مصطفى السباعي شاعراً ( 1 )
مصطفى السباعي شاعراً
( 1 )
بقلم: عبد الله الطنطاوي
عرف الناس الدكتور مصطفى السباعي -تغمّده الله بفيض رحمته ورضوانه- خطيباً مفوَّهاً لا يُجارى، وعرفوه سياسيّاً محنّكاً لا يُبارى، وعرفوه كاتباً باحثاً عميقاً قويّ الحجّة، وعرفوه داعية قلَّ في الدُّعاة نظراؤه، وعرفوه فارساً لا يُشقُّ له غبار، وعرفوه سيفاً من سيوف الإسلام شهره الله في وجـوه
الخونة والطغاة والمستعمرين، وقطع به ألسنة الفجّار والفاسدين والملحدين والمارقين، وعرفوه حكيماً، وعرفوه أديباً، ولكنهم لم يعرفوه شاعراً إلا في أواخر عمره القصير الحافل بجلائل الأعمال. وقد روى الأستاذ الكبير محمد المجذوب في كتابه القيّم: (علماء ومفكرون عرفتهم) أنّ السباعي أسمعه قصيدة طويلة، فيها من التوفيق الشيء الكثير، وكان ذلك عقيب مغادرته سجن الشيشكلي، الحاكم العسكري لسورية عام 1952 ويقول الأستاذ المجذوب عن شعر السباعي: "فله في هذا النصّ جولات موفّقات، وبخاصة في الجانبين: الديني والسياسي(1)". ولكن.. أين هذا الشعر؟ وهل ضاع في جملة ما ضاع من كتبه وأبحاثه وخطبه وحكمه وأوراقه؟ يا حسرة على ما ضاع، ويا ويح المفرّطين بآثار هذا الرجل الجليل الذي ترك مكانه شاغراً لمئات السنين، والله أعلم.
ونحن -تلاميذه- ما كنّا نعرف أنه شاعر، وما أسمعنا يوماً شيئاً من شعره، فقد كانت مشاغل الدعوة، ومشكلات السياسة، والتنظيم، تأكل وقته وأعصابه، وكانت ميادين الجهاد تستأثر بجهوده، فما كان يُرى إلا على الصهوات فارساً مُعْلماً، وسيفاً بتّاراً، وما أظنّه من مذهب الشافعي -رحمه الله- القائل:
فلولا الشعر بالعلماء يزري لكنتُ اليوم أشعر من لبيد
لأنه -رحمه الله- كان يشجّعنا -نحن الصغار- ويدفعنا دفعاً إلى ميادين الشعر والقصة وسائر ألوان الأدب.. كيف لا وهو صاحب الكلمة الشفّافة، والحلم الوضيء، والقلب الكبير، والعقل الحصيف، والنفس الشاعرة، والروح الثائرة، والذوق الرفيع؟
ما عرفناه شاعراً إلا في مرضه الذي طال عليه وعلينا، وصبر وصبرنا.. كان ينشر بعض قصائده في مجلته الرائعة: (حضارة الإسلام) وكنا نتلقّف ما ينشر، ونحفظه عن ظهر قلب، والدموع ملء مآقينا، وابتهالاتنا الحرَّى تتضرّع إلى الله العليّ القدير، الجواد الكريم، أن يمنّ بالشفاء العاجل على أستاذنا وقائدنا وقدوتنا أبي حسّان، وأن يأخذ من أعمارنا إلى عمره، ويمدّ في أجله، ولكن.. لكل أجل كتاب.
عندما قرأنا رائعته: (طريقي) تذكّرنا أبياتاً لجواد العرب: حاتم الطائي الذي كان يحبّ مكارم الأخلاق، ومنها:
وعـاذلةٍ هبّـتْ عليّ تلومني كـأني إذا أعـطيت مالي أضيمها
أعاذلُ إنّ الجود ليس بمُهْلكي ولا مُخْلد النفس الشّحيحة لُومُها
ولكنّ حاتماً كان يبذل ماله، أمّا السباعي فكان يبذل نفسه، فهو أبو النجدات والمروءات.. إنه على قدم الرسول القائد، عليه صلوات الله.. ويا ليتنا ننصت إليه وهو يرسم للدعاة العاملين طريقه ليترسَّموه، فهو طريقهم:
دعيني وشأني، ليس عذري بشافعٍ لديـك ، ولا حالي يعنُّ ببالكِ
وهـل يلـتقي طيران: هذا محلّقٌ تـروم جناحاه سمـاءَ ملائكِ
وذاك مـسفٌّ حائمٌ فـوق جيفة على الأرض تدنيه لوطء سنابكِ
وكـم بين من يمشي بصيراً بدربه تضيء له الأقدار وَعْرَ المسالكِ
وبـين عـمٍ لا يـهتدي لطريقه يحـاط بحجب مظلماتٍ حوالكِ
دعـيني فـفي دنياي هـمٌّ ومحنة وقـطعُ طريق في المفاوز شائكِ
وحـلٌّ وتـرحالٌ وحربٌ وهدنة وتـعليمُ أستاذ وعـزلةُ ناسكِ
ودنياكِ، مـا دنياكِ؟ وهمٌ وخدعة وسـعيٌ حثيثٌ نحو شتّى المهالكِ
إلى أن يقول:
همُ الناس بين اثنين: صِيْدٍ تشوقُهم معاركُ في ساح الهدى، وصعالكِ
دعيني أعيش العمر في غربة الهوى فـفي الحقّ محرابي ، وفيه مناسكي
وفي النُّصح لذّاتي، وفي الخير ثروتي وفي العلم مـحراثي، وفيه سبائكي
ومن كان هذا طريقه، لابدّ أن يتعب ويُتعب، فما كان السباعي لينام، وما كان ينيم.. كان يصل ليله بنهاره، ونهاره بليله، حتى وهو يعاني أشدّ الآلام، بعد أن برّح به المرض، وخاض معه غمار صراع مرير، وسلاحه صبره وإيمانه، وشموخٌ سباعيٌّ وكرامة سباعيّة:
هيهات، يا صاحبي، آسى على زمنٍ سـاد العبيدُ به ، واقتيدَ أحرارُ
أو أذرف الدمع في حِبّ يفاركـني أو في اللذائذ ، والآمـالُ تنهارُ
فـما سبتنيَ قـبل اليـوم غانيـة ولا دعاني إلى الفحشـاء فُجّار
أمَـتُّ في الله نـفساً لا تـطاوعني في المكرمات، لها في الشرّ إصرار
وبـعتُ في الله دنيا لا يـسود بها حـقٌّ، ولا قادها في الحكم أبرار
ويختم قصيدته الوداعية هذه، بهذين البيتين البديعين اللذين ينبئان عمّا يعتمل في نفسه الكبيرة تجاه إخوانه في الله، الذين طالما سهر على تربيتهم ليكونوا رجالاً يتابعون الطريق الذي اختطه لهم الرسول القائد، وسار عليه، من قبلُ ومن بعدُ، الهداة المهديّون:
أستودع الله صحباً كنتُ أذخرهم للـنائبات، لنـا أنسٌ وأسمار
الملتقى في جنـان الخلد إن قُبلتْ مـنا صلاةٌ وطاعات وأذكار
* * *
لم يكن السباعي شاعراً محترفاً متفرّغاً للشعر، ملاحقاً للشعراء الفحول، أو الشعراء المتمرسين، ومتابعاً لمذاهبه لدى الشعراء العرب، أو شعراء الغرب، وما ينبغي له أن يكون كذلك، وهو الذي وهب دعوته وأمّته حياته، يجالد هنا، ويقاتل هناك، ويخوض الملاحم في كلّ ميدان يرى فيه ثغرة لا يسدّها سواه، ولهذا لا نرى في شعره الأغراض التقليدية التي نراها لدى الشعراء الآخرين، فلم يمدح من البشر غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقف بغير بابه، يشكو ما ألمّ به من أسقام أقضّت مضجعه، وأطارت النوم من عينيه:
يا سيّـدي، يا حبيب الله جـئت إلى أعتاب بابك، أشكو البَرْح من سقمي
يا سيّدي قد تمادى السُّقم في جسدي مـن شدّة السُّقم لم أغفـل ولم أنم
الأهـل حـولي غـرقى في رقاد همو أنـا الـوحيد جفـاه النوم من ألم
نظم الأستاذ السباعي هذه (المناجاة) بين يدي الحبيب الأعظم، صلى الله عليه وسلم، قرب المنبر النبويّ الشريف، وتلاها أمام الحجرة النبوية مرتين، قبل الحج وبعده، عام 1384هـ وهي قصيدة طويلة، فيها آلام وآمال وتباريح ممّا آل إليه حاله، وهو الذي كان ملء السمع والبصر، مالئ الدنيا بجلائل الأعمال، وشاغل الناس بإثارتهم، وتوعيتهم بحقوقهم وواجباتهم من أجل النهوض من جديد، لاستئناف الحياة الحرّة الكريمة، تحت راية القرآن.. يقول فيها:
قد عشتُ دهراً مديداً كلُّه عـملٌ واليوم لاشيء غير القول والقلم
يا سيّدي طال شوقي للجهاد، فهل تدعـو ليَ الله عوداً عالي العلم ؟
تـالله ما لـهفتي للبُرْء عن رغبٍ في ذي الحياة ، ولا جاهٍ ، ولا نِعَمِ
وإنـما طمـعٌ في أن يقول غداً : لقد هَـديتم إلى الإسلام كلَّ عَم
والضمير في (يقول) عائد إلى الله عزّ وجلّ، فهو لا يطمع إلا في مرضاته، ولا يرجو من حياته إلا التقرّب إليه بالجهاد في سبيله، وبصالح الأعمال.
وفي هذه (المناجاة) الرائعة، لا ينسى أحبّاءه الذين ربّاهم على عينه، وهو يرى المؤامرات تحاك ضدّهم، لأنهم أحرار، لا يطأطئون هاماتهم للطواغيت:
واحفظْ جنودك من سوءٍ يراد بهم لم ينـحنوا لفئام البغي من شمم
تعـقَّبوا الشرَّ أنّى سـار متّجهاً فأحبطوا كيده دهـراً ولم يقم
هذه القصيدة حافلة بالضراعة والابتهال، والدعاء للمرضى والفقراء البائسين الذين ما كان لينساهم في يوم من أيام عمره، وفيها حِكَمٌ مسدَّدة استقاها من تجاربه الحياتية، وفيها شموخ، وفيها تفاؤل بالتمكين لهذا الدين في قابل الأيام، وفيها:
فأكـرمُ الناس من كانت منيّته في حـومة الحقّ جلداً غير منهزم
وأهونُ الناس من جاءت منيّته خلواً من الهمّ، أو خلواً من الهمم
وفيها رضاء بقضاء الله العادل الرحيم، رضاء الصابر المحتسب:
أشكو إلى الله شكوى غير ذي جزع في شدّة الضرّ وجهي وجهُ مبتسم
مـا في قضائك ظـلمٌ للـعباد ولا فيه الإساءة ، بل محضٌ من الحِكَم
هـي المـقادير، مـا شكٌّ بحكمتها عندي ، ولا أنـا منها قطُّ في بَرَم
وفي شعر السباعي ذاتية ما تنفكُّ ملتحمة مع الجماعة التي أنشأها، وسهر على تنظيمها وإعدادها من أجل الذياد عن الإسلام وأمة الإسلام وأوطان المسلمين، وأبناؤها في ضميره، وفي سائر أحواله، يراهم، يناديهم، يشدّ على أياديهم، يرسم لهم الطريق، ويضع فوقه الصّوى والمعالم، حتى لا يضلّوا في متاهات الحياة.. يهتف بهم أن يلتزموا درب الحقّ، ولا ينسوا ذلك القائد الثائر:
أيّـها السائرون في مـوكب الحقّ سراعاً للخير لا للمغانم
صـدقوا الله عهدهم فتـنادوا للمنايا لا يعـبؤون بظـالم
عـرّجوا في الطريق نحو جريح كـان في الله ثورة لا تسالم
كـافح الظالمين في صـولة الظلم، وللشرّ دولـة ومعـالم
ثمّ شاءت إرادة الله أن يُقصى بعيداً عن خوض تلك الملاحم
أوثقتْه الأسقام بضع سنينٍ في اكتمال الشباب والحظُّ باسم
أرغمـتْه الآلام أن يلزم البيت إذ الخطب في العشيرة داهم
عـلم اللهُ كرهه راحـة الجسم إذا البغيُ في الـمرابع جاثم
فانثـنى يجرع العذاب، وفي القلب جراح، وفي الفؤاد عزائم
لا تلوموه إن تنحـّى عن الركب قـليلاً، فجسمُه غير سالم
لـكمو مـنه: رأيُه وهـواه ومـروءاتُه وحملُ المغارم
وكذلك كان السباعي، يعطي ولا يأخذ، يبذل كلَّ ما يملك من مال ووقت وجهد، ولا يعرف للراحة طعماً، دون مقابل، وسعادته في البذل والعطاء، وغايته إرضاء الله سبحانه، غير آبهٍ بالحسّاد والشانئين والذين يغارون منه، لأنهم لا يستطيعون أن يصولوا صولاته، وأن يقتحموا المعامع التي يقتحم:
ومنتظرٍ موتي ليـشفي غيظـه رويـدك إنّ الموت أقرب موعد
أغاظك مـنّي شهرة ومـحبّة من الناس أولتني قلادة سؤدد ؟
لعمرُك ماذاك الذي قد أهاب بي إلى دعوة الإصلاح في ظلّ أحمد
ولكنّه الإخلاص والعلم والظما وطول عناء الأمس واليوم والغد
فمن ساءه عزمي على السير إنني إلى الله ماضٍ فليطلْ همُّ حُسّدي
ويختم قصيدته الحزينة المتحدّية بهذا البيت الذي أسال دموعنا الحِرار:
وإن يأسَ أحبابي عليّ من الردى لطول السُّرى، فالموت في الحق مسعدي!
يا لطيف.. ما أقسى حسد الحسّاد!.. ما أنذل عديمي الوفاء!. ما أتفه الذين كانوا يغارون من هذا الفارس الذي أبى أن يترجّل والآلام تفري جسده!.
إن شعر السباعي نفثات مصدور يفثأ بها حميّا الحسد والغدر والنكث بعد طول السُّرى والإدلاج جهاداً لا تنطفئ ناره، ونضالاً لا يخبو أواره، مادام السباعي القائد الفارس يطوي المهامه، وينير الدّروب للسالكين، لا يبتغي إلا الأجر من الله الذي لا يأوي إلا إلى ركنه، ولا يلجأ لسواه، في سائر أحواله:
أراك جميلاً حين ترضى وتغضب وحـين تمنّـي بالوصـال وتـعتب
وحين تعافيني من الهـمّ والضَّنى وحـين دمـائي من جراحي تثغب
أراك جمـيلاً في فعـالك كلّها فهل أنت راضٍ أم تُرى أنت مغضب؟
وهو دائماً يرنو إليه سبحانه، طالباً عفوه ورضاه:
فياربّ هب لي منك صبراً ورحمة ويـاربّ حـبّبـني بمـا فيَّ تكتب
وأنزلْ على قلبي الجريح سكينة وأحسنْ ختامي، ليس لي عنك مذهب
وفي رائعته الحائية، يسأل أصفياءه أن يحملوه إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن يطرحوه ببابه، ثمّ يشكو إليه ما يلقاه من آلام، ثقة ببركته، سائلاً إياه الدعاء الذي لا يردّ، ثم يقول:
حـسبي الله لا أريـد سواه هو أنـسي وفي حمـاه أريـح
ربّ لولاك ما استطعتُ ثباتاً في مسيري ، ولا سمتْ بي روح
رحمه الله رحمة واسعة، وتغمّده بفيض رحمته ورضوانه، فهو حسبُه، وهو أنسُه، وهو مثبِّته في سائر أحواله الجهادية، وإليه يلجأ، وفي حماه يريح.