خاتِمَةُ التَّعْليقاتِ 2
خاتِمَةُ التَّعْليقاتِ 2
د. محمد جمال صقر
في مثل هذا اليوم ( 20/3/1966م ) ، وُلِدْتُ من ثلاث وأربعين سنة شمسية ، بطَمَلايَ مِنْ أعمال مَنوفَ بالمنوفية من محافظات جمهورية مصر العربية ، لأسرة سوهاجية الأصل الأول - فنُقِلْتُ لأبي بِضْعَ عَشْرَةَ سنة إلى بني سويف ، ثم تُرِكْتُ للتلمذة سَنَتَيْنِ بطملاي ومنوف ، ثم أُخِذْتُ لأبي سَنَتَيْنِ إلى المملكة العربية السعودية ، ثم أَقَمْتُ للجامعة أَرْبَعَ سنوات بالقاهرة ، ثم حُبِسْتُ للجيش سَنَةً بصحراء القاهرة ، ثم أقمت لتمهيدية الماجستير ثَمانِيَةَ أَشْهُرٍ بالقاهرة ، ثم أقمت لأسرتي سَبْعَ سَنَواتٍ بمنوف ، ثم شَخَصْتُ للعمل سِتَّ سَنَواتٍ إلى جامعة السلطان قابوس بمسقط من سلطنة عمان ، ثم أقمت للعمل خَمْسَ سَنَواتٍ بالقاهرة ، خَلَّلْتُها بزيارة للعمل تِسْعَةَ أَشْهُرٍ على مرتين إلى جامعة السلطان قابوس نفسها ، ثم ها أنا ذا أقيم للعمل بالمدينة المنورة ، على جاري فيها صلاة الله وسلامه !
والانقطاعُ مِنَ التَّنَقُّلِ ؛ فلا يمسك بأصدقاء ولا أهل " إِلّا كَما تُمْسِكُ الْماءَ الْغَرابيل " ، كما قال كعب ! بل ربما كان منه " التَّوَحُّدُ " ، الذي يعيش به صاحبه بين الناس غريبا عنهم ، وصار مرض العصر ! فلا ريب إذا ظهرت الكتب في أثناء ذلك ، أن تستولي على المتنقل الغريب استيلاء الأقرباء الأَحِمّاء ، وتستغرقه استغراق الأصدقاء الأوِدّاء ؛ فيعيش في متونها وعلى حواشيها ، يقرأ عليها كما تقرأ عليه ؛ فيستغرقها كما تستغرقه !
أجل ! ولا سيما إذا نَدَّتِ اتصالاتٌ مَعْدوداتٌ ، فلم تُجْدِ على المُتَنَقِّلِ الغَريبِ ، إلا المراء أو الخداع ، حتى ببعض أصحاب الكتب التي أحبها ؛ فيستغني بكتبهم عنهم ، كما وَصّى أبو عثمان الجاحظ في بعض ما نقلته وعلقت عليه !
ولأمر ما تمسكتُ على ظهر غلاف كل كتاب تَعْليميٍّ أضعه لتلامذتي ، بطباعة هذا الخبر :
" قالَ لَه أَبو أَيّوبَ : يا أَبا عَبْدِ اللّهِ ، سُبْحانَ اللّهِ الْعَظيمِ ! تَخَلَّفْتَ عَنّا ، وَحَرَمْتَنا الْأُنْسَ بِكَ ! وَلَقَدْ قالَ لِيَ الْغُلامُ إِنَّه ما رَأى عِنْدَكَ أَحَدًا ، وَقَدْ قُلْتَ لَه أَنَا مَعَ قَوْمٍ مِنَ الْأَعْرابِ ، فَإِذا قَضَيْتُ أَرَبي مَعَهُمْ أَتَيْتُ ! قالَ :
لَنا جُلَساءٌ ما نَمَلُّ حَديثَهُمْ أَلِبّاءُ مَأْمونونَ غَيْبًا وَمَشْهَدا
يُفيدونَنا مِنْ عِلْمِهِمْ مِثْلَ ما مَضى وَعَقْلًا وَتَأْديبًا وَرَأْيًا مُسَدَّدا
بِلا فِتْنَةٍ تُخْشى وَلا سوءِ عِشْرَةٍ وَلا نَتَّقي مِنْهُمْ لِسانًا وَلا يَدا
فَإِنْ قُلْتَ أَحْياءٌ فَما أَنْتَ كاذِبٌ وَإِنْ قُلْتَ أَمْواتٌ فَلَسْتَ مُفَنَّدا " !
وكأنني أوصيهم أن يَتَعَلَّقوا بالكُتُب لا الكُتّاب ، كما أوصيهم أن يتَعَلَّقوا بالحَقِّ لا الناس ؛ فإنهم إذا قَرَؤوا الكُتُب عرفوا الكُتّاب ، كما إذا عرفوا الحَقَّ عرفوا أهله !
وعلى رغم أنني أرى أن ذهن القارئ أصعب حضورا واجتماعا من ذهن الكاتب ، أحب دائما أن أشبه قراءة الكتب بمشاهدة السينيما ، وأدعي أن الماهر بإحداهما ماهر بالأخرى ، أو أن القدير على إحداهما قدير على الأخرى ، ولا سيما بعدما تداخلت الفنون ، وأغارت الكتابة والسينيما كل منهما على الأخرى ؛ فتَكَتَّبَتِ السّينيما وَتَسَيْنَمَتِ الْكِتابَةُ ، حتى اقترحتُ من قديم على اللجنة الثقافية بكلية الآداب من جامعة السلطان قابوس - وكنت أحد أعضائها - أربع أفكار محاضرات ، ثالثتها : " مُسْتَقْبَلُ الْقَصيدَةِ بَيْنَ فَيْلَمَةِ الشِّعْرِ وَشَعْرَنَةِ الْفيلْمِ : جَدْوى تَداخُلِ الْفُنونِ " ، على أن يُشارِك فيها أستاذي الدكتور أحمد درويش ، وزميلي الأستاذ الدكتور خليل الشيخ ؛ فكانت دون غيرها أحظى بثناء بعض الأعضاء !
ورحم الله أستاذنا محمود محمد شاكر ، الذي وَلِعَ بالقراءة كما وَلِعَ بالسينيما ، وشواهدي أنا على مهارته بهما كثيرة ، ولكنني أستطرف ما ذَكَرَتْه بكتابها عنه ، الأستاذةُ الكاتبة عايدة الشريف ، التي زارته مرةً أظنها أول مرة ، ففتحت لها البابَ أمُّ فهر ، ودخلت بها ، فوجدت أستاذنا على كرسيه في صدر مجلسه يقرأ ، فتحرجت حرجا شديدا أن تكون قطعت عليه وآذته - وكان مَهيبًا - فهَوَّنَتْ عليها أمُّ فهر بأنه إذا قرأ غاب عما حوله !
لكأنه يدخل الكتاب الجيد ويغلق خلفه ، كما يدخل الفيلم الجيد !
إنني لشديد الشوق إلى الكتاب الجيد ، مثلما أنا شديد الشوق إلى الفيلم الجيد ؛ إذا شاهدت الفيلم الجيد كنت فيه كممثليه ، أجد مثلما يجدون ، وأقول فيه وأفعل مثلما يقولون ويفعلون ، وربما أظهرت ذلك لنفسي وغيري ! وإذا قرأت الكتاب الجيد كنت فيه ككاتبه ، أجد مثلما يجد ، وأقول فيه وأفعل مثلما يقول ويفعل ، وربما أظهرت ذلك لنفسي وغيري !
إنه انجذاب يَتَخَلّى فيه المشاهد والقارئ كلاهما عن أسباب واقعهما الرديء ، ليَتَحَلَّيا بأسباب الفيلم والكتاب الجيدين - استنكره عليهما ناسٌ وكأنهما مريضان هاربان من مستشفى الأمراض العقلية ، ونعوه عليهما وكأنهم هم أطباء المستشفى ، وهما - لو عقلوا - في مقام من حسن المشاهدة والقراءة ، لا يعرفه غيرهما !
لقد أُعَلِّقُ نفسي على نسختي من الكتاب الجيد ، من يمين كاتبه تارة وشماله وأمامه وورائه ، رِضًا وطَرَبًا ومُعارَضَةً ، وكأنني من طبقته ، أستطيع ما يستطيعه ، مثلما يتكاثر الدهماء على الحكيم وكأنهم من طبقته - ! - :
فَإِذا أَبْصَرْتَني أَبْصَرْتَه وَإِذا أَبْصَرْتَه أَبْصَرْتَنا
أَيُّهَا السّائِلُ عَنْ قِصَّتِنا لَوْ تَرانا لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَنا