جسر على نهر درينا

جسر على نهر درينا

للشاعر : حسن الأمراني

 بقلم: عبد الله الطنطاوي  

[email protected]

الشاعر في سطور:

-ولد في مدينة وجدة (المغرب) عام 1949م.

-كانت دراسته الأولية والثانوية في وجدة.

-درس اللغة العربية في كلية الآداب في مدينة فاس، وتخرج فيها عام 1971م.

-نال الدكتوراه على أطروحته: المتنبي في دراسات المستشرقين الفرنسيين.

-عمل في التعليم الثانوي منذ عام 1972-1979م.

-عمل أستاذاً مساعداً في كلية الآداب بوجدة عام 1979م.

-عضو في عدد من الروابط والاتحادات الأدبية.

-رئيس تحرير مجلة (المشكاة).

-من أعماله الشعرية:

1-مزامير.

2-البريد يصل غداً.

3-جسر على نهر درينا.

4-أشجان النيل الأزرق.

5-سآتيك بالسيف والأقحوان.

6-المجد للأطفال والحجارة.

7-كاملية الإسراء.

8-يا طائر الحرمين.

 

مدخل :

عنوان الديوان الذي أصدره الشاعر المغربي المبدع الدكتور حسن الأمراني هو: (جسر على نهر درينا.. ملحمة الإسلام في البوسنة) وهذا يعني أن الديوان ذو موضوع واحد يتحدّث عن الملحمة التاريخية التي يخوضها مسلمو البوسنة والهرسك في قلب أوربا (الديموقراطية المتحضّرة) التي تنعى على المسلمين تشدّدهم وتعصُّبهم ، وتتّهمهم بالرجعية والبعد عن التسامح مع أصحاب الديانات الأخرى ، فيما هي (تتفرّج) على مذابح المسلمين، وقتل أطفالهم وشيوخهم وشبّانهم، واغتصاب نسائهم وفتياتهم، على أيدي برابرة أوربا الهمجيين، بل أين البرابرة من الصرب الذين فاقوا عصابات القتل من اليهود في فلسطين الشهيدة، وتكتفي بالتنديد مرة، وبإلقاء الأقوات من الجوّ مرة، وكأنهم – بهذا وذاك – قد كُفُوا القتال والتدخل العسكري من أجل إنقاذ مئات الآلاف من المسلمين الذين يموتون جوعاً – تباعاً – وقتلاً وذبحاً واغتصاباً ..

و (جسر على نهر درينا) هو –في الأصل– عنوان الرواية التي كتبها الروائي البوسني الكاثوليكي إيغواندريتش ونشرها بُعَيد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 م.

يقول الشاعر الأمراني:

"إن رواية ( جسر على نهر درينا ) تختصر تاريخ البوسنة والهرسك منذ الفتح العثماني، حتى الاستعمار النمساوي ،برؤية الكاتب المتميزة."

جسر درينا :

لقد بني الجسر الذي كان قائماً على نهر درينا، عام 979هـ–1571 م بأمر الوزير العثماني محمد باشا سوكو لوفيتش الذي ولد في قرية صغيرة من قرى البوسنة، قرب فيشيجراد، القرية الواقعة عند ملتقى النهرين: درينا ورِزاف، وقد أراده الوزير رابطاً بين الإقليمين العثمانيين: البوسنة والصرب .

واليوم ، يعود نهر درينا ليشهد مآسي لم يعرف لها العالم نظيراً ، حيث يقوم الصرب بتذبيح المسلمين ، رجالاً ونساء وأطفالاً ، ويلقون بجثثهم إلى النهر .

وحين يمتنع النهر عن التهام الجثث ، فتظلّ طافية ، يقوم الصرب ببقرها لتستقرّ في أعماق النهر .

إن أعماق نهر درينا تضمّ اليوم كثيراً من الشهداء . يقول الشاعر الأمراني :

 "إني أرفع هذه الأشعار إلى المستضعفين من الرجال والولدان من شعب البوسنة والهرسك، الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً ."

العنوان :

استعار الشاعر عنوان الديوان من الرواية ، واقتطف من الرواية أيضاً كلمات معبّرات عمّا يجري الآن هناك ، من مثل قوله :

"أخذ بعض سكان المدينة ينشدون، على طريقة أهل المدينة، هذا النشيد، وقد شحبت وجوههم من فرط الانفعال :

في سراييفو والبوسنة

كلّ أمّ حزينة

من فراق ابنها

الذي بعثت به إلى الإمبراطور مجنّداً ."

الرواية : 1/313

تساؤلات :

ترى .. ماذا ينشد سكان سراييفو في هذه الأيام ، والأمهات يغتصبن أمام بناتهنّ ، وأزواجهنّ وأبنائهنّ وحفدتهنّ ؟

ماذا سيقول الشعراء والكتّاب والمغنّون والمنشدون وهم يرون من فظائع الصرب ما تجاوزوا به مذابح قبية ودير ياسين وكفر قاسم التي نفّذها همج القرن العشرين في فلسطين ؟

وماذا عساه أن يفعل ذلك الوزير العثماني البوسني محمد باشا الذي أمر ببناء ذلك الجسر ليربط بين الإقليمين ، وليتعارف الناس من خلاله وعبره ويتعاونوا ؟ ماذا عساه أن يفعل فيما لو كان أطّلع على الغيب – الذي لا يعرفه إلاّ الله، ولا يطْلع عليه إلاّ من شاء من أصفيائه– ورأى الصرب يعبرونه ليقتلوا المسلمين – حفدته – ويفعلوا بهم الأفاعيل ؟

أما كان يعدل عن فكرة بناء الجسر ، ليبني سدّاً من نار ، يفصل ما بين البشر وبين الصرب المتوحشين المتخلفين ؟

ولو عاش كاتب الرواية البوسني الكاثوليكي إلى أيامنا هذه ، ورأى ما يفعله الصرب بالمسلمين – والعالم على أبواب القرن الحادي والعشرين - ..أما كان يترحّم على ( النبّاش ) الأول : إمبراطور النمسا الذي كان يسوق شبّان البوسنة إلى محرقة الحرب التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل ؟ وأما كان يرى فيما كتب ووصف من جرائم متواضعاً وأقلّ بكثير من الواقع المأساوي المعيش ، والناس يودّعون هذا القرن ؟

لقد كتب مؤلف الرواية يقول :

 "كما يقع كثيراً في تاريخ الإنسانية أصبحت أعمال العنف والنهب وحتى القتل من الأمور التي يسكت عنها وتباح ، شريطة أن ترتكب باسم مصالح عليا ، وتحت ستار شعارات معينة ، وأن تنزل على عدد صغير ممن يسمّون بأسماء معينة ، وينتمون إلى عقيدة معينة".

الرواية : 2/149

فأين هذا مما يحدث الآن ؟

لا بدّ أنه كان سيغيّر كثيراً مما كتب ، حتى تكون رواية جديدة حافلة بمخازي الصرب وتوحشهم المنبعث من أحقاد دفينة موغلة في أعماق التاريخ .

رفاقية الرفاق :

ولعلّ هذا ما يفسّر ويشرح للذين يعجبون من قتال ( رفاق ) الأمس ، وتذبيحهم وتذبيح نسائهم وأطفالهم ، وهم الذين كانوا ( رفاقاً ) في الحزب الأحمر ، وزملاء في الجامعة ، فما الذي جرى حتى يُجْروا دماء الرفاق والزملاء أنهاراً ؟

لم نكن نعرف يوم احتضنتنا الجامعة

فاحترقنا في ميادين الصراع

أن أبناء الأفاعي

في الليالي الحالكة

ينفثون السمّ باسم الطبقات الكادحة

في العروق الجائعة

*          *          *

عندما كنّا نغنّي الشعر والثورة

في ساحة ( هوشي منه )

والقلب على الكفّ و ( يوميات بوليفيا ) وأشواق الكفاح

لم نكن نعرف غير ( ديان بيان فو ) أملاً يشفي الجراح

لقد كانوا ( رفاقاً ) في الحزب الدموي الأحمر ، وما كان يخطر على بال مسلم أو مسلمة من الرفاق والرفيقات ، أن ماركس وأنجلز ولينين وستالين وكلّ أبالسة الشيوعية ، سوف يعجزون عن استلال سخائم الأحقاد من قلوب سود تعيش في بلاد الصرب والجبل الأسود ، فالصرب فعلوا بالمسلمين بعد الحكم الشيوعي ، وعلى يد تيتو – صديق بعض المستعربين وأحد الرواد – مثل ما يفعلونه في هذه الليالي الدّوامس المترعات بألوان قاتمة من الجرائم ..

حديث الشيخ علي يعقوب :

وقد حدّثنا الشيخ علي يعقوب – شيخ استنبول الفقيد- الذي نجا من إحدى مذابحهم في الأربعينيات ، حين أطبق الصرب على المصلّين الذين كانوا يصلّون صلاة عيد الأضحى في بلدتهم التي كانت تربض على كتف نهر درينا .. أطبق الصرب (الرجعيون) من جانب، والصرب (التقدّميون) الشيوعيون من جانب، وأحاطوا بالمسلمين المصلّين، وذبحوا منهم مذبحة هائلة ، قدّرت بثلاثة آلاف شهيد ، ورموا جثثهم في ذلك النهر الذي صار نهراً أحمر قانياً ، ورمى الطفل علي يعقوب بنفسه في النهر ، لينجو من المذبحة ، وليحدّثنا حديثه هذا بعد أربعين سنة من حدوثها ( عام 1984 ).. حديثاً اقشعرّت منه أبداننا ، حتى وقع في خاطري أن يكون الطفل علي يعقوب الذي شهد المذبحة ، ما يزال يعيش في ضمير الشيخ علي يعقوب الذي ذرَّف على السبعين ، لأنه كان يحدّثنا والذعر ملء عينيه ، والخوف مرتسم على قسمات وجهه ، ومعشّش في أعماقه ، حتى بلغ به الأمر أن يرجونا أن لا ننشر شيئاً من حديثه ، لأنه يخشى من الصرب الشيوعيين ( العقائديين ) على بقايا أسرته المنكوبة .. لقد كان يخشى من انتقام الصرب المجانين المجرمين بعد أربعين عاماً من المذبحة ..

رباط الماركسية :

إن البوسنيين الشيوعيين ليعجبون من تصرفات رفاقهم الشيوعيين من الصرب.. كانوا يحسبونهم قد انصهروا في بوتقة الماركسية الأممية ، ونسوا أصولهم العرقية ، وعقائدهم النصرانية ، وأخلاقهم الجبلية ، وأحقادهم الصليبية التاريخية .. كانوا يظنون أن رباط الماركسية الأممية أقوى وأصلب من أي رباط ، وإذا هم وقد انفرط عقدهم الذي لم يكن سوى وهمٍ وتدليس على الذات ، يعودون سيرتهم الأولى ، وحوشاً كاسرة في غابات أوربا الصليبية الحاقدة ينقض بعضهم على بعض في لمحة بصر ، ويمارس بعضهم ضدّ بعضهم الآخر أقسى صنوف الهجمية ، وأحطّ أنماط العهر والفجور .

رؤيا مستقبلية :

هذه بعض ما تعبر عنه وتوحي به اللوحة الأولى من الديوان .. وهذا هو الجانب المظلم من هذه اللوحة ، أما الجانب المشرق فيها ، فهو ما تجلى في وعي أصحاب البصائر ، كذلك الشيخِ الشاب الذي كان ينظر بنور إيمانه نحو المستقبل ، فيرى المأساة الكارثة قادمة على أيدي أولئك الرفاق ، ولعل من كان يسمع كلام ذلك الشيخ كان يضحك ملء شدقية على هذا التخلف السياسي والفكري لدى المشايخ :

يومها وشوشني الشيخ الفتى :

 إني سأفضي لك بالسرّ ، فلا تجهر به من قبل أن تؤنس نار الأبديه .

فجميل الصبر مفتاح القضية .

 يا بنيّ

سوف يأتي _ واحفظ القول _ على الناس زمان

تصبح اللحية فيه بندقية

وحجاب البنت يغدو قنبلة .

ويعلق حيران بن الأضعف على قول هذا الشيخ (المتخلف) :

 وظننت الشيخ يهذي

وبأعماقي ضحكت

لم أكن أفهم شيئاً

وهو يتلو الزلزلة .

وقد كان الذي توقّعه ذلك الشيخ ، فكانت الزلزلة التي خفيت أسبابها على (حيران) _ الرفيق الشيوعي الضائع بين ما كان يحلم به، وبين الواقع المر _ ابن (الأضعف) ويا ليته كان ابن ( المستضعف ) فالإسلام كان وما زال وسيبقى إلى الأبد ، هو الأقوى ، وإن استضعفوا أبناءه في عصر العلو اليهودي الصليبي هذا .

الجسر بين الماضي والحاضر :

وفي اللوحة الثانية : ( البيان ) يتداخل الماضي والحاضر عند جسر درينا ، فعلى الجسر تعلق إعلانات الغزاة ، ويعلق الضحايا ، ويصلب الثوار ..

ومن خلال الحوار بين علي خجا وإسماعيلوفتش نطلع على الواقع المرير ، وعلى النفوس المتأزمة نتيجة الحصار القاسي ، والقصف والدمار ونقض العهود والمواثيق ، ولكن.. يبقى الجهاد الأمل في الخلاص ، فترك الجهاد مذلة ، والمذلة محرمة على المسلم الذي يريده  الإسلام عزيزاً على الزمان ، يتبوأ قمة المجد ، ويأبى العيش بين الحفر .

صوت الشاعر :

ويأتي صوت الشاعر هادراً في حزن عبر اللوحة الثالثة ( الجرح الهادر ) . وجرح الشاعر هو جرح سائر المسلمين، هو جرح الفلاح المستضعف الذي يحكي عن قريته التي كانت آمنة مطمئنة جميلة ، فغدت مهجورة ، بعد أن كانت موئلاً للحساسين ومأوى للياسمين ، هجرتها طيورها وتركت أوكارها ، ففقدت بذلك جمالها ، كما فقدت جلالها وعظمتها بعد أن استضعف الصرب رجالها ، واغتالوا مآذنها التي كانت تنشر البشر والبشريات ، ثم يأتي النَّفَس الملحمي شامخاً مفتخراً بالقرون الوضاء التي عاشتها هذه البلاد في ظلال دوحة الإسلام:

يـا قـرونـاً خمسـة لألاءة    كرحيق الفجر ما بين القـرون
من طوى أعلامك الخضراء؟    من نسج الأكفان للحق الرزين؟
قد غدا نهر " درينا " ظامئـاً
    ولكـم كان يروّي الظامئيـن !
والعصافير التـي كانت هنـا    زينة الروض وكحل الناظرين
ذبحوها ، هدموا أعشـاشهـا    صادروا ألحانها بين اللحـون
هتكوا سترالصبايـا ، عذّبـوا    كل شـيخ ، قطعوا كلَّ وتين
سرقوا الأطفـال من أمّاتهـم    شرّدوهم .. يا لظلم الظالميـن
قتلوا كـلَّ أبـيٍّ ، صلبـوا    يا سراييفـو بنيـك المهتديـن


     ويلخّص الشاعر رأيه في هذه الملحمة بأن نكون أو لا نكون .. هذه هي الخلاصة وعلى المسلمين أن يعوها جيداً وأن يبشّروا بها ، ويسعوا إلى تحقيقها .

أحقاد وغباء :

وفي اللوحة الرابعة ( الصلب ) يتحدّث أحد الرفاق المحسوبين على الإسلام والمسلمين ، وهو معلّق وموثق إلى الجسر .. يتحدّث عن مأساته التي لا يعرف لها سبباً ، ويتساءل عن سبب تعليقه وتعذيبه واغتصاب أخته أمامه ، وعن سبب تعذيب أمّه وأبيه الذي قاتل النازيين ودافع عن بلغراد وزغرب – عاصمتي الصرب والكروات – ولا يدري لماذا صار هو ومن على شاكلته من الرفاق ( المسلمين ) غرباء وكالوباء ؟ والمسكين لا يدري أنها حرب دينية وليست حرباً عرقية ، كما يروّج لها الإعلام الغربي الصليبي الحاقد ، ويلحق به في الترويج لهذا الزعم ، كل إعلام غبيٍّ في دنيا الناس .

صوت التاريخ :

وفي اللوحة الخامسة ( الواقعة ) يتداخل التاريخ بالحاضر ، كما في ( البيان ) فيتحدّث الشاعر – مازجاً بين ( غرناطة ) و ( سراييفو ) الشهيدتين – مستصرخاً ضمائر المسلمين ، عبر نداء قادم من وراء الأفق ، غير أنه نداء دامٍ ما يزال ينزف ، مستعيراً أبيات صاحبة (البراق) بتغيير طفيف :

وفي الأفق نداء نازف الجبهة يستصرخ أبناء العقيدة :

ليت للمسلم عيناً فترى    ما ألاقي من عذاب وضنى

قيّدوني عذّبوني ، ضربوا    موطن العفّة مني بالعصا

ويأتي الجواب مدمى :

-آه يا أمُّ اعذرينا

نحن أصبحنا أسارى الذلِّ والقهر الشديد

اعذرينا

فلقد أدمت سجايانا القيود .

( ألا ما أجملها من صورة ، وما أروعه من تعبير .. فقد أدمت سجايانا القيود ) .

ويأتي الجواب على الجواب حازماً صارماً :

لم أجد عذراً لكم بعد امتهان العرض والدين ..

وما غبطة حيّ صار يحيا كالعبيد ؟

لم أجد عذراً سوى أن تطلبوا درب الشهيد .

فسلوك درب الجهاد والاستشهاد هو نفسه الصعود إلى قمم العزّة والكرامة والمجد.

ولم يبعد الشاعر في المقارنة بين غرناطة وسراييفو ، فالمسلمون جميعاً يخشون ضياع البوسنة كما ضاعت الأندلس ، وكلتاهما في أوربا ، ولا يريد شاعرنا أن تقول الأمهات المسلمات البوسنيّات كما قالت أم أبي عبد الله الصغير لابنها :

ابك مثل النساء ملكاً مُضاعاً    لم تحافظ عليه مثل الرجال

بل جعل الأم البوسنية تستدرك قبل أن يكون لوم وتلاوم ، فتدعو بنيها إلى الجهاد والاستشهاد ، فدربهما هو وحده الدرب الموصل إلى الكرامة وصون العرض والأرض والدين والشعب .

شاعر أهمّته أمّته :

وهكذا تتوالى لوحات الديوان ، معبرة عن الواقع البئيس الذي يعيشه المسلمون في البوسنة والهرسك ، تحت ثقل الجزارين الصرب ، راضعي حليب الذئاب والأحقاد ، و..

والشاعر الأمراني متفنن مبدع في التعبير عن قضايا أمته العربية والإسلامية ، في هذا الديوان وفيما سبقه من شعر ونثر ، تناول فيهما هموم هذه الأمة ، وهو في هذا الديوان ذي الموضوع الواحد ، رائد في هذا الميدان ، فلم نعرف شاعراً أصدر ديواناً حول البوسنة ومعاناة المسلمين فيها ، وهو واعٍ لطبيعة المعركة الشرسة التي يسمّيها الإعلام العربي التابع للإعلام الغربي الصليبي المتصهين : حرباً عرقية ، وهي في حقيقتها الظاهرة للعمي والمبصرين ، حرب دينية بكل ما في هذه الكلمة من معنى ، تريد الإجهاز على الإسلام ، واستئصال شأفة المسلمين من قلب أوربا ، كما صرّح الصرب أنفسهم ، ولكن الإعلام الغربي يحاول طمس حقيقة ما يجري ، ليصرف المسلمين العاجزين أصلاً عن فعل أي شيء لمناصرة إخوانهم المسلمين هنا وهناك ، عن تقديم أي شيء ذي بال لهؤلاء الذين يقتلون ويُصَلَّبون وتُقَطَّع أيديهم وأرجلهم ، وتُغْتَصبَ نساؤهم وفتياتهم وصبيتهم ، لسبب واحد ولا سبب سواه ، هو كونهم ينحدرون من أصول إسلامية .

الشعر في الديوان :

تهمة الخطابة والوعظية السردية المباشرة تتلبّس الشعر الإسلامي في نظر النقّاد العلمانيين ، وأحبّ أن نحتكم في هذه الدعوى المريبة ، في هذا الديوان الصغير الحجم ، الكبير المعنى ، الذي تقرأ فيه شعراً صرفاً ..

فإذا كان الشعر – حسب المقولات الحديثة – صوراً وموسيقى ، فإننا نرى شاعرنا قد عبّر عمّا يريد من معان وأفكار ، من خلال الصور والموسيقى معاً ..

اقرأ معي ما جاء في اللوحة السادسة ( الاغتصاب ) من شعر :

لجسد مرتعش

على سرير الرعب

لصرخة موءودة

من طفلة شرقية شقراء

تجأر بالدعاء

لرافع السماء

لجسد منفطر مما جناه الصرب

وأذرع مشلولة ..

تهتف في مرارة : يا ربّ        

صيّرت سيفي قلمي

جعلت حبري من دماء القلب

لعلّ رمح الصرخة الخرساء

يشقّ قلب عابد المحراب

بالغضب المغموس في قرارة الأحقاب

ويبعث الدماء

كاسحة من قلب هذا الشعب .

ألا ترى هذا الصراخ المدمّر للأعصاب ، ينطلق من حناجر الصبايا اللواتي تعرّضن للتعذيب الشيطاني الذي لا يوصف ؟

هل ترى في تلك الصرخات غير التعبير عن الفجيعة من خلال الصور التي هي من المجاز العقلي البديع : "سرير الرعب – صرخة موءودة – صيّرت سيفي قلمي – حبري من دماء القلب – رمح الصرخة الخرساء – الغضب المغموس في قرارة الأحقاب" .

والموسيقى الحزينة التي تنساب عبر القصيدة ، توشح تلك الصور بهالة من حزن وألم ، والكلمات والتراكيب التي حملت تلك الموسيقى من خلال انتقائية محببة ، لأنها عفوية ، لا ابتسار ولا اقتسار لقافية أو حرف رويّ ..

وهذا الحكم ليس على هذه القصيدة اللوحة فحسب ، بل تراه في سائر لوحات الديوان ، التي حفلت بالتصوير والتجسيد المناسبين لطبيعة الموضوع المأساوي .

اقرأ معي هذه الأبيات ، وتأمل ما فيها من صور حفلت بها هذه اللوحة ( الذكرى ) :

ها هنا ربعي الطفولي

ها هنا حلمي الربيعي

ها هنا بستان أحلامي المنضَّد

وهنا في الأفق الغربي شلال من الضوء ، لُجَيْنيٌّ تَهَجَّدْ

فوقه شلال عسجد .

هل تحتاج هذه الصور إلى من يشرحها ويفسرها ؟

وهل تحتاج الموسيقى التي تنساب في نعومة حيناً ، وفي تصخاب حيناً آخر ، إلى من يفتش عنها ؟

ها هنا شهقة بحر

ها هنا صولة غابه

ها هنا غيمة عشق

ها هنا ظلُّ سحابه

وفي ( الخرافة ) عبّر عن الدعاية القديمة المستجدة عن إرهابية المسلم في الأدب الغربي، منذ ما قبل شكسبير وحتى يومنا هذا .. عبر عن تلك الخرافة بكلمة ( الغول ) مرة ، وبهذه الصور الفاقعة التي تهدهد الأمهات بها أطفالهن مرة ثانية :

خليع عربي ضيق الجبهة أسود

يطلع الليلة من قلب الجدار

يزرع الرعب بأعماق الصغار

( وهذا المسلم ليس بشراً سويا ) ،

بل عدو ظامئ للدم والقتل المريب .

ولنشنّف أسماعنا بهذه الموسيقى الشجية التي تذكرنا بسورة الشمس في الفرقان المجيد :

أغريب أنا في أرضي

هيهات .. أبي روَّى ثراها

كل شبر فوقها يشهد أني من بناها

ورعاها

وسقاها

وأبي الذي من أجلها أعطى دمه

ضحّى لتبقى مسلمة .

وهذه الصور الممتعة _ فنياً _ المحزنة _ واقعياً _ في قصيدة ( بديع يتلو أشعاره ) وفيها الكثير مما رواه لنا الشيخ علي يعقوب _ تغمده الله بفيض رحمته _ :

طاول النجمَ الحجر

شاخت الأزهار والبدر انتحر

وتمطت عند أعتاب القمر

ذئبة تعزف ألحان الظفر

أي جمال وأي سحر حلال نطالعهما في هذه القصيدة المترعة صوراً وموسيقى ومعاني شامخات عن المذابح التي شهدها وما يزال يشهدها نهر درينا وجسره العتيد ؟

وهذه الموسيقى الملونة بألوان الأسى الأسيان ، في ( وا إسلاماه ) :

ولدي الحبيب

ماذا صنعت وأنت ما أدركت بعد

سن الفطام

ماذا أتيت من الذنوب ؟

ذبحوك بين يديّ ، شقّوا الجيب ، واغتصبوا دمي

أبنيّ ما صنع العتاة ؟

كانوا أضرّ من الذئاب الجائعات ؟

نقشوا على الصدر الصليب

ولدي الذبيح

أرأيت أعداء المسيح ؟

باسم المسيح

ذبحوك بين يديّ ، أعداء المسيح

أعداء كل الأنبياء

 الصرب مصاصو الدماء .

ساقٌ هنا .. وهناك معصم

عنقٌ مضرّجة هنا وهناك رأسٌ قد تحطّم

والذنب ؟ لا ذنب سوى أن قيل : مسلم .

وأحياناً تشتدّ الموسيقى ، ويهدر النغم في تعنيف :

وهناك في بعض الجهات

يغفو الولاة

يغفو الولاة على سرير الطيّبات

كل يجالس عجله الذهبي يسأله صكوك المغفرة

حيناً ويغفو كالصنم

ما بينهم يوم الكريهة خالد أو معتصم

ويختم الشاعر قصيدته الرائعة ( وا إسلاماه ) التي تحمل على جناحيها ملحمة المسلمين في كل العصور ..يختمها بهذه الأبيات الحزينة بمعناها ومبناها ، بموسيقاها وصورها ، بألفاظها وتراكيبها :

يا أرض أندلس سلاما

ما عدت وحدك جمرة الذكرى ، سلاما

هذي سراييفو تبادلك التحيّة والختاما

يا أرض أندلس سلاما

فكما ضاعت الأندلس ، فردوسنا المفقود ، ضاعت الخلافة ، وضاعت فلسطين ، وضاعت سراييفو التي قاتل أبناؤها المجاهدون في فلسطين ومن أجل الإسلام والمسلمين .

وفي لوحته الأخيرة ( أطفال سراييفو يتحدّون الحصار ) موسيقى صاخبة أشبه ما تكون بالنشيد الحربي ينشده أطفال سراييفو في قوة حزينة ، على أحان المدافع والصواريخ وأزيز الرصاص :

نحن أطفال سراييفو العتيدة

إن حرمنا من حنان الأمهات

في الليالي الحالكات

فلأنا مسلمون

*  *  *

نحن رغم القهر والقيد اللعين

سوف نبقى مسلمين

*  *  *

نحن أطفال سراييفو القتيلة

قيّدونا

عذّبونا

أحرقوا المسجد والروض وأحلام الطفولة

صادروا الآباء منا والبراءة

والحكايات الجميلة

علّمونا في ربيع العمر أن نلعق جرح الكبرياء

علّمونا أن نغنّي للردى الزاحف ..

أن نعزف ألحان المنيّة

علّمونا أن نصلّي ، ويد تحضن جسم البندقية

نحن أطفال سراييفو الشهيدة

سنصلّي ونصلّي

ونعيد الضوء باسم الله للشمس الطريدة

فالأطفال وشاعرهم متفائلون أبداً ، برغم تراكم الظلمات، وجرائم المجرمين، لأنه لا ييأس من روح الله إلا الكافرون، ولسوف ينبثق فجر الإسلام، من بين أسجاف الظلام، بعد أن قرع الصرب نواقيس صلبانهم ، فنبّهوا المسلمين إلى الأخطار المحدقة بإسلامهم وبوجودهم، بعدما غفلوا عنه دهراً طويلاً، منذ اجتاحت الصليبية الحديثة والشيوعية الكافرة ديارهم ..

ولئن تخاذل المتخاذلون اليوم ، إن غداً لناظره قريب ، وسيأتي القادمون من قلب الغيوب، ليمحوا العار عن مسلمي اليوم ، الذين أعلنوا الحرب على الإسلام :

أيها الظالم ما أقسى القصاص

أيها الظالم ما أقسى القصاص

فأطفال اليوم هم رجال الغد وأبطاله المجاهدون :

يا سراييفو المجيدة

يا سراييفو الشهيدة

أذن الله بأن ترفع رايات الجهاد

نحن أطفالك حراس العقيدة

لن يطول الانتظار

لن يطول الانتظار

ولعلّ قائلاً يقول : أليس في هذا المقطع خطابية ومباشرة ؟

والجواب : هذه الأبيات هي ختام الديوان ، وهي بمثابة القفلة الصارخة له ، ولكلّ مقام مقال .

الشاعر الملتزم :

والدكتور حسن الأمراني شاعر ملتزم بإسلامه ، بمبادئه وتعاليمه ، ملتزم بقضايا أمته ، يعبّر عنها في عقلانية لا تخلو ، ولا يجوز لها أن تخلو من العاطفة المتّقدة حيناً، الحانية بدفء حيناً آخر ، فبعد هذه الصور الجميلة الرائعة :

جمرةٌ مطفأة شمـس الضحـى    وفؤاد الليل بكّـاء حزيـن

جُنَّت الأرض من الذبح فمـن    يملك الرقبة من مسّ الجنون

يا دموع الأرض كوني منصلاً    يتلظّى في صدور المعتدين

  قال :

يا سراييفـو جراحـي جمـّة    ونداء القلب مكتوم الأنيـن
واصطباري فيك أضحى خنجراً    كلهيب يبعث الـداء الدفين


      
وهذه العاطفة المشبوبة نلمحها في قصائد الديوان عموماً ، وهذا ليس بعجيب ولا غريب على شاعر تشغله أمّته بقضاياها المصيرية عن قضاياه الشخصية :

ما الذي يبقى من الشعر إذا صار فماً دون قضيّة

ما الذي يبقى إذا صار كورد المزهرية

في بلاط المترفين

أيها الحرف الأمين

لتكن سيفاً بصدر الظالمين .

كما نلحظ التزامه الإسلامي في تعبيره عن نفسه من خلال شخصيات قصائده :

  هذا نشيدي شقّ أروقة الفضاء :

حريتي نعمتي

ديني أنا كينونتي

أنا نجمة الصبح التي تهدي الورى سبل السلام .

أنا مسلم وحقيقتي :

أن أحمل النور الذي جلاه صوت الأنبياء إلى الوجود .

فهذه هي رسالة الشاعر ، وهي نفسها رسالة المسلم في كل زمان ومكان ، أن يكون داعية سلام ، يحمل نور النبوة إلى سائر الأنام .

كما يظهر التزام الشاعر في تأثره بكلمات القرآن الكريم وتراكيبه وصوره ، كقوله :

وهتفت : سيري يا جبال وأوّبي .

وقوله :

أين آتيلا ونيرون وفرعون ؟ تماروا بالنذر

فإذا هم كهشيم المحتظر

إن ربّي أخذه أخذ عزيز مقتدر .

وفي هذه الصور البديعة :

يا محمد

دع عيون القمر الناعس تشهد

دع شفاه النَّهَر الظمآن تشهد

مولد الفجر على ساعد شيخ يتعبّد

مثل بلقيس التي أبصرت الحقّ وقد لامست الصرح الممرّد .

وهذه الأنفاس الإيمانية المتفائلة أبداً :

يا محمد

اُحدُ باسم الله ، ضع رجليك في عزّ الركاب

إنها قافلة الإيمان لا تخشى الذئاب .

وأخيراً :

ماذا أنقل من هذا الديوان وماذا أدع ؟

هل أنقله كله في هذا المقال، لأني أريد لسائر القرّاء أن يقرؤوه ويفهموا مغازيه ويستمتعوا بصوره وموسيقاه الحزينة حيناً ، الثائرة حيناً آخر ؟ وأن يعرفوا حدود المأساة .. حدود الحريق الذي شبّ في وسط أوربا المتحضّرة أوربا الديمقراطية التي رفعت الصليب، وسار (فرسانها) الصرب الذين لا يحملون في رؤوسهم وقلوبهم نخوة الفرسان ساروا تحت الصليب من جديد، فأجهزوا في بداية هذا القرن على وحدة الأمة، ومزقوا شملها، واغتصبوا أرض الأنبياء وأسكنوا فيها أوباش البشر …