عندما غسل رشدي العامل همومه بالمطر

عندما غسل رشدي العامل همومه بالمطر

د. صدام فهد الأسدي

[email protected]

فتح رشدي عينيه طفلاً على الطبيعة في بيئته الأولى (عانة) تلك المدينة النائية على ضفاف الفرات بنواعيرها وأشجارها ونخيلها الباسق وسمائها الصافية فأحبها وهام بها ورسخت في عينيه مناظرها الجميلة وعند انتقاله إلى بغداد رأى جمالاً ساحراً على ضفاف دجلة فأكتملت البيئتان في رؤيا الشاعر ، والطبيعة ليست غريبة عليه زد على ذلك وزياراته إلى البصرة مدينة النخل ، وغربته في مصر وجمال نيلها ورحلته إلى أسبانيا ومروره بالبحر ثم قراءته لشعراء المهجر وحبهم للطبيعة إضافة لكون الشاعر صاحب نفس مطبوعة وراغبة في التجديد والابتكار . وهو يرى في الزهور التي لم تفتح أكمامها بعد أجمل الهوايات وعندما لا تولد القصيدة يبقى لديه الأطفال والزهور بديلاً ) (1)

وعندما تتحدث إليه غيمة ماذا يبادلها وهو لا يعرف لغتها فكان يقول :

سأقول لها

هات عصفوراً وسنبلة وزهرة ([2])

كانت نظرته إلى الطبيعة شاملة يهتم بمفاتنها البسيطة ويجعل من نفسه جزءا منها وإن وحدته وكآبته الدائمة ومزاجه الرومانسي جعله يندمج معها بما يشبه الحلول حتى أمسى هيامه فيها له حدود ، وكان الذي يقرأ بداياته الشعرية يتصور إنه شاعر يختص بالطبيعة وما نكاد نجد قصيدة تخلو من ذكر عناصرها إلاّ ما ندر ومثلما كان الحزن رفيقة الدائم كانت الطبيعة أيضاً ، وإن دواوينه الثمانية تزدحم بمفرداتها والرائع عنده كأنه نظم تلك الدواوين بنفس متصل وشعر واحد كما يرى الناقد حاتم الصكر (رشدي لم يكتب إلاّ قصيدة واحدة يغنيها بألف صوت والف مفردة )([3]).

وعن بدايات رشدي مع الطبيعة ما جاء في ديوانه الأول (همسات عشتروت ) عام 1951 فقد اتخذت من الطبيعة مدخلاً ليصل إلى غرض الغزل يستعين بها على وصف مشاعره فهي شاهد على صبابته وسهره ، تشاركه في لقائها تباريح الهوى . فيبدأ بالطبيعة ثم يذكر غرض الغزل سائراً على الطريقة التقليدية .

انظر قوله في قصيدة حرمان :-

ظلال الحياة .. ظلال الدجى
سحب  السماء بعالي الفضاء
ولـيـل  بـهيم يلف iiالحياة
وبـحـر يـثـور iiبأمواجه
ورمـل كـثير على iiشاطئ




تـهـوم  فـي لحنها iiالموعد
وتـحـوم من جودها iiالأسود
ونـجـم  بأفق الدجى iiالأبعد
ويـمشي على غير ما iiمقصد
نـعـومته  كالفتى الأمرد ii4

وهو ينقل لنا تلك الصورة الجاهلية التي نظر اليها امرؤ القيس في وصف حبيبته وهي تدخل الماء مع صديقاتها, وبعد هذه العناصر المتسلسلة للطبيعة يصل الشاعر إلى وصف المرأة ، يقول :

وألقت ملابسها في العراء       وراحت إلى المنهل البارد

ويحس الشاعر بالتقارب والتشابه بين الحبيبتين الأرض والطبيعة فيشير إلى المكان الذي نشأ فيه وهو (عانة) في قصيدة حنين :

تراها  تمد شراع iiالخيال
تساءل  عنه بعيد iiالنجوم
أما ذكر التمتمات القصار
وإلاّ  بـقايا رماد iiالسنين



وتبحث في الظلمة الداجيه
وتـنظر  تستطلع iiالرابيه
وأعـيـنها  نحوها iiرانيه
وريح تجررها (عانيه) ii5

وتتجلى روحه في تغلغل روح الطبيعة في شعره الغزلي ووصف محاسن المرأة عندما يرسم ذكرياته الجميلة ممتزجة بالطبيعة الساحرة فيشخص المكان الجميل قائلاً في قصيدة (وهم) :

لقاءاتنا في الليالي الخوال

وماضي الهوى أخيال .. خيال

وأحلامنا قرب ذاك الغدير

إذا البدر نور فوق التلال

لقاءاتنا والسكون العميق

إذا شمنا أو طوتنا الليال

وصوتك أما أردت الرجوع

تعال بقربي هيا تعال([6])

وكلما يستذكر حبيبته في لحظات هنيئة تقف الطبيعة مشاركة (البدر ، الغصون ـ الغدير) فيربط بين محاسن الطبيعة ومحاسن حبيبته وقد وظف فيها مفردات الطبيعة ضمن مضامين شعره المتنوعة كقوله :

كنت  بالأمس  شاعراً  أتغنى          في ينابيع   حسنك   الفتان

قد ملأت الأكوان حباً وشعراً          فجرت فيه رائعات الأغاني7

ويشبه النهدين بإضمامة الورد وعبير المسك وغفوتها مثلما تغفو الوردة قائلاً :

نهداك يا أضمامة الورد

ويا عبير المسك والند

يا رعشة تسري بأوصالنا

وهوة تنأى عن الرشد

يا غفوة العذراء تطفو على

جبينها إيناعه الورد

نهداك يا برعمة فتحت

أكمامها من فتنة تسبي([8]) .

ويربط بين نهدها حين يكون ممتلئا بالحنين مثل الغصن الممتلئ بالورد والزهر والحلم

 نهــــداك في روعتها عالم          بالخير   مملوء   وبالشر

 يا غصن حب في الهوى مورق         بالورد والأحلام والزهر9

ويبحر رشدي في أسرار الجمال الألهي الأزلي واصفا الأبداع الآلهي على طريقة المتصوفين قائلاً في القصيدة ذاتها :

نهداك يا مرآة طرف سها          في غفوة صورها ربى

يا  خاطراً يسبح في عالم          عبر عنه الله بالحب 10

وقوله في قصيدة أخرى :

عن الحب همسات الربيع          عن  الموج عن لجة طاميه

ينقلها حيث  شاء  الخيال          قعيدا ويدنو بها ساهيه 11

وكلما خطأ رشدي إلى الأمام كبرت عنده الطبيعة فيأنس بها بنزوع رومانسي حالم بكل مظاهرها ، فالليل أكثر ما يأخذه سبيلاً لأنطلاق مشاعره الذاتية وتوليد تأملاته فيراه كابوساً ثقيلاً يبعده عن أحبته لذا يعدد صفاته (قسوة الليل – صمت الليل – عتمة الليل – هموم الليل – سبات الليل – سراب الليل ) ([12]) .

ولذلك يشخص لليل صفات الإنسان (كف الليل - ضلوع الليل - صدر الليل - عيون الليل - عروق الليل) ([13]) .

ويستعين بالليل ليعبر عن ذاته الحزينة ويحس خلاله بالخوف والرعب والقلق خاصة عند سنتصف الليل قائلاً :

ينتصف الليل .. يظل الجرس الأعمى مشلولاً

والخطوات تغيب عن الدرب([14])

وقوله في قصيدة من الأوراق المطوية ..

وراء سور العشق يا راحلة الجبين

إني أذن عرفت ، نصف الليل ، إنني حزين([15]) .

ويخاف من زحف الليل ورياحه عندما تهب :

هل ترتجفين الآن

في هذا الليل الزاحف فوق الجزر المنسية

وأنا وحدي ، أحلم بالخصلات المرخية([16]) .

فتبرز من خلاله وحدته القاتلة فيخشى الغربة فيه فيكثف معاناته باستعماله رموزاً خاصة بذاته .. (ليل الغربة ، ليل الليل ) ، وقد يأخذ الشاعر من كلتا الطبيعتين ويركب منهما تركيباً مجازيا مثل شراع الليل – ثلوج الليل شخص الليل – سراب الليل – غابات الليل([17])، ويكره صمت الليل المخيف الذي يزحف ويلف الكون بالخوف:

زحف الليل يلف الكون في صمت رهيب

فادن من قلبي مع الليل لنشدو يا حبيبي([18])

ومن الليل يختار من يشاركه سهره ومعاناته فهو الذي يحمل شعاراً ثابتاً.