رواية: مملكة العنب رؤية تحليلية

رواية: مملكة العنب رؤية تحليلية

محمد حسن بريغش

تعدُّ تجربة الدكتور نجيب الكيلاني -رحمه الله- مع القصة تجربة ثرية، ومحاولاته في ترسيخ قواعد القصة الإسلامية محاولات مبكرة، ورغم العثرات التي اعترضته في الوصول إلى النموذج الواضح للقصة الإسلامية، فإنه استمر في العطاء حتى أصبح رائد القصة الإسلامية الحديثة، بكثرة عطائه، وتنوع إنتاجه، وتعدد موضوعاته، ووضوح أسلوبه، وصدق تجربته..

لقد كانت تقاليد القصة الحديثة –بمفهومها الغربي- تترك آثارها في بعض ما كتب، ولكنه مع ذلك، قدّم عدداً كبيراً من القصص، والروايات، والمجموعات القصصية المتميزة، فضلاً عن الدراسات الأدبية، والآراء النقدية في كثير من الموضوعات، والفنون المختلفة، وسيظل هذا الإنتاج موضع التقدير من قبل الدارسين والنقاد والمبدعين.

في رواية "ملكة العنب" -وهي من الروايات الأخيرة التي صدرت للدكتور الكيلاني(*)- خطا خطوة مهمة، في إعطاء نموذج واضح وناجح للقصة الإسلامية الحديثة بكل عناصرها الفنية والموضوعية.

وتدور هذه الرواية حول فتاة ريفية ذكية جميلة مات أبوها بعد أن نالت الشهادة الإعدادية، وترك لها قطعة من الأرض، فخرجت هذه الفتاة (براعم) إلى الحقل تزرع وتحصد، وتنفق على بيتها الذي يضمها مع أمها المريضة وأختيها الصغيرتين، وتفتق ذهنها الذكي عن فكرة تطوير الزراعة ليزداد دخلها، فبدأت تتحول من زراعة الحبوب والقطن إلى زراعة العنب.

نجحت في فكرتها، وربحت كثيراً من بيع ثمار العنب، فاستأجرت أرضاً أخرى من الفلاحين، وتوسعت في زراعتها، مما جعل الفلاحين يقلدونها ويزرعون العنب، ليزداد ربحهم ومحصولهم، وأصبحت بذلك زعيمة هذا المحصول، وزرّاعه من الفلاحين فكأنها أسست نقابة لزرّاع العنب.

كان لهذا التغيير أثره في القرية، فوقعت بعض الأحداث، مما جعل أحد الشبان يخطب في المسجد يوم الجمعة، ويطالب زرّاع العنب بإخراج الزكاة، وحدثت بلبلة بعد الخطبة، ثم تلا ذلك حدوث بعض السرقات لمحاصيل العنب من المجرمين الذين يتصيدون أوقات الفوضى للنهب والسلب.

قامت (براعم) تعلن التصدي للشاب الخطيب، لأنه –كما تظن- شجع اللصوص على السرقة بخطبته تلك، ومنعته من الخطبة في الجمعة التالية بما لها من نفوذ وذكاء.

وفي هذه الأثناء وقعت جريمة قتل، راح ضحيتها أحد اللصوص المنحرفين، حيث ألقيت جثته في أراضي براعم، فاستدعى ذلك بعض التحقيقات التي لم تصل إلى نتيجة.

ولكن أحد عملاء السلطة استغل هذه الحوادث، وبدأ يكتب التقارير التي يتهم فيها الشباب المتدينين في قرية (الربايعة) بإحداث البلبلة والإرهاب، مع التخطيط للعمل ضد الدولة.

ووسط هذه البلبلة التي أحاطت بالقرية، وصلت جثة أحد الشبان ممن كان يعمل في بلد عربي، مما أثار عواطف الناس، فتظاهر أهل القرية ضد حاكم هذا البلد الذي بدأ يرسل جثث أبنائهم.

ولكن السلطة الحاكمة نظرت إلى هذه المظاهرة على أنها نوع من البلبلة والتحدي للسلطة فاعتقلت عشرات الشباب، ووجهت إليهم تهمة تدبير المؤامرة ضد الدولة، وقدمتهم لمحكمة أمن الدولة، بعد أن عُذّبوا، وضُربوا وأُجبروا على تسجيل اعترافات كاذبة.

إزاء هذه الأحداث تحوّل اهتمام القرية من زراعة العنب، وما يدور حولها إلى الحديث عن القتيل الملقى في مزارع براعم، ثم جثة الشاب التي وصلت من الخارج، وبعدها طغى على القرية حديث الاعتقالات والتعذيب، ولا سيما بعد أن شملت كل شاب ملتح أو متدين، بل طالت أحد الشيوخ الزاهدين، الذي كان بعيداً من كل هذه الأحداث.

أثارت هذه الأحداث دوافع الفطرة النقية عند براعم، فقامت تدافع عن شباب القرية، وعن الشيخ الزاهد، فذهبت إلى المدينة ووكلت محامياً كبيراً للدفاع عنهم، وإثبات براءتهم، واتصلت –أيضاً- بنائب الدائرة الانتخابية وشرحت له الأمر، فحضر للقرية، وخطب في الناس، وشجب الظلم وسياسة القمع، ولكن العسكر حضروا فجأة وجرّوه وضربوه دون احترام لمكانته، أو اعتبار لحصانته النيابية.

انتقلت المشكلة إلى مجلس الشعب (النواب) ووزارة الداخلية، فأصدرت الوزارة بياناً تنفي واقعة الاعتداء على النائب، وتتهم الإرهابيين، أعداء الشعب بالتآمر وإحداث الفوضى.

وتُثار القضية في مجلس الشعب فيرد ممثلو الحكومة والحزب الحاكم ثم يصدر المجلس بياناً يؤكد فيه الحرية، والديمقراطية، ويعد ما قيل حول النائب نوعاً من الإشاعات والمكائد التي تثيرها أحزاب المعارضة، والمتطرفون والإرهابيون المتاجرون بالدين.

أما في السجن فيجري استجواب المعتقلين الذين لا يعرفون سبباً لاعتقالهم، ويخضعون للتعذيب والضغوط لكي يوقعوا على اعترافات لم يتفوّهوا بها. وأثناء التحقيق يقف الشيخ (أبو المجد شاهين) الرجل المؤمن الزاهد، متحدياً المحقق فلا يتكلم إلا بالآيات القرآنية، مما جعل الضابط يقف عاجزاً أمامه، ولا يستطيع إلا إخلاء سبيله.

بلغ الضجر مبلغه في القرية، وعجز المحامون الذين أوكلتهم براعم للدفاع عن المعتقلين عن إخراجهم من الاعتقال، فعمدت براعم إلى مقابلة المحافظ -حيث أصبحت مشهورة في المحافظة كلها- وتبرعت بمبلغ كبير لأحد المشاريع التي ستنفذها المحافظة، أملاً في أن يكون ذلك عوناً على انفراج الأزمة.

ولكن المحافظ عجز عن تنفيذ ما وعد به، فأرشدها أحدهم إلى نائبة في مجلس الشعب، ووصفوها بأنها (واصلة) إلى أبعد مدى، ولها علاقة وطيدة بالكبار، وأنها "امرأة ولا ألف رجل" وأنها "أعوص المشاكل تحلها بدقائق، وبالتلفون" لأن "أكبر رأس ينحني لها احتراماً" فتذهب براعم إلى مكتبها الذي يغص بالمراجعين، وتعرض عليها الأمر فتطلب النائبة خمسة عشر ألف جنيه على هذه القضية، لقاء الإفراج عن المعتقلين، وبذلك استطاعت النائبة تدبير أمر الإفراج عنهم بطريقة مسرحية أشبه بالمهزلة.

يعود المعتقلون إلى بيوتهم بعدما ذاقوا من العذاب ألواناً، فتعود للقرية أفراحها، وتقوم براعم بإخراج الزكاة، ويتولى الشيخ أبو المجد توزيعها على المحتاجين، وتعيش القرية في وئام وسلام في ظل هذا التعاون والتراحم، وتبدأ في الانتعاش، فتختفي –شيئاً فشيئاً- الأخطاء والمعاصي، حيث كان الشيخ أبو المجد يقول للناس: "عندما يكف الناس عن الجدل، ويبدؤون العمل، يتحقق الأمل، ويسود الحب والأمان. هل هناك أعظم من ألا يبيت في قريتنا جائع بعد اليوم؟".
وأثناء المشاهد السابقة تمر أحداث الخليج، واحتلال الكويت، وما يتبع ذلك من أمور هزت المنطقة كلها، فعلق الشيخ أبو المجد –بعد أن صعقه خبر هذه الأحداث وبكى ثم جلس في بيته-: "هناك المسلم يذبح أخاه المسلم، والسماء تصبُّ الحمم على الأبرياء، والأرض تتفجّر بالنار، والعمائر والمصانع والمتاجر ينهبها المغول ويدمرونها، هناك عذارى وأيامى ويتامى يستغيثون، أليس هذا من علامات الساعة؟".

ويضيف: "هل رأيت أعجب من هذه الأيام؟ الذئب يريد أن يحكم بالعدل وينصف الفقراء. إبليس يدعو الناس إلى المحبة والمواساة، والحب والإيمان، وأعدى الأعداء يجلس على منصة القضاء ليحكم بين المتنازعين!".

وفي القرية تقع أمور تخص الناس، حيث ينهار مستشفى البلدة نتيجة إهمال الدولة في ترميمه وصيانته، ويغتمّ الناس هناك لهذا الأمر، بينما تتجاهل السلطات ما حدث، وتبني مسرحاً فخماً في البلدة، مما جعل أحد الرعاة "كشكل" يقول لمجموعة من الحشاشين الذين يجلس معهم: "لن يحلّ مشكلة المستشفى إلا عبد الشكور!!؟" وظن الحشاشون أن عبد الشكور واحد من أصحاب الملايين فراحوا يتساءلون عنه.

فقال الراعي الحشاش وهو يضحك: "يا مساطيل!! ألا تعرفون عبد الشكور!!

فأجابوا: عرّفنا يا فيلسوف الغبراء.

فقال: عبد الشكور شعلان يا بهائم –أقطع ذراعي إن عرفه أحد منكم لأنكم جهلة- إنه مندوب صندوق النقد الدولي، وهو مصري الأصل، لكنه أمريكي الجنسية".
"فسأله أحدهم: وهل الأمريكان يسمون عبد الشكور؟

فردّ عليه الآخر –من الحشاشين-: ولم لا؟

فمدّ أحدهم النرجيلة إليه قائلاً: خذ يا بوش يا ابن مبروكة".
ويستمر الحوار بين الحشاشين حتى يقول الراعي وهو يشرح: "إن تقارير عبد الشكور هي التي تمنحنا القروض أو تمنعها.

فرد أحدهم: لأنه أصبح أمريكياً، والأمريكي رجل مصالح، ولا يعرف العواطف، ولا صلة الرحم، ولهذا رفعوه إلى المركز العالي.

فعلق أحد الحشاشين: لو كان ابن مزاج لما فعل ذلك.

فأجابه الراعي: المزاج شيء، والمصلحة شيء آخر.

فسأل أحدهم: وهل يضربون الناس في أمريكا على أردافهم كما يفعلون عندنا؟

فأدرك الراعي أنه يريد التعريض بقصة تعذيبه من قبل أمن الدولة، فضحك وقال:

أمريكا بلد العجائب، الشعب هو الذي ينكّل بالشرطة، ولكل فرد حق في تعاطي الحشيش علناً في الشوارع، والنساء يعرضن أنفسهن بأسعار في متناول الجميع، وبالساعة، إنها بلد الحرية يا بهائم!! حرية الجنس والمخدرات والسياسة. السجون هناك مثل فنادق الدرجة الأولى".

ويتابعون هذا الحوار فيقول أحدهم: "صدقوني يا إخوان خير لكم ألف مرة أن تكونوا حشاشين من أن تكونوا رجال سياسة، لقد ازددت يقيناً أن الحشيش كالخبز يجب أن يحظى بالدعم".

حوار ساخر، عميق الدلالة، كثير الإيحاء، قوي التأثير.

وتمضي الحوادث، فتتكشف أسرار القتيل الذي وجدت جثته في أرض براعم، ويُلقى القبض على المجرم. أما الشاب المتدين الذي خطب وطالب بإخراج الزكاة، فقد قام يوم الجمعة، وخطب في المسجد، وطالب أهل قرية (الربايعة) بتكريم ابنة القرية (براعم) الشريفة، العفيفة، الخيّرة، التي صنعت للبلدة معروفاً، ودافعت عن شبابها، ومصالحها، ثم اقترح أن يخرجوا جميعاً نحو بيتها، ويقدموا لها مصحفاً هدية، للتعبير عن احترامهم وتقديرهم لها، ثم قال:

"إذا أردنا أن نحقق مبادئ الإسلام في الدولة، فلنبدأ بأنفسنا وأسرنا، ثم إلى قرانا الصغيرة، ولا ننتظر انقلاباً مفاجئاً يطبق شريعة الله، فالإسلام رجال قبل أن يكون سلاحاً، ومعارك دامية، وكما تكونون يولّى عليكم".

ثم اتفق أهل القرية على التعاون، وحل مشكلاتهم بأنفسهم، أما الدولة فلم يعجبها ذلك، فبدأت تتدخل عن طريق الحزب والأمن، وتدعو الناس لوضع أموالهم في المصارف، وتتهمهم بأنهم يشكلون بيت مال للمسلمين، ولكن العمدة دافع عن القرية وأهلها، وأوضح للسلطات أن أهلها طيبون، متعاونون في سبيل الخير، ولا مقصد لهم إلا كل خير.
وتنتهي القصة بزواج الشاب المتدين محمد حسب الله من ابنة القرية براعم، الفتاة الذكية العفيفة، التي قاومت كل المغريات ووقفت أحسن المواقف، وكانت مثال الفتاة الشريفة.

هذه الرواية –ملكة العنب- نموذج جيد للقصة الإسلامية الحديثة، حيث تخطّى فيها المؤلف حاجز التوجس والتردد، وعبّر من خلالها –بحق- عن أصالة تجربته، وأدبه الإسلامي، حيث أعطى موهبته كلها، وعطاءه الواسع لهذا الأدب الذي عرفه وأحبه وخدمه.

لقد كانت الرواية تعبيراً واضحاً عن ملامح القصة الإسلامية، ومميزاتها الفنية والموضوعية، دون خشية من النقاد الذين لا يرضون إلا بكل غريب مستحدث، أو صورة منكرة، أو أسلوب يرتدي أزياء العلمانيين.

ولقد كان المؤلف في روايته، واضح الرؤية، صادق التصور، فرسم شخصياته بدقة، وأعطاهم ملامح الحياة الواقعية بكل تنوعها، وألوانها وظروفها.

ولم ينس في أحداث القصة، أن يتطرق إلى الضعف البشري كما تطرق إلى القوة، ووقف عند الزوايا المظلمة الحزينة الفاجعة، كما وقف عند الزوايا المضيئة المفرحة، وراعى ناموس الحياة، وقانون الفطرة الإلهية الذي يحكم طبيعة البشر، ولهذا ظهر الانحراف خطأً شاذاً عن الفطرة.

وظهر الخير فطرة كامنة في العمق، وكان الناس يستجيبون لنداء الفطرة حين تتوافر الأسباب المناسبة، وينحرفون حين تغيب هذه الأسباب، أو تدخل عوامل الشر في الأحداث، أو حين تغيب دواعي الاستقامة، وتترك لعوامل السوء والانحراف والشر لتطغى وتُفسد.

وكانت مشاعر العاطفة والحب مشاعر إنسانية راقية عذبة رقيقة، ولكنها –أيضاً- بعيدة من سعار الجنس ومثيراته وصوره المنحرفة، فالعاطفة مشاعر كريمة عميقة.

وكان الكاتب في تصويره للأحداث لمّاحاً، ذكياً، شجاعاً، حيث رسم خارطة واسعة للأحداث تتسع للعالم العربي كله، إن لم يكن أكثر، وإن كانت المساحة المادية التي دارت فيها مساحة قرية صغيرة.

فالقرية هي مصر، أو الوطن العربي أو العالم الإسلامي كله، والشخصيات هم من قرية (الربايعة) ولكنهم نماذج واقعية بأسماء متعددة في كل بلد، فالربايعة القرية، صورة مختصرة دقيقة ترمز لهذا المكان، أو ذاك أو ذلك.

وفي القصة تصوير للشخصية المسلمة الواعية، الشخصية التي تنفذ بوعيها وبصيرتها إلى ما وراء الأحداث وأعماق القضية، ونتائج ما يجري.

كما صوّر الشخصية المسلمة البسيطة التي تظهر عارية أمام الأحداث ولكنها صادقة طاهرة.

وصور الفطرة السليمة والطبيعة المنحرفة والمخطئة.

وصور الخطأ بحدوده الواقعية دون تهويل أو تزويق أو تعليل، كما صور الندم والتوبة وعودة الإنسان إلى الحق حين تصدمه الأحداث وتتكشف أمامه الحقائق.

وصوّر الطبيعة المتآلفة الحانية على الإنسان المسخرة له لتعطيه وتبادله الحنو حين يمنحها الجد مع الإخلاص ولم يجعل منها نقيضاً يصارع الإنسان ويعترض طريقه.

صور الحيوان وهو يتعاطف في ود مع الإنسان، كما صور الإنسان وهو ينظر إلى هذا المخلوق الأعجم بحنو وعطف ووفاء.

صوّر المجتمع بعيون واعية، نافذة مبصرة صادقة، وقلب حساس، وعقل يخضع لمقاييس المذاهب المادية الحديثة في تفسير الأوضاع وقبولها وتسويغها، وإضفاء الشرعية على صور الانحراف، والغلو في هذا التصوير. وكتب عن الأحداث السياسية المعاصرة، ومواقف الناس وعن الإسلام، والمسلمين، والعالم من حولنا برؤية إسلامية شفافة واضحة.

لم يهرب إلى التاريخ ولم يغادر بعيداً إلى هنا وهناك، بل أضاء الواقع، وعرض لنا صوراً مثيرة منه، بطريقة واضحة بسيطة موحية، إنها قصة ملكة العنب، نموذج للقصة الإسلامية الحديثة.

 

* صدرت للدكتور الكيلاني عدة روايات منها: ملكة العنب، قضية أبو الفتوح الشرقاوي، اعترافات عبد المتجلي، امرأة عبد المتجلي، ومجموعة قصصية: الكابوس. وصدر له أخيراً: مملكة البلعوطي، الرجل الذي آمن.