هناك طريقة أخرى ـ حيدر قفّة

هناك طريقة أخرى

مجموعة قصصية لحيدر قفّة

بقلم: محمد الحسناوي

قاع المجتمع المرّ مفتاح شخصية الأديب حيدر قفة ومجموعته القصصية الأولى: "هناك طريقة أخرى".

القصص الثمانية تتحدث عن شؤون اجتماعية، يستحوذ موضوع "العمل" على خمس منها، ولكل من الجنس والتراحم والزيف قصة واحدة.

أما موضوع العمل فيتوزع على الرجال والنساء، ثلاث قصص عن عمل الرجال، واثنتان عن عمل النساء. وما عمل النساء في (قاع المجتمع) غير الخادمات؟!

طفلة عمرها تسع سنوات تسلمها أسرتها الريفية الفقيرة للسمسار الضخم الجثة (أبي حلاوة) ليحملها قسراً وهي تبكي: "أبو حلاوة.. رجعني لأمي.. حرام عليك.. رجعني لأمي.." ليسلمها مقابل "سبع جنيهات في الشهر" ولتنطفئ شمعتها تحت قسوة سيدة البيت لتسلم روحها: "في ركنها الموحش في المطبخ جثة.. ماتت بالاختناق، ماتت.. تسرّب الغاز من الموقد لعطل فني."ذلك موجز القصة الأولى "مشاعر الطفلة"، أما القصة الأخيرة "إلا الكرامة" فتحكي أيضاً مأساة شابة ريفية فقيرة في السابعة عشرة من عمرها تحمل شهادة الإعدادية تعمل أيضاً خادمة في بيت أسرة مترفة في المدينة، وتعاني الأمرين على يد سيدة البيت إلى حدِّ أنها لا تكتفي بضربها بل تسبّ أباها: "ما هذا الذي فعلتيه يا بنت الكلب" "عقدت المفاجأة لسانها. وجمت. بنت الكلب! أبي كلب! بنت الكلب.. أبي كلب.. كلب.. أنا لست بنت كلب يا سيدتي." تصفعها: "لا يا سيدتي. كفى. إلى هنا كفى" وتترك البيت، فتعمد سيدة البيت إلى الاتصال بالشرطة واتهام الخادمة بسرقة حليها وحصالات الأولاد وتقول على الهاتف للضابط مضيفة "لا.. ليس لها أحد هنا.". (ص138).

المأساة ليست خاتمة هاتين القصتين وحسب، بل هي خاتمة سبع قصص من ثمان. أهو الواقع المّر كما يرى المؤلف، أم هي طبيعة الكاتب الانعزالية؟ يقول في خاتمة الرسالة التي تروي قصة "البهلوان": "وهل لازلت تلومني على عزلتي وزهدي في الناس بعد ما رأيت موقفهم من بطلهم المحبوب؟." (ص117).

قصتا "خلاّد المواسرجي" و"هناك طريقة أخرى" متجاورتان، وهما تعطيان صورتين متناقضتين متكاملتين عن عمل الرجال. فبطل القصة الأولى خلاّد المواسرجي عامل متبطّل على الرغم من صحته الجيدة وحرفته المرغوبة، يتأخر في الدوام على عمله، لا يصل إلا بعد الساعة العاشرة صباحا، ويتغيّب كثيراً، لا يتقن عمله، يهمل الأدوات أو يتلفها وفوق ذلك يكذب: "يا كذوب.. ألم تحدثني منذ شهر أن والدتك ماتت منذ عشر سنوات.. حتى في هذه تكذب.. يالك من كذاب.. استح.."، وبطل القصة الثانية عامل مهاجر من الأرض المحتلة قد باع كل ما يملكه وتملكه زوجته كي يدفع رسوم السفر والانتقال إلى بلد مجاور، طمعاً بالعمل وسدّ الرمق، والسعي على العيال الذين ينتظرونه هناك: "وهم هناك ينتظرون بعد شهر واحد ما يعوضهم عن هذه الخسارة وهذا الحرمان!!

يستقبله أبناء الوطن فرحين به أولاً أو بأخبار الأهل، ثم منقسمين حول مستقبله وحضوره، ينام معهم في غرفة عفواً في زنزانة: "نتقاسم السكن هنا.. كل خمسة في غرفة ولن يضيق بك المكان.. هذه الحجرة تسع ستة إن شاء الله.. والطعام مشترك.. وجبة واحدة فقط.. ويحسب الحساب... وتدفع ما عليك.." "آخر من سكن الغرفة هنا.. القادم الجديد.. مكانه بجوار الباب.. هذا ترتيبه.. حيث لا مكان غيره.. ولكن أحد زملائه آثره بمكانه.. لأنه مازال ضيفاً.. فنام إلى الداخل.. حيث صدر الحجرة.. مكان مؤقّت.. ليلة واحدة.. والذوق واللياقة تقتضيان أن يرجع له مكانه من الغد.."في الحقيقة لم يضق به مكانه بين سكان غرفته وحسب بل ضاق القطر الذي هاجر إليه أيضاً به وبزملائه، فلاحقتهم الشرطة، وكدستهم في الشاحنات ثم أنذرتهم بالرحيل خلال أربع وعشرين ساعة: "الليلة لا يوجد طعام يجمعهم.. الهمّ وحده كان يجمعهم.. ناموا.. بل ناموا بلا طعام.. الصباح قاموا.. ولكنه لم يقم.. أيقظوه.. لم يقم.. حركوه.. لم يقم.. مات.. دفنوه.. وعادوا إلى أرض الوطن." (ص73).

مأساة الخادمتين قد تعكس صراعاً بين الريف والمدينة، ومأساة المواسرجي الذي خسر ثقة أرباب العمل، والعامل المهاجر، تعكس صراعاً على العمالة بين قطرين شقيقين متجاورين فما حقيقة الصراع؟

قصة "البهلوان البطل" تتعمق في تحليل جوهر الصراع حين تعكس اختلاف الناس على تقويم (البهلوان)، فحين هوى من علوّ شاهق: "السلك الفولاذي مشدود بقوة بين عمارتين متقابلتين، يفصل بينهما شارع فرعي عرضه عشرون متراً. كان السلك يرتفع عن سطح الأرض حوالي أربعة وعشرين متراً.« فمات، انقسم الناس حول تقويم عمله، فالمعجبون به يعتبرونه بطلاً "خسارة.. خسارة.. لابد من عمل تمثال له.. هذا شهيد.. نعم بطل شهيد.."

وآخرون يرونه "منتحرا" "أي شهادة هذه؟.. على العكس.. هل تعلم أن هذا يعتبر منتحرا."

ويدلل هذا الفريق من الناس على صحة تحليلهم بالاستشهاد بكلام أحد العلماء ابن تيمية. وهذا رأي المؤلف-: "ابن تيمية سئل عن الحاوي أو الشيخ الذي يدّعي الكرامات، فيحاول مسك الثعبان بيده، بدلا من قتله، فلدغه فمات.. فقال: هذا كالمنتحر.. ولا يصلي عليه الصالحون." وتكتمل المأساة حين يطلب الشاب القائل بحكم الانتحار من زميله المعجب بالبهلوان: "اذهبْ يا رجل.. ضع عليه صحيفتك" فيجيبه الآخر: "اسكت.. لم أقرأها بعد..". (ص117).

فالظلم أو التظالم أو الصراع ليس بين المدينة والريف أو بين القطر والقطر وحسب، بل بين البشر، حتى بلغ مبلغ تزييف الحقائق والقيم، فما فائدة البراعة والبهلوانية: "أعمال ماهرة.. نعم.. أعمال خارقة.. نعم، لكنها لا تنفع أحداً.. هل رأيت أمة تبني حضارتها على البهلوانات وأعمال السرك وغيرها من التفاهات..؟". (ص115).

قصة "ماسح الأحذية" تضع يدها على الجوهر: "تصور.. حتى الناس تغيروا. أنت زمان كنت ترى أحداً يلبس ملابس مرقعة إلا الفقير؟ هذه الأيام الملابس المرقعة أصبحت "موضة" أي والله موضة.. الرقعة منه وفيه، ومن مصنعه وعهد الله.. ألوان.. صدقني يا محفوظ أفندي.. الناس حدث لها شيء..". "اعمل معروف يا سعيد.. اسكت.. لا تتكلم في السياسة.. الجدران لها آذان.. دعنا في حالنا.. أنت كيف شغلك؟!" (ص84).

كيف يتسنى لماسح الأحذية أن يدرك أبعاد التبدل الاجتماعي، وتغير الأزياء والعادات والأذواق، وانعكاس ذلك على تنظيم المجتمع والشوارع؟ إن المؤلف لم يحمل ماسح الأحذية فوق ما يحتمل من التفكير والسلوك، لكن تجربة الرجل مع الأحذية المتبدلة من جلد أصلي إلى بلاستيك (تايواني)، وقلة الزبائن من الرجال والنساء بعد استغنائهم عن حرفته، فضلاً عن الباشوات والبكوات الذين كانوا في صف الجبهة الوطنية ضد الاستعمار، وكانت الحرية السياسية بين المواطنين في الأقل مادة مشاعة، تتيح حتى لماسح الأحذية أن يسمع الخطب والمناقشات والهتافات، وأن يرقى وعيه نسبياً عن الزمن الحالي الذي تغير كل شيء فيه: "هل هناك أحد كان يصدق أن المرأة ستلبس ملابس زوجها، وتخرج بها إلى الشارع؟ أعوذ بالله من غضب ا لله." (ص85).

هذا مجمل رؤية الكاتب لمشكلة العمل الاجتماعية وما يتعلق بها من قيم وأفكار، فإذا أضفنا إليها مشكلة الجنس (الرجل والمرأة) كما في قصة "الصمت الأخطر"، والدعوة إلى التراحم أو التعاون الاجتماعي كما في قصة "المتفضل"، نكون ألممنا بتصور المؤلف للمشكل الاجتماعي وحلوله القائمة على الحرية المتلاحمة مع العدل- والنظافة- بمعناها الواسع- والتراحم بين أبناء البشر، فضلاً عن الأرحام والجيران وأبناء القطر الواحد أو الوطن، وبوسعك القول: إنه تصور مستمد من الإسلام، وإن لم يصرح المؤلف بلفظ الإسلام. بعد أن يستشهد الكاتب بفتوى الإمام ابن تيمية في تمييز العمل النافع من العمل الضار، وتسمية الحاوي أو الشيخ الذي يحاول مسك الحية بيده.. فتقتله.. بالمنتحر.. يضرب الكاتب مثلاً لا يقل إقناعا من الأول: "دخل رجل حاذق على أحد الخلفاء، فرمى إبرة فانغرزت في الجدار، ثم رمى الثانية فدخلت في ثقب الأولى، والثالثة في ثقب الثانية.. وهكذا أتمّ المئة، كل واحدة في ثقب التي قبلها.. أعجب به الخليفة، فأمر له بمئة دينار جائزة له على مهارته، وأمر بجلده مئة جلدة، لأنه أضاع عمره ووقته في إتقان أمر لا ينفع الناس." (ص116).

في الصفحات الأخيرة من المجموعة القصصية كشف المؤلف رؤياه الفنية لكتابة القصة القصيرة، وهي رؤيا محسوبة على التيار الواقعي، لدرجة يظن معها أنه من أنصار الكتابة التسجيلية، وليس الأمر كذلك، فقد اعترف- على الرغم من رفضه اختلاق الحكايات- اعترف بالتلفيق بين شخصيتين أو حكايتين وما سوى ذلك: "وأعيد صياغتها بشيء من الفنية القصصية، ولو استدعى الأمر مزجها بشيء من الخيال الذي يخدم الفكرة." (ص153).

هذا المنهج حمل صاحبه على التعامل الصارم مع الأصول والقواعد التي ألزم نفسه بها شأن بعض كتّاب الواقعية الاشتراكية، لكن حسّه الفني أسعفه في أكثر الأحوال، كما سوف نرى.

سرد قصصه غلب عليه استخدام ضمير الغائب، وقلما أفسح مجالاً يذكر للنجوى أو لتيار الوعي. لاحت له فرصة غنية في قصة "مشاعر الطفلة" حين تحدثت لأمها في أحلام اليقظة: "قالت لأمها في خيالها: أموت يا أمي في اليوم سبعين مرة.." هذا كل ما جرى بين الطفلة الخادمة وأمها في أحلام اليقظة. كان بوسع المؤلف أن يجعل هذه الأحلام وحدها قصة متكاملة أو سلسلة مشاهد غنية فنية مؤثرة. لكنه المنهج الشكلاني!

هناك قصتان تأخذان شكل الترجمة الذاتية "الصمت الأخطر" و"المتفضل"، في الأولى كان المؤلف طرفاً ثالثاً، وقد نجح أيما نجاح في تصوير شهوانية "البطلة" التي لم تبلغ العشرين عاماً في حركاتها وسكناتها وجسمها الذي يتضح شهوة، أو الفائر الذي يأبى الاستقرار. سواء استخدامه التكرار:

"تلعق شفتيها في شهوة، عيناها تلمع في نشوة" كررت ست مرات في الوصف الدقيق: "وضع ركبته على ظهر كرسيها. غاصت ركبته في ظهر الكرسي.. وصلت إلى ظهرها ضغطة.. تبسّمت في خبث. "أو تشخيص الجمادات: "تودع المجلة نائمة بجوار فخذها الأيسر. النافذة أيضاً تطل على فخذها الأيسر.."أو التقابل المقصود" المجلة تدخل خلسة بجوار فخذه الأيسر، هو أيضاً بجوار النافذة اليسرى.. حركته حركة لص متمرس."أو الإيحاء الفني بمستوى جهل لص الأعراض: "هو لا يحمل قلماً!!" (ص33).

في القصة الثانية "المتفضل" يخالف المؤلف عادته فيأتينا بخاتمة سارة خلافا للمآسي الثماني، ولم تأت الخاتمة السارة إلا بعد مخاض من الانقباض من أول القصة حتى سطورها الأخيرة. حاول الترويح عن نفسه بالتجوال في شوارع دمشق صباح يوم صائف، فازداد ضيقة من اكتظاظ الناس والسيارات، واتخاذ بعض الناس التسوّل حرفة لهم مثل شاب في الثلاثين وبائع اليانصيب الذي يخدع الناس بكسب الملايين، وحقائب الركاب المرصوصة في ساحة المرجة، والباعة المتجولين الصائمين في سوق الحميدية، وبائع النايات و"زمن الترويض تتقزم همم الرجال فيه حتى تتقاصر على دمعة قلقلة... يا هند... يا رخصة الأطراف!!.. كلنا في الهمّ شرق." حتى يتاح له أن يستضيف على كأس عصير مثلج رجلاً عجوزاً في السبعين أحصى (فرنكاته) فوجدها لا تكفي ثمنا لكأس العصير يطفئ عطشه، ويشعر الكاتب "أن الحياة ليست هذه الشرائح المزيفة من المناظر التي تسجلها العين في شوارع مدننا، ليست في هذه الوجوه الملونة بالأحمر والأخضر والوردي.. هناك شرائح الفقر الكريم.. الفقر الأبي.. الفقر المستتر بالعفاف.. أنا أملك أن أشرب مئات.. هو لا يملك ما يكفي ثمناً لكوب واحد يطفئ عطشه. "عدت أدراجي من الطريق نفسه.. أحسست بشوق جديد لغرفتي.. ورغبة ضاغطة للأكل.. ولهفة جامحة لمعانقة الحياة.." (ص102).

لعل مما أنعش المؤلف وقارئ هذه القصة بقصة مضيئة في جولة الكاتب حين مرَّ بالمباني التي تعبق برائحة التاريخ: "اقتربت من المكتبة الظاهرية، فقد أصبحت على فم الشارع المؤدي إليها.. قرب نهاية الشارع الذي يخترق السوق.. أنا على قيد خطوات من المسجد الأموي.. كلما مررت بهذا المكان تذكرت قافلة النور.. العزّ بن عبد السلام.. النووي.. ابن تيمية.. ابن القيم.. ابن كثير..يا لله!! أنا أسير على نفس التراب الذي ساروا عليه.. مرُّوا من هذا المكان.. صلّوا في هذا المسجد.. بصمات أقدامهم.. رائحة ذكائهم.. عبير مواقفهم.. يا ترى.. مغول ابن تيمية كمغولنا؟ سلاطين العز كسلاطيننا؟!.. الطاغوت واحد.. آه يا زمن العقم!! لم تعد الأرض تنبت جيلاً. تنهيدة اجتازت مهجتي. جذبتني إلى القاع المر، الرؤيا تضعف، وصور الأشياء أمامي تتلاشى، ضباب يغطي على عيني، رفعت نظارتي، ومسحت عيني بطرف كوفيتي، أحسست أن جفنيَّ اكتحلا باللون الأحمر.. مسحت أنفي.. وغطيت عيني بالنظارة مرة أخرى.. وازددت حسرة.." (ص96).

هذه النجوى أو تيار الوعي مما يقدر عليه الكاتب لكنه به ضنين. ومع ذلك نجده يتردد صداه في قصة "ماسح الأحذية" بشكل راق: "وفوق هذا وذاك تعود إلى زوجتك وأطفالك مساءً منتفخاً كالديك، معك الحلوى والخبز واللحم.. وفوق ذلك تجلس وسطهم تمارس عليهم سلطان الزعيم.. نعم.. ألست زعيم الأسرة؟.. يسألونك عن كل ما شاهدت في يومك.. وأنت تتفاصح عليهم، وتحدثهم في السياسة والحركة الوطنية ومقاومة الاستعمار، وكل الأخبار التي تلتقطها أذناك من الباشوات والبكوات والأفندية أثناء انهماكك في مسح أحذيتهم.. أطفالك رؤوسهم تطاول السحاب فخراً بأبيهم العظيم الغني.. وإلا من أين لهم الخبز واللحم والحلوى؟ ويتيهون إعجاباً بأبيهم السياسي العظيم الذي يجالس الباشوات، ويفهم في كل شيء.." (ص82).

في الحقيقة إن قصة "ماسح الأحذية" متألقة فنياً في هذه المجموعة، ففضلا عن تصويرها المعركة الحضارية ووفرة النجوى أو تيار الوعي فيها نجد عدداً وافراً من مقومات الجودة التي تحكم بناء القصة من جهة، وتعمق صورة بطلها الرئيس، لا سيما أسلوب التكرار الذي برع فيه المؤلف وتجده متميزاً في معظم القصص حتى يتخذ مظهر اللازمة في قصص: "الصمت الأخطر" و"خلاّد المواسرجي" و"ماسح الأحذية": "اسمه عند صبيان الشارع والحارة (عمي لمّعْ) حتى نساء الحارة يعرفونه بـ (عمِّي لمّع). خذ الحذاء لـ (عمي لمع). هات الحذاء من عند (عمي لمع).

عارف الدكان الذي يجلس أمامه (عمي لمع). الشارع الذي على يمين (عمي لمّع). بائع العرق سوس الذي أمام (عمي لمّع). طاقيته كطاقية (عمي لمع). سعلته سعلة (عمي لمع). شكله شكل (عمي لمع). أصبح (عمي لمع) علماً على كل شيء، ولكل شيء..- ورنيش.. لمّع.. طق..طق."

"كان يمط كلمة (ورنيش طويلاً، ويلقي كلمة (لمع) سريعة، كأنها جملة موسيقية، أصبحت معروفة عنه."حتى المؤلف يجاري الناس في تسميته: "لم يعره الرجل التفاتاً، تابع سيره، بصق (عمي لمع). لعن السجائر ومن علمه التدخين.." (ص79).

للمؤلف وجهة نظر في استخدام اللغة الدارجة في القصة، وهو محق في كثير مما يذهب إليه، سواء في تبسيط الأسلوب التعبيري، أم في دقة بعض الألفاظ والتراكيب في التعبير عن المراد أكثر من غيرها، أو أن معظم هذه الألفاظ والتراكيب أصلها فصيح. لكن الأمر ليس على إطلاقه، والحجم الذي طبقه المؤلف في أقاصيصه يكفي.. مما وفق فيه المؤلف أيضاً في هذا الباب استخدامه ألفاظ الشرائح الاجتماعية التي يتناولها ومصطلحاتها مثل لفظ "اللمبة": "رمز يستخدمه العمال يكنّون به عن السيجارة" "ألم أقل لك يا زفت: حافظ على المواد" و"حلاوة الروح" "في بحر أسبوع"

يضاف إلى ذلك براعة المؤلف في رسم شخصياته على الرغم من قصر القصص، ففي قصة "خلاد المواسرجي" تمايز ودقة في تصوير الملامح الجسدية والنفسية لشخصياته، فخلاّد كما ذكرنا أخلاقه الفاسدة يستكمل صورته الجسدية: "خلع قميصه، جسمه المترهل، كثير الدهن، بقع بيضاء تغطي ظهره، لبس قميصاً آخر بلا كمين، قصهما بمنشار الحديد الأسبوع الماضي.. القميص لم يبق منه إلا زرّين، كرشه يشق له طريقاً في أسفل القميص ليخرج، يعيد اللحم المترهل تحت القميص، يأبى اللحم المترهل الانصياع لحركة يده، يعاود الخروج.. يعالجه مرة أخرى.. يخرج محتجاً.. يتركه يأساً.. سرّته من خلال اللحم المترهل تبدو كعين خبيثة.. عوراء تطل.. تراقب المكان.."

على أن ما هو أروع في وصف (خلاد) تصوير بصاقه خمس مرات: "بصق في يده بصقته المعروفة، فرك اليدين ببعضهما، دلك البصاق اللزج بينهما، تسمع للبصاق استغاثة وهو يُسحق بين يديه الخشنتين.." (ص155).

قلنا: إنّ المؤلف التزم القواعد الصارمة التي وضعها لنفسه ولفن القصة القصيرة، لكنّ حسه الفني أنقذه منها أكثر من مرة، وقد صرح بأنه استخدم الرمز في هذه المجموعة في قصة واحدة فقط "استخدمه لا لسبب سياسي أو اجتماعي، ولكن لجانب جمالي." وقدّر أنه "لا يدركه إلا نفر قليل من المثقفين"(ص155).

نحن نزعم أن الرمز المشار إليه هو في قصة "البهلوان البطل"، وهو رمز متداول لدى الكثيرين- لاسيما النخبة- حول المشتغلين بالسياسة لاسيما الزعماء السياسيين الذين يلعبون بعواطف الجمهور، ويخدعونه عن حقيقة مواقفهم ونواياهم حتى يسقطوا يوماً ما بجرائر أعمالهم، كما سقط البهلوان بطل القصة المذكورة، فيختلف الناس حول هذا السقوط. أنصار البهلوان أو السياسي يتعصبون له، وخصومه أو الآخرون يتعصبون ضده، ويقترح المؤلف معياراً للحكم على الرجل أو الزعيم السياسي، ألا وهو مقدار نفعه أو ضرره للناس أو المجتمع أو الأمة وهكذا.. وقد نجحت القصة في أداء هذا الغرض، وهناك أدوات فنية لعبت أدواراً إضافية في نجاحها غير الرمز، مثل السخرية، وتصوير دقائق الحركات الجسدية والنفسية للحشد ولنماذج مختارة من الحشد: "طفل صغير يبكي، يريد أن يرى البهلوان، أمه تصبّره لكنه لا يصبر، أبوه يحمله فوق عنقه، فيجلس الطفل مستقراً على رقبة أبيه، محتضناً رأسه، مدلياً رجليه على صدره، جلسته هذه تعلو رؤوس الناس، وتمكّنه من الرؤية بوضوح. عجوز حوصرت مثلي، تلعن حظها النكد، وتصب مرارة غيظها على هذه الجموع المغفلة التي يسعدها الخوف:- كيف يسعد الناس من الرعب.. لا أدري.. لا أدري؟ "هل سمعت شيئاً من السخرية والرمز الجزئي، فلنتابع: "..لم أعد أسمع الهتاف من حولي.. كل حواسي مركزة في ذراعيه وقدميه.." "نسيت عملي.. نسيت موعدي.. نسيت الزحام.. نسيت نفسي تماماً، كأن الدنيا واهتماماتها تجمّعت عندي لتقف عند قدم هذا البهلوان الذي تتحسس طرف السلك لتتأكد من صلابته وقوة الشدة فيه.." "لم أعد أعرف موقفي، هل أنا معجب به أم مبغض لعمله؟ أن تقف بين حشد كهذا يفقدك توازنك وموقفك! هل جربت أن تحضر مباراة في كرة القدم؟"

ما العمل هذا هو واقعنا هل "هناك طريقة أخرى"؟!

 

*(هناك طريقة أخرى)- حيدر قفة- ط أ- 1988مم- طبع بإشراف المكتب الإسلامي- بيروت.