ثنائية الإيمان والقهر

ثنائية الإيمان والقهر

في ديوان "القادمون الخضر"

للشاعر: سليم عبد القادر

بقلم الدكتور: محمد وليد

لو سألت شاعراً أن يصف لك بركاناً يثور، لأعطاك لوحة فيها اصفرار اللهب، واسوداد الدخان، ولكن لو سألت شاعراً خرج لتوّه من البركان لأحسست في وصفه بحرارة اللهب وألم المعاناة.

إن "القادمون الخضر" ديوان خرج لتوّه من البركان.. وهو شهادة حية على إنسان العصر.. ووثيقة دامغة ترسم المعاناة البشرية بلمسات فنية حانية، وتمس قلب الكارثة التي يعيشها المسلم في ظل الأنظمة القمعية، وحكومات الحزب الواحد التي تظن أنها تمتلك الحقيقة كلها، دون أن تعي أنها لا تملك حتى شرعية وجودها.

إنه ديوان يحكي قصة إسلام يطارد.. ومسلم طريد يبحث عن حقه في الإحساس بالكرامة، في بلد تصادر فيه الأحاسيس لصالح الديكتاتور.. ويصادر الحب، ويصادر الإعجاب، ويصادر التصفيق، وتصادر الحياة نفسها لصالح الديكتاتور، ويعبر شاعرنا عن هذه المطاردة في قصيدة: "شريد":

منذ أعـوام وحتى هـذه اللحظة     تمضي كل ساعاتي  اغـترابا

منـذ ودعـتُ بلادي هـاربـاً      أنشـد بالهـجرة أمـناً وثوابا

مـنذ أعوام وساقاي مـع الريح      وروحـي تمتطي خيلاً سحابا

هارب أحمل نور الله في روحي      إبـاءً .. وبعينيَّ.. عـتابـا

هاربٌ يرهبني الـناس  ودربي      مثل قلبي صار مفروشاً حِرابا

وتبدأ بالمطاردة ثنائية الإيمان والقهر التي وسمت هذا العصر الذي نعيش فيه، أنت مؤمن إذن أنت مطارد!!.. ويعرف شاعرنا لماذا يطاردُ الأعداءُ الإسلام.. إنهم يخافون الحق الكامنَ فيه.. فباطلهم مهما انتفش ضعيف بذاته كما أن الحق قويّ بذاته..

ويجلي الشاعر هذا المفهوم في قصيدة "الشوكة":

لماذا تخافونني لسـت أدري     فـليس لـديّ قصورٌ  وجُندُ

تركتُ لكم  مغريات الحـياة     جميعاً فـمـاذا تريدونَ بعـدُ

أمـا زلتُ في حلقكم  شوكةً     على رغم أنفي.. ومالي قصدُ

أما زال حبي لربي  وطهري    على بعضكم خطراً .. لا يرد

فتجـتمعون حـشوداً علـيَّ     يـؤلفهـن ضـلالٌ  وحقـدُ

لقد بلغ الاختراق في جسم الأمة الإسلامية حداً مأساوياً، فأصبح القمع وطنياً بعد أن كان أجنبياً، وصارت الحراب التي تغمد في قلب المسلم صناعةً محلية بمواصفات دولية، ينظر الشاعر حوله فيرى أن الذين يُشرعون الحراب في وجهه ليسوا جورج وبطرس وكوهين.. ولكنهم أحمد ومحمد وكريم.. فيقول في قصيدة:

القلب يألم ثمن يحزنُ إنه قلـبٌ رحيـمُ

يأسى لما نلقى وما نلقاه من ظُلم عظيـم

نلقاه ممّن؟؟ ها هنا لتكادُ تنتحرُ الحلـوم

نلقاه من أبناء جلدتنا.. بجلدتنـا يحـوم

في كل صِقعٍ للهداة يقام قبرٌ أو جحـيمُ

ويحاربُ الإسلامَ أحمدُ أو محمّدُ أو كريم

يختال باسم مسلم والقلبُ كفّار غـشوم

لقد كتبت على الشاعر وإخوانه المواجهة مع الحكومة العلمانية التي حسمت خيارها الحضاري لغير الإسلام، فانفصلت بذلك شعورياً عن نبض شعبها، وعندما سقطت في معركة الفكر، لم تر غير سلاح القهر والقمع.. ويصف الشاعر شراسة المواجهة في قصيدة "إرهاق":

فإذا البر جحيمٌ  لاهبٌ     وإذا الآفاق سـكرى بالدخان

والقوانينُ مدى  حاقدةٌ      بيدِ الطاغين في كلِّ  مكـان

إنني ربكم الأعلى فمن     يستطيع الكفر بالربِّ الجبان

ويشعر بالتعب والإرهاق:

مُرهق أبحث عن بعض الأمانِ     في رحابِ الله مجروح الأماني

كل قهر سمع النـاس بـه..       لم يَرَوهُ.. هو يسري في كياني

عاد ليل البغي مـسعور اللظى     يـتحدى الله بالحربِ العـوانِ

ولكنه وهو في غمرة إرهاقه وإذعان القطيع من حوله.. برجع إلى صلته الدائمة بالله تعالى فتعطيه الراحة والطمأنينة والثبات:

مرهق والأفق يبدو ضيقاً       إنما الضيق من الهـم أتـاني

أذعنَ الكلُّ ولـولا الله لم       أبقَ وحدي ثابتاً في المعمعانِ

صعبة هي الحياة التي يكون فيها الاختيار بين الذُلّ أو السجن..

ويحتل السجن عند شاعرنا مقاماً خاصاً.. فالذي يأخذ على عاتقه تحدي "عَقْدَ الإذعان" الذي صاغته السلطة وأملَت فيه شروطها على الناس فاستقبلوه صاغرين، لابد أن يدفع الثمن في زنزانته وحيداً.. ويخبرنا الشاعر عن فظاعة السجن في قصيدته "الموءود":

تمرُ الليالي ببـطء علـيه..        وما زال في قبره ثاويا..

يُقلب في  صمتها الذكريات       حـزيناً وآونـةً باكـيا

تواطأ أهل الزمـان علـيه       وألقوه في سجنـه نائيا

يظل يفكر حتى  الصـباح        ليرجع  من فكره خاويا

هنالك  لم يلـق إلا الإلـه        يكون له المؤنسَ الآسيا

ليست السجون التي عانى من ويلاتها شاعرنا سجوناً بالمعنى المتعارف عليه.. ولكنها مقابر الأحياء، يوءد نزلاؤها في سراديبها المظلمة، حيث يساق الشاعر إلى الاعتراف تحت التعذيب، ولا ينجيه الاعتراف مما يلاقيه:

قالوا اعترفْ .. قلت اعترفتُ بما علمتُ فكبّلوني

وضعوا على وجهي القناعَ ومن ثيابي جـرّدوني

ورُميتُ فوق الأرضِ والقدمانِ في حـبلٍ متـينٍ

تهـوي العصا كالنار فوقهما ..  فأبـدأ بالأنـينِ

الله يـا الله –  أنت الحـق - مهما – عذَّبـوني

ولكن شاعرنا يسمو فوق مشاعر الألم.. وتعرج نفسه الأبية في معارج العُلى ويشعر وهو تحت سياطهم أنه هو الأعلى وهم الأدنون:

بـالله أعلـو فوقهـم..     ونِعالهم تـعلو  جبـيني

يا سادتي  إني  لأعـلمُ     أنَّ ذنـبي  حُـبُّ  ديني

والله حِزبي والرّسـولُ      فعذبوني  واضـربوني

وجميـع منشـوراتـنا      سور  من الذكر المبين

ولأصدقائي  بهجة الدنيا     وعطـرُ .. الياسمـين

ولكن المحنة تشتد وتشتد.. وتتجاوز حدود التحمل البشري.. فيشتاق السجين إلى الانتحار فراراً من الموت البطيء.. ولا ترده إلى جادة الصواب إلا بقية إيمان تشد أزره في أحلك الساعات:

يا سادتي والجَلْدُ يـتلو الجلدَ في حـقد لعـينِ

مـوتٌ وبعد الموت موتٌ  ألف موتٍ كل حينِ

يا سادتي ما عاد في طوقي اصطبار فارحموني

إنـي لأحـلم أن أمـوتَ أريدكم  أن تعدموني

وهكذا يُختصر الطموحُ الإنساني داخل القضبان إلى أمنية بالإعدام، ويخافُ الشاعر أن تغلبه نفسه الأمّارة فيتضرع إلى ربه قائلاً:

يا ربُّ فاسترني بعتقي أو بموتي أو جنـوني

لولا البقيّةُ من تُقاي لطاب عندي الانتحارُ

ثم تمتزج ثنائية الإيمان والقهر في السجن مع المناجاة الإلهية الرقيقة في انسجام قدري عميق:

إلهي.. إذا كنتَ ترضى بأسري     وما يعتـريني فـلا فُـكّ  أسـري

فكم محنةٍ  ذقتـها  في هـواكَ     وما ضاق صدري  ولا عيل صبري

ويتطلع الشاعر إلى الناس الذين يُعاني من أجلهم.. فيرى أن الاستبدادَ قد أفسدهم.. وليس ذلك اكتشافاً فقد قالها شيخنا الكواكبي في طبائع الاستبداد منذ تسعين عاماً عندما ذكر أن دوام الاستبداد يورث في الناس النوازع المريضة والرغبة في التسفل، فيقول في قصيدة "لا":

في كل ركن من الدنيا أرى صوراً      لي مرعباتٍ تخيف الطفل والرجلا

فـذا يـنافق للطاغـوت مبتهجـاً      وذاك يحترفُ الإرهابَ والخطـلا

وذاك يـشهر مسـعوراً  أظافـره      ويمضغ الدم  والأمصال والمقـلا

وذا يـصوم وفي جنبيه لفح  هوىً      وذا يصلي لكي  يصطادَ أو يصلا

يحاولون احـتوائي عنوة ورضـى     وإنّ خيراً  لهم أن يَنطحوا الجبلا

وبعدما تخضع النفس البشرية لظالمها تبرز فيها نوازع التسفل، فتقوم باحتقار نفسها، ثم تسقط هذا الاحتقار تجبراً على الضعفاء والمظلومين:

أيرضى أبونا البرُّ آدم أن يُرَى     له ولدٌ.. من مسّه يأنفُ القردُ؟

يرى الناسَ أرباباً له أو عبيـدْ     فمنْ فوقهُ ربّ ومَنْ دونَه عبدُ

وحين نتساءل عن سر صلابة المسلم في وجه القهر، لا نرى إلا الخيط الذي انتظم مشكاة الدعاة على مر التاريخ، وهو العلاقة المتميزة بالله سبحانه وتعالى.. ولشاعرنا في هذا المجال إشراقات رقيقة، تصطدم فيها عظمة الحب.. بعظمة التحدي في قصة مأساوية تصبح معها خطرة على الإيمان بالله.. تحدياً للحالة السائدة. فيقول الشاعر في قصيدة "وجهاً لوجه":

إن كان لا بـد  من التحـدي      فالله فوق  كل شيء  عندي

الله  أغلى من نسيمات الهوى       ليلى وسلمى  ومنى وهنـدِ

والله أسنى من فيوضات المنى      والله  أبهى من حقولِ الوردِ

والله أغلى من بلادي وهي في      قلبيَ بحـرٌ هائج بالوجـدِ

هاجرتُ منها طائعـاً لأجـله       ومدركاً من  قبل هولَ البُعدِ

خُيـّرت ما  بيني أنا وبيـنه       فاخترته والموتُ بادي الحقدِ

فشق من غمرة ضيقي مخرجاً      لي كالضحى بعد دُجى مُرَبّد

وما ذلك التحدي إلا الانعكاس الخارجي لنفس ملأها حب الله سبحانه وتعالى فانساب على لسان الشاعر.. مشاعرَ رضية تسلم النفس فيها قيادها لخالقها في اطمئنان يسمو بها عن القلق الذي يسم إنسان العصر:

وهبتكَ أحبابي وأهـلي ورغـبتي ..       وبعتكَ أنفاسي ونفسي وماليا

وأرضى بما تقضي ولو كان مصرعي      ولستُ بمنّان ولست مُغالـيا

ويسترسل بين خوف المذنب.. ورجاء المؤمن في شاعرية شفافة:

أخافك حتى لا أرى  فيك مطمعاً       ولو كنتُ من كل المثالب خاليـا

وأرجوكَ  حتى لا أراكَ مُعـذِّبي       ولو كنتُ مختالاً  وفظاً وعاصيا

وأهواكَ حتى ما أبـالي بعالمـي       وإن يكُ جسمي رائحاً فيه غاديا

وتذكرنا هذه الإشراقات بأخوات لهن حسان في ديوان مع الله للشاعر عمر بهاء الأميري الذي ينزل من نفس شاعرنا منزلة خاصة.. وهي إشراقات أصبحت غريبة في هذا العالم.

إن شاعرنا غريب، وليست غربته غربة انسحاق، وإنما غربة تميز.. غربة يستعد فيها القادمون الخضر للقيام بمشروع المستقبل الإسلامي.. فبعد انهيار الشيوعية يبدو الواقع الإسلامي وكأنه الوحيد الذي ما زال مستعصياً على الاختراق والاكتساح الغربي.. نعم هناك شرائح غيرت جلودها ولكن المستعصي هو عمق المجتمع الإسلامي ووعيه.. لذلك كان مجيء القادمين الخضر من عمق هذا المجتمع ومن ضميره، ويصفهم الشاعر فيقول:

إنهم يطلعون من كـل أفـق      كل وجه منهم كوجه الشهابِ

بجسوم فوق الهضاب صلابٍ      وقلوبٍ تحوم فوق السـحابِ

يملؤون الوجود حـباً وحرباً       ويجوبـونه بخضر الثـيابِ

لا يخاف القادمون الخضر الظلم.. ولا يخافون الموت، وهم بقية إرث النبوة.. يتصدون للهوى الضارب في الأرض بهدي الكتاب المنير:

يتحدون الجَوْر بالسيف والمو      تَ بإقدامٍ والهوى بالكتابِ

يرفعون الإسلام نوراً ونـاراً      في الدُّنا بعد غربةٍ وغيابِ

إنهم مشاعل النور الذين تنتظرهم البشرية منذ زمان بعيد، فهي إن نثرتهم مشاعل في روابيها فازت وفاز العالم بنورهم، وإن شاءت أن تصدهم فلتأذن بالخراب لأنها خالفت فطرة الحق، فحق عليها الهلاك:

فاحضنيهم يا أرض إن شئت خيراً     وانثريهم مشاعلاً في الروابي

أو فصُدّي العُبابَ وهـو مُحـالٌ      أو فـميدي وأذِني بالخـرابِ

إن المتمعن في قصائد هذا الديوان يجد أنها تدخل القلب من غير استئذان، وتأسره بوهج الصدق والمعاناة، لقد اجتمعت فيها إلى رهافة الحس.. نصاعةُ الصورة وأناقة العبارة وضبط الشاعر إيقاعها على هوى عقيدته دون أن يخرج عن دائرة الفن.

يقول الناقد الإسلامي الدكتور عادل الهاشمي: إنه حتى يكون الشعر إسلامياً يجب أن يكون شعراً أولاً، وهي عبارة وإن وضعت بقالب بديهي إلا أنها تحمل مضموناً كبيراً مفاده أنه لا يشفع للشعر أن يكون ذا مضمون إسلامي حتى يكون راقياً.. فلابد من أن تتكامل للشاعر الأدوات الفنية مع الموهبة والإبداع، وإذا اتخذنا قول أستاذنا الهاشمي لنا ميزاناً لرأينا أن "القادمون الخضر" يحمل المضمون الإسلامي، والإبداع الشعري وينطوي على موهبة أصيلة.

لقد جاءت لغته الشعرية في مجملها على قدر الانفعال دون إهدار للثروة اللغوية، ولم يمنع ذلك وجود هناتٍ هنا وهناك لا تنقص من القيمة الإجمالية العامة، يقول شاعرنا مثلاً في "القادمون الخضر":

إنهم قادمون أحنى من الطير    وأضرى من الليوث الغضابِ

ومع موافقتنا على أن الليوثَ الغضاب تكون بالضرورة ضارية.. إلا أن الطير لم تشتهر بالحنو.. بل إنّ منها ما يكون أشدَّ ضراوة من الليوث الغضاب.

أما حياة الواقع المر الذي يدفع العباد إلى الأسى واليأس والتهريج فقد وصفها الشاعر بأنها حياة يأنف منها الجراد:

الواقع المرُّ يظل  يدفـع العـبـادْ !!

إلـى الأسى واليأس والتهريج والفساد

إلى حياة ربما يـأنف منها.. الجـراد

وإني لا أرى الصلة القوية بين الجراد وبين حياة الذل.. فالجراد يعيش في أسرابه ملء الأجواء.. ولا أحسب إلا أنها ضرورة القافية في مقطوعة قصيرة لا تبرر هذه الضرورة.

ويطالعك في معظم القصائد جرسٌ موسيقي بديع يحافظ على أصالة الشعر العربي الكلاسيكي ولو صادفتك بين الحين هنات عروضية مثل:

وادع الله هادئاً مطمئناً       في غمار الخطوبِ والنكبات

إذ إن التفعيلة الأولى في الشطر الأول ينقصها وتد، ولو قال: سبّح الله، لاستقام الوزن على البحر الخفيف.

وكذلك قوله في قصيدة شريد:

منذ ودعت بلادي هارباً      أنشدُ بالهجرة أمناً وثوابا

فالشطر الثاني مكسور ولو قال "أنشدُ الهجرة" لاستقام الوزن.

ولي ملاحظة أخيرة وهي أن شاعرنا التزم في كل قصائده بعمود الخليل، وإن نوّع الرويّ في بعضها، إنه لم يتطرق إلى شعر التفعيلة الذي لا أحضه عليه ولكنني أدعوه للمرور في حدائقه فلأزهاره ألوان أخرى تغني التجربة ولا تلغيها..

لقد انتظمت قصائد هذا الديوان باقة واحدة، فكل قصيدة زهرة فوّاحة يختلف شكلها ولونها، ولكنها تنتسب إلى عائلة أزهار حمراء نبتت على سفوح جبال القهر وفاحت بعطر الإيمان.. وحينما تقرأ الديوان تشعر أن ثنائية الإيمان والقهر ستنتهي ولا شك بثنائية الإيمان والنصر.. فالنصر في حس المؤمن حقيقة مستقبلية لا تقل عن حقيقة القهر الحالية..

أما فرسان هذه الحقيقة فهم "القادمون الخضر".