في عملنا الإذاعي كثيراً، عندما كنا نقدم الملحمة الإسلامية الكبرى (ملحمة عمر) في الإذاعة، وكان في الملحمة شخصيات نسائية، فماذا نفعل؟ وبعض العلماء يعدّون صوت المرأة عورة؟

لم نجد حلاً سوى تجاوز الأدوار النسائية، فظهر العمل مبتوراً، وفيه ثغرات كثيرة هنا وهناك، وزاد الطين بلة، أننا استبعدنا الموسيقى التصويرية منها، وبالرغم من إفتاء بعض الفقهاء الأجلاء باستخدام الموسيقى وبجواز صوت المرأة، فقد خشينا من أن تسلقنا ألسنة حداد تتربص بنا، فأغضينا عن الثغرات الفنية، لتسلم لنا أعراضنا.

باكثير تجاوز هذه المشكلات، فسمح بظهور المرأة على المسرح، في هذه المسرحية وفي غيرها من مسرحياته التاريخية والسياسية والاجتماعية، كما سمح بغنائها، وباختلاطها مع الرجال، ومصافحتها إياهم، على الورق طبعاً، في مسرحياته ورواياته، ولم يجد مشكلة في مصاحبة الموسيقى للغناء وأثناء التمثيل، وهذه جرأة، لا ندري، هل نغبطه عليها؟ أو نلومه؟ كما لا ندري ما إذا كان قد حصل على فتوى بها، أم أنه استفتى نفسه وثقافته والتاريخ والكتب التي بين يديه؟ هو واحد من فنانين وشعراء وأدباء كثر، كانوا موسومين بالإسلامية في حياتهم الخاصة، وفي فكرهم وفي أدبهم، من أمثال الروائي الراحل الرائع عبد الحميد جودة السحار، والشاعر الإسلامي الكبير عمر بهاء الدين الأميري، وسواهما.. ومع ذلك، تجاوزوا هذه المشكلات، وأفتوا بها، كما أفتى بها أو ببعضها فقهاء وعلماء أجلاء، مثل البهي الخولي، ويوسف القرضاوي ومصطفى الزرقا ومحمد الغزالي وغيرهم.. إننا ما نزال في حيرة واضطراب، ونسعى إلى الحصول على القول الفصل في هذه المشكلات العصرية وفي غيرها من القضايا المستجدة..

القيم الأخلاقية

باكثير -في هذه المسرحية، وفي سائر أعماله الفنية (المسرحية والروائية) ينطلق من منطقات إسلامية، فركز على القيم الأخلاقية، سياسية كانت أو اجتماعية، أو تاريخية، لأنه يهدف إلى تربية الناس عليها، وإذا ذكر بعض السلبيات، فمن أجل إبراز تلك القيم الإيجابية.

وهو يفتتح كل عمل فني بآية كريمة، تلقي أضواء ساطعة على مضمون الرواية أو المسرحية، كأنه يعطيك رأيه في الحدث الدرامي مسبقاً.. وهو في هذه المسرحية، يستهلّ عمله بقوله تعالى:

(وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوّروا المحراب، إذ دخلوا على داوود ففزع منهم، قالوا: لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض، فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط. إنّ هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة، فقال أكفلنيها، وعزّني في الخطاب، قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه) صدق الله العظيم. سورة ص (21 - 24).

وما أظنّ الحدث في هذه المسرحية، يتعدّى مضمون هذه الآيات الكريمات فالخليفة الذي يمتلك نواصي أكثر من تسع وتسعين نعجة، ما بين زوجة ومحظية، يتطاول إلى تلك الفتاة البدوية، ليضمها إلى نعاجه، ويسلبها من ابن عمها وحبيبها ابن مياح.. وكما حكم داوود عليه السلام: "لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه" حكم الخليفة على نفسه، وكان شهماً في رد الحق إلى نصابه، وجمع القلبين المحبين الكسيرين، وإكرامهما..

وباكثير -في مسرحيته هذه- لم يخدش ذوقاً، ولم يدع شخصية ترتكب منكراً، بل أكد على معاني الحب الطاهر العفيف، والمشاعر النظيفة، وعلى قيم الحق والعدل والمروءة والشهامة والإنصاف، وهي كلها قيم عربية إسلامية، انبثقت منها عادات وتقاليد سادت أهل الحضر والوبر، في البيئات الإسلامية سواء أكانت في قلب القصور أم في قلب الصحراء:

ابن مياح: ما كان قصدي أن أسوءك إذ أتيتك من بعيد

قصدي وداعكِ، ثم لا ألقاك بعد إلى الأبد

ولبانة أخرى أؤمّلها وأخشى أن تُرَد

سلمى: قل يا ابن عمي ما تريد فلن أردَّ لبانة لك

ابن مياح: يمناك، ألثمها فحسب

سلمى: أعيذ يا ابن العم نبلك!.

أتروم مني حاجة ما إن إليها من سبيل.

لا الدين يسمح لي بما ترجو، ولا الخلق النبيل.

ابن مياح: إني أعيذك أن تظنّي السوء يا بنت عم.

عرضي وعرضك واحد، أخشى عليه أقلَّ ذم.

ومن تلك القيم التي يركز عليها باكثير: حب الوطن، وهذه سلمى تنشد، بعد أن عادت إلى بادية الصعيد:

عدتُ إلى الحيّ الأغن

فضمني صدر الوطن

وكان يبكي من شجن

لفرقتي وينتحب

يا لذة العيش هنا

هنا السرور والهنا

هنا عرائس المنى

ترقص دوني وتشب

وحق لهذه البدوية الحسناء أن تفضل عيش الخيام في البادية على حياة القصور بما فيها من بذخ وترف ورفاه ورخاء، كما فعلت ميسون من قبل، لأن حب الوطن من الإيمان، ولولا حب الوطن، لخرب بلد السوء.