تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ = 83

تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ = 83

مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها

[ تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ " أَسْرارُ الْبَلاغَةِ " لِعَبْدِ الْقاهِرِ الْجُرْجانيِّ ]

د. محمد جمال صقر

[email protected]

قالَ

قُلْتُ

نَظيرُ هذا ( وضع حد بين الحقيقة والمجاز جامع مانع ) نَظيرُ أَنْ تَضَعَ حَدًّا لِلِاسْمِ وَالصِّفَةِ .

لما وجدت سيدنا يقول : " نَظيرُ كَذا كَذا " ، كما يأتي بعدُ - ذاكرت أستاذنا في زيادة " نَظيرُ " الثانية ؛ فتوقف ، ولم يقطع برأي ، حتى يراجع المخطوطة . ولم يكن لي أن أستغربه ولا فرق بينه وبين قولهم : مَثَلُ هذا مَثَلُ كَذا ، في جوازه هو وأن يقولوا : مَثَلُ هذا كَذا ؛ ولا سيما أن من كلام الحق - سبحانه ، وتعالى ! - : " مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا " ، وصدق أبو الطيب :

" وَلَمْ أَقُلْ مِثْلُكَ أَعْني بِه سِواكَ يا فَرْدًا بِلا مُشْبِه " !

نَظيرُ هذا قَوْلُهُمْ في صِفَةِ راعِي الْإِبِلِ : إِنَّ لَه عَلَيْها إِصْبَعًا ، أَيْ أَثَرًا حَسَنًا ، وَأَنْشَدوا :

ضَعيفُ الْعَصا بادِي الْعُروقِ تَرى لَه عَلَيْها إِذا ما أَجْدَبَ النّاسُ إِصْبَعا

وَأَنْشَدَ شَيْخُنا - رَحِمَهُ اللّهُ ! - مَعَ هذَا الْبَيْتِ قَوْلَ الْآخَرِ :

صُلْبُ الْعَصا بِالضَّرْبِ قَدْ دَمّاها

أَيْ جَعَلَها كَالدُّمى فِي الْحُسْنِ . وَكَأَنَّ قَوْلَه : " صُلْبُ الْعَصا " ، وَإِنْ كانَ ضِدَّ الْآخَرِ : " ضَعيفُ الْعَصا " ، فَإِنَّهُما يَرْجِعانِ إِلى غَرَضٍ واحِدٍ ، وَهُوَ حُسْنُ الرِّعْيَةِ وَالْعَمَلُ بِما يُصْلِحُها وَيَحْسُنُ أَثَرُه عَلَيْها ؛ فَأَرادَ الْأَوَّلُ بِجَعْلِه ضَعيفَ الْعَصا ، أَنَّه رَفيقٌ بِها ، مُشْفِقٌ عَلَيْها ، لا يَقْصِدُ مِنْ حَمْلِ الْعَصا أَنْ يوجِعَها بِالضَّرْبِ مِنْ غَيْرِ فائِدَةٍ ؛ فَهُوَ يَتَخَيَّرُ ما لانَ مِنَ الْعِصيِّ - وَأَرادَ الثّاني أَنَّه جَيِّدُ الضَّبْطِ لَها ، عارِفٌ بِسِياسَتِها فِي الرَّعْيِ ، يَزْجُرُها عَنِ الْمَراعِي الَّتي لا تُحْمَدُ ، وَيَتَوَخّى بِها ما تَسْمَنُ عَلَيْهِ ، وَيَتَضَمَّنُ أَيْضًا أَنَّه يَمْنَعُها عَنِ التَّشَرُّدِ وَالتَّبَدُّدِ ، وَأنَّها لَمّا عَرَفَتْ مِنْ شِدَّةِ شَكيمَتِه وَقوَّةِ عَزيمَتِه ، تَنْساقُ وَتَسْتَوْسِقُ فِي الْجِهَةِ الَّتي يُريدُها مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجَدِّدَ لَها في كُلِّ حالٍ ضَرْبًا .

من أمثال العرب : " عَلَيْهِ مِنَ اللّهِ إِصْبَعٌ حَسَنٌ " ، قالوا : ذُكِّرَتِ الْإِصْبَعُ على معنى الأثر .

ثم في الخبر المروي في كتب الأمثال والحكم  عن رسول الله - صلى الله عليه ، وسلم ! - : " لا تَرْفَعْ عَصاكَ عَنْ أَهْلِكَ " ، قالوا : أراد الأدب . عَرَفَتْ ذلك إبلُ الراعي - سبحان الله ! - وربما لم تعرِفْه أسرةُ الأب !

مِنْ حَقِّ الْمَسائِلِ الدَّقيقَةِ أَنْ تُتَأَمَّلَ فيهَا الْعِباراتُ الَّتي تَجْري بَيْنَ السّائِلِ وَالْمُجيبِ ، وَتُحَقَّقَ ؛ فَإِنَّ ذلِكَ يَكْشِفُ عَنِ الْغَرَضِ ، وَيُبَيِّنُ جِهَةَ الْغَلَطِ .

فإذا لم يجتمع المتذاكرون على هذا التأمل ، فاشتغل واحد بالتَّعْميم والتَّعْمِيَة والتَّسْفيهِ - وجب أن يُحَكَّمَ السُّكوت ، حتى يزول الواحد الغريب ، فيعود التأمل المَلَكيّ الذي لا يقرّ على رجس الشيطان !

قالَ أَبُو الْقاسِمِ الْآمِديُّ في قَوْلِ الْبُحْتُريِّ :

فَصاغَ ما صاغَ مِنْ تِبْرٍ وَمِنْ وَرِقٍ وَحاكَ ما حاكَ مِنْ وَشْيٍ وَديباج

صَوْغُ الْغَيْثِ النَّبْتَ وَحَوْكُهُ النَّباتَ لَيْسَ بِاسْتِعارَةٍ ، بَلْ هُوَ حَقيقَةٌ ؛ وَلِذلِكَ لا يُقالُ : هُوَ صائِغٌ ، وَلا كَأَنَّه صائِغٌ ، وَكَذلِكَ لا يُقالُ : حائِكٌ ، وَكَأَنَّه حائِكٌ ، عَلى أَنَّ لَفْظَةَ حائِكٍ خاصَّةً في غايَةِ الرَّكاكَةِ ، إِذا أُخْرِجَ عَلى ما أَخْرَجَه عَلَيْهِ أَبو تَمّامٍ في قَوْلِه :

إِذَا الْغَيْثُ غادى نَسْجَه خِلْتَ أَنَّه خَلَتْ حِقَبٌ حَرْسٌ لَه وَهْوَ حائِك

وَهذا قَبيحٌ جِدًّا ، وَالَّذي قالَهُ الْبُحْتُريُّ : وَحاكَ ما حاكَ ، حَسَنٌ مُسْتَعْمَلٌ ؛ فَانْظُرْ ما بَيْنَ الْكَلامَيْنِ لِتَعْلَمَ ما بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ ! قَدْ كَتَبْتُ هذَا الْفَصْلَ على وَجْهِه ، وَالْمَقْصودُ مِنْهُ مَنْعُه أَنْ تُطْلَقَ الِاسْتِعارَةُ عَلَى الصَّوْغِ وَالْحَوْكِ ، وَقَدْ جُعِلا فِعْلًا لِلرَّبيعِ - وَاسْتِدْلالُه عَلى ذلِكَ بِامْتِناعِ أَنْ يُقالَ : كَأَنَّه صائِغٌ ، وَكَأَنَّه حائِكٌ . اعْلَمْ أَنَّ هذا الِاسْتِدْلالَ كَأَحْسَنِ ما يَكونُ ، إِلّا أَنَّ الْفائِدَةَ تَتِمُّ بِأَنْ تَتَبَيَّنَ جِهَتَه ، وَمِنْ أَيْنَ كانَ كَذلِكَ ؟ وَالْقَوْلُ فيهِ إِنَّ التَّشْبيهَ كَما لا يَخْفى يَقْتَضي شَيْئَيْنِ مُشَبَّهًا وَمُشَبَّهًا بِه ، ثُمَّ يَنْقَسِمُ إِلَى الصَّريحِ وَغَيْرِ الصَّريحِ ؛ فَالصَّريحُ أَنْ تَقولَ : كَأَنَّ زَيْدًا الْأَسَدُ ، فَتَذْكُرَ كُلَّ واحِدٍ مِنَ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِه بِاسْمِه - وَغَيْرُ الصَّريحِ أَنْ تُسْقِطَ الْمُشَبَّهَ بِه مِنَ الذِّكْرِ ، وَتُجْرِيَ اسْمَه عَلَى الْمُشَبَّه ، كَقَوْلِكَ : رَأَيْتُ أَسَدًا ، تُريدُ رَجُلًا شَبيهًا بِالْأَسَدِ ، إِلّا أَنَّكَ تُعيرُهُ اسْمَه مُبالَغَةً وَإيهامًا أَلّا فَصْلَ بَيْنَه وَبَيْنَ الْأَسَدِ ، وَأَنَّه قَدِ اسْتَحالَ إِلَى الْأَسَديَّةِ .

أراد سيدنا بالْفَصْل من كلام الآمدي ، ما نسميه الآن فِقْرةً ، على العموم اللغوي - أظن - لا الاصطلاح العلمي ، من حيث لَمّا انتزع قطعة من كلام الآمدي ، انفصلت . ثم جاء القرطاجني ، فتكلم في فصول النص ، فصار لدلالة الفصول على الفقر ، والتفصيل على التفقير ، موضع من الاصطلاح ، وقوة من الاستعمال . ولا أثر في ذلك لما نجعل الفصل قسم الباب ، والباب قسم الكتاب ، وربما جعلنا الفصل قسم الكتاب .

ثم سيدنا الحاطب هنا في حبل الآمدي ، جارَ على أبي تمام ؛ فلم يقل : كأنه حائك ، بل كأنه قاعد من زمان طويل مقعد الحائك ، ينسج هذا النسيج وكأنه كسوة الكعبة المشرفة الحَوْليَّة ! ولقد تكرر جَوْرُه على أبي تمام ميلا إلى أبي عبادة ، وكأن لم يعظه تاريخ الأدب العربي !

ثمت ارتبت قديما في عبارة سيدنا : " غَيْرُ الصَّريحِ أَنْ تُسْقِطَ الْمُشَبَّهَ بِه مِنَ الذِّكْرِ " ، حتى ذاكرت في تخطيئها أستاذنا ؛ فصوبها قائلا : صار المشبه هو المشبه به ، فكأن المشبه به ساقط هنا . فقلت له : أليس لي أن يلتبس هذا عليّ ! قال : بلى . ولم يكن ينبغي لي أن يلتبس علي ، ولكنه رحمني !

 

لا يَلْتَقِي التَّشْبيهانِ ( التشبيه والاستعارة ) أَوْ يَلْتَقِيَ الْمُشْئِمُ وَالْمُعْرِقُ !

علق أستاذنا على ذلك قوله : " الْمُشْئِمُ الْمُتَّجِهُ إِلَى الشَّأْمِ ، وَالْمُعْرِقُ الْمُتَّجِهُ إِلَى الْعِراقِ ، وَهُما لا يَلْتَقِيانِ لِاخْتِلافِ الْجِهَتَيْنِ " . ولكننا نجعل في ذلك الفعلين : " عَرَّقَ " ، وَ" شَأَّمَ " ، من التَّفْعيل - فأما الفعلان " أَعْرَقَ " ، و" أَشْأَمَ " ، من الإفعال ، فلدخول العراق والشأم ، ولا ريب في أن التقاء الداخلين إليهما أبعد ، على حين أن المتجه يسهل عليه تغيير وجهته ! ولولا ذلك الاختلاف البيِّن ما جاز لابن سناء الملك أن يلعب بقوله :

" يا وَيْحَ نَفْسٍ عَشِقَتْ مِصْريَّةً تَدَمْشَقَتْ

ساذَجةٌ لكِنَّها بِالْحُسْنِ قَدْ تَزَوَّقَتْ

كَالشَّمْسِ حينَ شَرَّقَتْ وَالشَّمْسِ حينَ أَشْرَقَتْ

وَالرَّوْضَةِ الْغنَّاءِ حينَ أَزْهَرَتْ وَأَوْرَقتْ " !

وإن لم يمتنع أن يلتبس أحدهما بالآخر .