سيد قطب ناقداً.. أيضاً
سيد قطب ناقداً.. أيضاً
بقلم : محمد الحسناوي
من الظلم للحقيقة والأدب والصحافة أن يستخفّ أديب صحفي بعقول القراء ، فيعمد إلى طرق ملتوية وأساليب مبتسرة ليصل إلى هدف غير مشروع حدّده مسبقاً ، ألا وهو النيل من إنسان بريء ، بله أن يكون علماً من أعلام النهضة ، مما يؤدي به – عالماً أو غير
عالم
– إلى تقويض ركـن من أركـان
كتب محيي الدين اللاذقاني في زاويته مقالة بعنوان : ( سيد قطب ناقداً ) (جريدة الشرق الأوسط 15/3/2002 ) ، رمى بها المرحوم سيد قطب بالتعصب في نقده الأدبي ، مما ينعكس اتهاماً لسيد قطب بالتعصب أيضاً في مؤلفاته الفكرية ، لأن الذائقة الفنية لدى سيد قطب هي مفتاح شخصيته الفنية ، التي انتهت به إلى تذوق جماليات الفن القرآني الكريم ، وإلى بناء تراثه الضخم بعد ذلك في مكتبته القرآنية ، التي افتتحها بكتابيه المتميزين ( التصوير الفني في القرآن ) و( مشاهد القيامة في القرآن ) ، وختمها أو توّجها بمجلدات كتابه الضخم ( في ظلال القرآن ) في ثلاثين جزءاً .
كيف فعل اللاذقاني فعلته ، ولم فعلها ، وهل كان يدري ما يفعل ؟
أولاً : اختار الكاتب مؤلفاً واحداً من مؤلفات سيد قطب ، وأهمل عامداً كتبه الكثيرة ‘ التي هي بالعشرات ، لاسيما كتبه في النقد الأدبي غرض المقالة وعنوانها ، ففي تنظيره للنقد الأدبي له كتاب مشهور ، ضمّنه نظريته النقدية ( المذهب التكاملي في النقد ) . وعنوان الكتاب ( النقد الأدبي أصوله ومناهجه ) ، لا يجهله الشداة في الأدب ، فضلاً عن الكتاب المحترفين ، وقد أثنى عليه النقاد الكبار مثل الدكتور إحسان عباس الذي تحدث عن سيد قطب الناقد بإسهاب وإعجاب واصفاً إياه ب ( الناقد الثقف اللقف ) . ولسيد في النقد التطبيقي مئات الدراسات ، مثل كتاب ( كتب وشخصيات ) ، بل إن مكتبته القرآنية في رأينا ، هي قمة النقد الأدبي التطبيقي في أدب سيد والأدب العربي بعامة ، قديمه وحديثه . فلماذا أغفل كل هذا صاحب المقالة ؟
ثانياً : أما الكتاب الذي اختار صاحب المقالة الحديث عنه وحده ، فهو ( مهمة الشاعر في الحياة ) ، قائلا ًعنه :هو( أول مؤلفاته وأهمها ) .أما أنه أول مؤلفاته زمنياً ، فهذا صحيح ، وأما أهمها ، فهذه طعنة مقصودة ، لأن الكتاب ليس إلا محاضرة كان ألقاها سيد قطب على زملائه حين كان طالباً جامعياً في ( كلية دار العلوم ) ، وهو في مطلع حياته الأدبية ، ثم تخلى عنها ، ولم يعد يذكرها في قائمة كتبه التي أصدرها فيما بعد . ومن المعلوم أن الكتاب الأول زمنياً لأيّ أديب أو ناقد لا يتوقع أن يكون أفضل مؤلفاته ولا أهمها ، فكيف إذا كان طالباً جامعياً . وسبب تضخيم كاتب المقالة لهذا الكتاب المحاضرة هو لتسهيل الطعن بكل مؤلفات الرجل . والمعلوم أن كتاب سيد ( التصوير الفني في القرآن ) منحت به شهادة ماجستير ، وكتابه ( في ظلال القرآن ) منحت به شهادة دكتوراة ، وكلتاهما للباحث الأردني عبد الفتاح صلاح الخالدي . وهذان مؤشران علميان على أن ( مهمة الشاعر في الحياة ) ليس أهم كتبه .
ثالثاً : أهم مأخذ يطعن به صاحب المقالة .. هي تهمة تعصب سيد قطب لشعر أستاذه عباس محمود العقاد ضد شعر أحمد شوقي ، ثم الحطّ من قيمة الشعر العربي الجاهلي . والحقيقة أن سيد قطب لم يقل رأيه في الشعر الجاهلي لأنه ( جاهلي ) ، بل لأنه ( شعر صحراوي ) محدود البيئة ، جاهلياً كان أو غير جاهلي . ( انظر مهمة الشاعر في الحياة ص78- ط عمان وبيروت) . وهذا لم يمنعه من الإشادة به ، فيقول : ( ولئن فات الشعر في هذا الوقت جمال التناسق والعمق والالتئام ، فقد كان له جمال آخر ، هو جمال السذاجة البريئة – ص80 ) ، وهذه – كما هو معلوم – أخصّ خصائص الشعر الجاهلي . أما ثناء سيد قطب على عدد من الشعراء مثل عبد العزيز عتيق ومحمود عماد – وهو يصفهم بشعراء ناشئين – فلأسباب منها أن عنوان الكتاب بالضبط هو ( مهمة الشاعر في الحياة وشعر الجيل المعاصر ) ، ولأن سيداً نفسه كان يشن حملة أدبية على كبار الأدباء ، الذين يتعالون على الأدباء الناشئين من جهة ، ولأن مذهب الرجل الفني آنذاك هو( مذهب مستقبلي ) من جهة ثاني ، يقول مثلاً : ( وإننا نعتقد أن المثل الأعلى للشعر وغير الشعر ، إنما هو في المستقبل ، لأن الكمال أو ما يقاربه يتراءى في الأمام ، وقد نكون اليوم أقرب إلى هذا المثل من العصور السابقة.. ص 28) .
أما تعصب سيد قطب للعقاد وشعره ، فقد تراجع عنه لما بلغ مرحلة النضج ، وإن كان من قبل لا يسلّم له كل التسليم ، ( وفي بداية عام 1948أعلن انفصاله عن العقاد نهائياً ، وخروجه عن مدرسته الأدبية واستقلاله بفهم الشعر والأدب والبلاغة والفن ، فهماً يخالف فيه العقاد ومدرسته) ، يقول في ذلك : ( لقد آن لنا أن نفهم الشعر لا على طريقة شوقي وحافظ والمنفلوطي ، ولا على طريقة مدرسة العقاد وشكري والمازني . فكلتاهما مرحلتان من مراحل التطور ، قامتا بدوريهما في النهضة ، وآن أن يخلفهما فهم للشعر جديد ... ولم أجد نفسي إلا منذ عامين اثنين .. أنتبه إلى الفارق الأصيل بين الفكرة الجميلة والشعور الجميل .. وأجد للشعر مذاقاً غير ما سبق لي أن أحسسته نحو خمسة عشر عاماً أو تزيد ) ( انظر مجلة الكتاب شباط 1948، وكتاب سيد قطب لصلاح عبدالفتاح الخالدي ص 132و133 – ط1 ). والذي يعلن تراجعه على الملأ صراحة ويعترف بذلك ، هل يتهم بالتعصب ؟ وإذا لم يكن اللاذقاني يعلم هذه المعلومات – وقد علمها الآن – فهل يعتذر عما اقترفت يداه ؟ وعلى كل حال يبشر سيد قطب بالشعر الجديد على أيدي كوكبة من شعراء العراق ( نازك الملائكة وبدر شاكر السياب ) في كتابه ( النقد الأدبي – أصوله ومناهجه ) ، فهل يجهل اللاذقاني كل هذه المعلومات؟ ما نظن !
رابعاً : أما اتهامه سيد قطب بالتعصب العقائدي ، فيزعم الكاتب أن ( تلك مسألة أطال فيها الأصوليون والمتنورون ) أي هي مسألة مفروغ منها! وللعلم إن الذين ينالون من فكر سيد قطب هم ( جماعة الأحباش ) في شمال الوطن العربي ، و( التكفيريون ) في جنوبه . أما الأحباش فقد تحدث عنهم مؤلفا كتاب ( الحركات الإسلامية ) محمد جمال باروت والدكتور فيصل دراج : ( ظاهرة قائمة مادامت الأنظمة تحارب الإخوان المسلمين ، فإذا انتهت الحرب انتهت الظاهرة ) ، وأما الآخرون فقد تكفل بهم الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد .
خامساً : حين اتهم الرجل بتعصبه غير المتوازن ضد أمريكا لم يوضح ما ذهب إليه ، أو يبرهن على دعواه ، بل لم يسمّ الكتاب الذي كتبه سيد بعنوان( أمريكا التي رأيت) ، فيكون ذلك حكماً فصلاً لمن أراد التأكد من صحة التهم ، لأن الرجل درس المجتمع الأمريكي بموضوعية ، كلفته فيما بعد ضريبة غالية جداً . وهذا التصرف من اللاذقاني لا يجانف المناهج العلمية في البحث ، بل يدخل في نطاق الريبة . وهكذا نكتشف الذنب الحقيقي لسيد قطب لدى اللاذقاني وأمثاله ، هو أن الرجل لم يتذوق عوار المجتمع الأمريكي ، بل ذهب إلى حدّ الكشف المبكر عما يسمى ( الإسلام الأمريكي ) أي الإسلام الذي لا حول له ولا طول !
سادساً : يدعو اللاذقاني في ختام مقالته إلى توسيع ( مساحة التسامح) ، والسؤال هل عمله الذي فصّلناه يدخل في التسامح أم في عكسه ؟ أيمهما المتسامح حقاً ؟ الذي ينتصر للإسلام الحنيف ومجتمعه الإنساني ، أم الذي ينتصر للقرامطة والحشاشين ؟