دراسة نقدية لرواية "عُرس الزين" 2
دراسة نقدية لرواية "عُرس الزين" (2-4)
د. نهى الزيني
حين ينتقل السارد من مستوى الظاهر المرئي النهائي إلى مستوى الباطن اللامرئي واللانهائي يصبح التضاد أكثر حدة بين مانحسه ونراه وماهو مخبوء يحتاج الكشف عنه إلى قوة روحية كبيرة ، حينئذ يوشك التضاد أن يلامس ذرى الحقيقة :
* فالزين الدميم في ظاهره ينطوي باطنه على جمال يستشعره من حوله حتى وهم لايرونه ظاهرياً (كانت للزين صداقات عديدة من هذا النوع مع أشخاص يعتبرهم أهل البلد من الشواذ مثل عشمانة الطرشاء وموسى الأعرج وبخيت الذي ولد مشوهاً ليست له شفة عليا ، جنبه الأيسر مشلول ، كان الزين يحنو على هؤلاء القوم) وربما كان الولي الحنين هو من لفت أنظار أهل القرية إلى ذلك الجمال الباطني (فكل أحد يعلم أن الزين أثير عند الحنين والحنين ولي صالح وهو لايصادق أحداً إلا إذا أحس فيه قبساً من نور) حتى نكاد نلمح تماهياً من خلال النص بين شخصية الزين بما أوتي من قوة الباطن وجماله وبين شخصية الولي الصوفي ، فكلاهما يُلقب بالمبروك (في البلد إنسان واحد يأنس إليه الحنين ويهش له ويتحدث معه – ذلك هو الزين ، كان إذا قابله في الطريق عانقه وقبله على رأسه وكان يناديه "المبروك... ويحاول أهل البلد أن يعرفوا من الزين سر الصداقة التي بينه وبين الحنين فلا يزيد على قوله : "الحنين راجل مبروك"... لكن صوت الحنين ارتفع هادئاً وقوراً فوق الضجة : "الزين ، المبروك ، الله يرضى عليك) وعندما يغضب الزين حتى يكاد يقتل سيف الدين ويقول محجوب عنه باحتقار (منو البتعرس البهيم دا) فإن رد فعل كل من الحنين والزين على هذه العبارة الجارحة يحمل دلالة تبادل الأدوار بين الزين في أشد حالات غضبه والولي بهدوئه المعتاد وكأنما الباطن – لا الظاهر- هو مناط التفاعل (ونظر الحنين إلى محجوب نظرة صارمة ارتعدت لها فرائض محجوب لولا أنه تشجع وقال : الزين مو بهيم الزين مبروك ، باكر يعرس أحسن بت في البلد ، وفجأة ضحك الزين ضحكة بريئة ، ضحكة طفل) ، لذا فرغم تعجب أهل القرية من خبر الخطبة فإنهم تقبلوه بفرحة من تكشفت له أسرار الباطن (خلاصة القول إن حاج ابراهيم أعلن النبأ فجأة وكأن الناس كانوا يتوقعونه بعد حادث الحنين ، الغريب أن أحداً لم يضحك أو يسخر ولكنهم هزوا رؤوسهم وزادت حيرتهم وهم ينظرون إلى الزين ، ينظرون إليه فيتضخم في نظرهم ) وحين يصبح الباطن ظاهراً فتتكشف كرامات الحنين حين دعا لهم قائلاً (ربنا يبارك فيكم ربنا يجعل البركة فيكم) فيحل الرخاء على البلد وعلى الثمانية الذين دعا لهم حتى أطلقوا على ذلك العام "عام الحنين" (بعد ذلك توالت الخوارق معجزة تلو معجزة بشكل يأخذ باللب ، لم تر البلد في حياتها عاماً رخياً مباركاً مثل عام الحنين ... أسعار القطن ارتفعت ارتفاعاً منقطع النظير في ذلك العام والحكومة لأول مرة في التاريخ سمحت لهم بزراعته بعد أن كان ذلك وقفاً على مناطق معينة في القطر... عبد الحفيظ يعلم السر فهو يقول لمحجوب وهو يجمع بين عينيه الحقل الواسع الذي هو حقله والريح تلعب بالقمح فتثني صفوفه فكأنه حوريات رشيقة تجفف شعرها في الهواء "معجزة يازول مافي أدنى شك") حين ينكشف السر يجئ أوان الرحيل فيموت الحنين ويلج الزين في لحظة العرس إلى عالم الذكورة (وكان الزين يبدو مثل الديك ، لا بل أجمل ، مثل الطاووس ، ألبسوه قفطاناً من الحرير الأبيض ومنطقوه بحزام أخضر وعلى ذلك كله عباءة من المخمل الأزرق فضفاضة يملأها الهواء فكأنها شراع ، وعلى رأسه عمامة كبيرة تميل قليلاً إلى الأمام ، وفي يده سوط طويل من جلد التمساح ... وفار المكان فكأنه قدر تغلي لقد نفث فيه الزين طاقة جديدة ، وكانت الدائرة تتسع وتضيق تتسع وتضيق والأصوات تغطس وتطفو والطبول ترعد وتزمجر ، والزين واقف في مكانه في قلب الدائرة بقامته الطويلة وجسمه النحيل، فكأنه صاري المركب)
* ونعمة القوية المستقلة الحاسمة في ظاهرها ينطوي باطنها على أنوثة ناعمة وأمومة مخبوءة تنتظر فرصة التضحية لتتجلى في أروع صورها (كانت تؤثر مما حفظته سورة الرحمن وسورة مريم وسورة القصص وتشعر بقلبها يعتصره الحزن وهي تقرأ عن أيوب وتشعر بنشوة عظيمة حين تصل إلى الآية "وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا" وتتخيل رحمة امرأة رائعة الحسن متفانية في خدمة زوجها وتتمنى لو أن أهلها أسموها رحمة ، كانت تحلم بتضحية عظيمة لاتدري نوعها ، تضحية ضخمة تؤديها في يوم من الأيام) لذا لم تكن كالفتيات اللاتي يرسمن في خيالهن صوراً لفارس الأحلام (فلم ترتسم في ذهنها صورة محددة ، كبرت وكبر معها حب فياض ستسبغه يوماً ما على رجل ما قد يكون الرجل متزوجاً له أبناء يتزوجها على زوجته الأولى ، قد يكون شاباً وسيماً متعلماً أو مزارعاً من عامة أهل البلد مشقق الكفين والرجلين من كثرة ماخاض وضرب المعول ، قد يكون الزين) والزين يمثل لنعمة الطفل اليتيم المحتاج لرعايتها وتضحيتها (وحين يخطر الزين على بال نعمة تحس إحساساً دافئاً في قلبها ، من فصيلة الشعور الذي تحسه الأم نحو أبنائها ، ويمتزج بهذا الإحساس شعور آخر بالشفقة ، يخطر الزين على بالها كطفل يتيم عديم الأهل في حاجة إلى الرعاية) لذا فإننا نلمح من خلال النص تماهياً بين شخصية نعمة وشخصية أم الزين فكلتاهما تشعر بحاجته إلى الرعاية ( ثم إن الزين كان ابنها الوحيد ، بل كان كل ماأنجبت ، ولم يكن كبقية الناس فخافت أن تموت ولايجد من يرعاه... يخطر الزين على بالها كطفل يتيم عديم الأهل في حاجة إلى الرعاية) حتى تجئ لحظة العرس فنجد نعمة وقد اختفت تماماً من المشهد تاركة مكانها للأم وكأنها أصبحت هي نفسها الأم (أول من زغردت أم الزين ... وتزغرد أم الزين فيرد عليها النساء وتسمع زغاريدهن فتزغرد من جديد... وأدار عينيه في الرجال المجتمعين كانت أم الزين المرأة الوحيدة بينهم)
لذا فإن لحظة التنوير في الرواية تسلط الضوء باهراً على ذلك الجمال المخبوء في الباطن إذ عند قمة التضاد يحدث الالتقاء بين : الزين/نعمة ، اليتيم/الأم ، الذكر/الأنثى ، وعندما يظهر الزين في عرسه مرتدياً عمامته حاملاً سوطه منتصباً كصاري المركب يعد ذلك دلالة على ولوجه إلى عالم الذكورة حيث يهيمن وجوده على المشهد ، وحينها تتراجع الأنثى طواعية إلى دائرة الظل ......... (يتبع) ..