الشاعر الشربيني محمد شريدة
في فلسطينياته
أ.د/
جابر قميحةشاعر مصرى من الشعراء الشباب فى العقد الثالث من عمره، كان يلقى علينا شعره فى رابطة الأدب الإسلامى بالقاهرة فى تواضع وهدوء، ومسحة من الحياء على وجهه. من قروشه القليلة طبع ديوانه الأول (والوحيد حتى الآن) وجعل عنوانه: «غناء للحرية».
كتب عنه الأستاذ الدكتور محمد رجب البيومى: «قرأت الديوان فدهشت دهشًا كبيرًا؛ لأنى أعلم أن شعر الشباب الطامح لابد أن يكون ذا نقص فنى فى الوزن والمعانى والأخيلة، باعتبار الشاعر فى أولى خطواته، ولكن الديوان «غناء للحرية» جاء مكتملاً فى أكثر نواحيه، فأسلوبه حى متدفق، وصوره زاهية ناضرة، ومجال وحيه متسع فى آفاق مترامية، كما أنه لا يقتصر على النواحى الوجدانية التى هى كل شيء عند الشباب الظامئ، ولكنه متنوع الأغراض: اجتماعيًا، وسياسيًا، ودينيًا، مما يدل على رحابة آفاقه...».
ونحن مع الدكتور البيومى فى هذا الحكم العام الموجز على هذا الشاعر الشاب، وقد جاء شعره ناضجًا متفتحًا فى ديوانه الأول هذا، وجاء عنوان الديوان معبرًا تعبيرًا صادقًا عن مضامين قصائد الديوان، وخصوصًا قصائد: الحلم فى عصر الظلام - طريق الأشواك طريق الأحرار - معلقة على جدران الأقصى - أغنية الحرية - أنشودة الجرح والدماء - زهرة الحرية - أسير - الضباب.
فالحرية هى القاسم المشترك، أو المحور الأساسى فى أغلب قصائد الديوان: الحرية بمفهومها الانطلاقى المباشر من حكم الآخر وسطوته وقضبانه، والحرية بمفهومها الفلسفى، بمعنى انعتاق الروح من أغلال الجسد وغرائزه الدنيا، والحرية الحلم الغائب الذى يتطلع إليه الشاعر، ومن ثم كان عليه أن يتدرع بالقدرات النفسية والعقلية التى تجعله قادرًا على معانقة الحرية.. هذه القيمة النورية العليا:
دعينى سأقتل يأس الفؤاد
وأطويه فى غفلات السنينْ
وأقتل فيّ انهزامَ المنى
وجدْبَ الأغانى وليل الشجون
أنا اليوم حر كعطر الشّذا
يبث الزهور هوى العاشقين
دعينى فإنى سئمتُ الحديث
عن القيد، إنى كسرت القيود
ويقول فى مطولته الرائعة «أسير» ص 67 - 73.
أسائل أحزاني وجدران حجرتي
وليلاً كحصن الهيكلِ المتهدمِِ
ودنيايَ، والدنيا ظلام وغربة
وهولٌ وزور فى خنا الإثم يحتمي
أسائلهم: ما الذنب؟ إني مضيعٌ
أهيم لسُقيا الحق محترقًا ظمي
أذنْبي هوى الإسلام والعدل والتقى
وأني شهيد الحق إن خين أو رُمي؟
أريد بلادي حرة وكريمة
مضوأة الآلاء ترفل في.. دمي
أباهي بها مجد الأنام وأنْجما
تلوح بآياتِ النعيم المهوّمِ
ويقترب الشاعر فى «غنائه للحرية» من فلسطين والقدس فيناجى «ليلة الإسراء» التى أسرى فيها الله بمحمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذى بارك الله حوله. يستهل الشاعر قصيدته بقوله:
يا ليلة الإسراء حسنُكِ بادِي
هبطتْ به الآياتُ فى الميعادِ
تبدين فى بيد الزمان سقيفةً
عدنيةً نفاحة الأعواد
تعلو جبين الدهر منك ألاقةٌ
قدسيةُ الأفراح والأعياد
وسرتْ على فكر الأنام بنفحها
وبطيبها ريانة الأوراد
ويمضى الشاعر مبرزًا القيم الروحية والنفسية التى تقودنا إليها ليلة الإسراء، وفي خيال رومانسي مبسوط يصور فرح الطبيعة أرضًا وسماء بهذا الحدث العظيم. ومن حقنا أن نأخذ على الشاعر أنه لم يربط بين هذا الحدث التاريخي النوراني، وبين الواقع الذي تعيشه أرض المسرى، وما ينزله بها الصهاينة من مصائب ونكبات، ولو فعل لكان تأثير القصيدة أكبر وأقوى.
وفى قصيدته «أغنية للجهاد» يتحدث الشاعر «الشربينى شريدة» عن الجهاد قيمة وسلوكًا لبعث الأمم، وتحطيم «سطوة القوي الباغي» و«يحرر الأزهار من براثن الخريف، وينهض النيام تحت هجعة الصروف»، ولا يتحقق ذلك إلا بالتضحية، والمعاناة، والشهادة، فالشهيد هو الذى «يلهب الحياة فى قرارة النعوش»:
ويسطر النشيد فوق ثورة الجيوش
مداده الدماء راسمًا بها النقوش
أقلامه الرصاص من فؤاده يجيش
كثورة البركان تحت سطوة العروش
فيسطع النهار وينشر الصباح
وتحمل الشعار ملاحم الكفاح
وأقبلت مشاعل مضيئة.. مطهرةْ
ترفعها أيدي العلا شامخة معطرة
كأنها قوافل النجوم للدجى مدمرة
أو أنها ملاحم المنى أتت مبشرة
فأنشدت على صهيل خيلنا مزمجرة
أنشودة المدائن على هدى المآذن
عليَّة النداء.. ندية الملاحن
وجاءت قصيدة «أغنية الشهيد» تدور فى الفلك نفسه.. فلك التضحية والفداء، جاءت فى شكل رسالة من الشهيد لأمه، ومطلعها:
أماه حولي الردى ظمآنُ ينتظرُ
والثأر ملء دمي يقظان ينفجر
النفس تلهبها الآلام مُشعلةً
فى جوفها حُرقًا تغلي وتستعر
وفى سياق القصيدة يصور شخصية أعداء الإسلام والعروبة والأرض المقدسة، هؤلاء الذين «ضاع أمسهم» وحاضرهم «فى ظلام التيه ينحدر» من طبيعتهم الغدر، وإشعال الفتن:
القتل فى شرعهم طهر ومرحمةٌ
فدينهم بدم الإنسان يتجرُ
طافوا الدهور وأيديهم يلطخها
دمُ النبوة مسفوحًا به غدروا
ويحرز هؤلاء الأبالسة نصرًا رخيصًا، سببه الأساسى غفلتنا، وجهلنا، واستهانتنا، ولكن هذه الهزيمة - وإن أدت إلى تحطيم همة «الكبار» والقادة، فإنها - تحقق النتيجة العكسية عند من بايعوا الله، وآثروا الشهادة على حياة الذلة والخنوع.
يقول الشاعر على لسان البطل الشهيد:
فانفك قيدي وراح الثأر يحملني
إعصار هول له الآباد تنفطرُ
ومدفعي فى يدي روح مقدسةٌ
دعاؤه لنداء العرش يبتدر
عبرت للشاطئ القدسي يُفعمني
من الأماني حلم عاش يُدخر
عبرت فانحطمتْ أعماد مملكةٍ
الرجسُ شيدها والفجر والضجر
أضم فى نشوة الصديان عاشقة
لرجعتي من عذاب الأسر تنتظر
مدينتي فرحة فى المهد أشربها
قلبي رحيقًا سرى فى الروح يستتر
ويختم الشهيد كلماته بالبيتين الآتيين:
أماه: تلك دمائي خضبت أفقي
معْ فتية للفدا بالروح قد مهروا
والله أكبر صوت النصر فى مهج
بالله مؤمنة فى الله تنتصر
ونلاحظ على القصيدة السابقة ما يأتى:
1 - أن الشاعر تناول القضية فى أبعادها العامة: تحقيق الحرية بالتضحية والفداء، دون تحديد حاسم لأبعاد الزمان والمكان والعدو، وإن ترجح أنه العدو الصهيونى. وهذا التعميم - الذى حرمه الشاعر طوابع المحلية - يرفع القضية إلى المستوى الإنسانى الممتد الشامل.
وقد أكد هذا بما جاء على لسان البطل الفادى من أنه كان إنسانًا حريصًا على الحق والحب والسلام، ولكن العدوان هو الذى دفعه إلى رفض الظلم، وقتال المعتدين:
أزف للكون روحَ السلْم طيبة
وأعقد العهدَ أن يُستقبحَ الضررُ
وأعشق الكون جناتٍ يزينها
من السلام رُواء تربه الدرر
وأدفع الضيم عن نفس مضيعة
طغى عليها الأسى والجهل والخطر
2 - أن الشاعر تحدث عن أبعاد هذه القضية، ومكان «الذات المناضلة» فيها، موظفًا أسلوب المناجاة لأمه. والأمومة نَفَس وروح، ودفء ومفزع فى ساعات الكرب، بعد الله سبحانه وتعالى.
3 - ومما يقوى المضمون الفكرى فى القصيدة إبراز الشاعر بصمات الماضي فى الحاضر. وقد ظهر ذلك فى مظهرين:
الأول - تجذر روح العدوان - تاريخيًا - فى قلوب الأعداء، ودمويتهم الحاضرة امتداد طبعي واضح لروح الماضي بما فيها من غدر، ووحشية وظلم وطغيان.
الثانى - أثر تربية الأم وتوجيهاتها لابنها الفادى: فقد علمته أن البغي إلى مصرع، وأن الظلم إلى نهاية، وأن حب الحق والوطن يجب أن يتعمق النفوس والقلوب، وأن الإنسان لا قيمة له إن لم يعش رفيع الرأس، شامخ الوجدان.
4 - والقصيدة جاءت فى وحدة عضوية متلاحمة فكرًا وتصويرًا وتعبيرًا ووجدانًا، مع التنويع الفني فى الأداء التعبيرى من خبري وإنشائي، وحوار داخلي، وحوار خارجي، والحركة الفعلية والحركة النفسية.
ومن توفيقاته المزج بين معطيات ميدان الحرب، ومفردات المشاعر النفسية فى تبادليات اندماجية: كظمأ الردى، وظمأ النفس، واستعار النار، وحرارة المواجهة... إلخ.
وأدخل قصائد الشاعر فى الفلسطينيات قصيدة «أغنية للقدس» أو «معلقة على جدران الأقصى»، وهى مطولة تربو على الخمسين بيتًا من مجزوء الكامل. ويغلب على أداء القصيدة أسلوب المناجاة بالنداء: يا قدس - يا نبت أزهار... - يا منبع الحب - يا مهبط الوحى - يا حلم أبناء المدائن - يا فرحة المهد - يا بلدة الورد.
وبهذه المناجاة الرومانسية يجلي الشاعر مدينة القدس بملامحها الجمالية من ناحية، وتضاريسها القيمية من ناحية أخرى؛ فهى منبع الحب، ومهبط الوحى، ومهد الحضارة، وأرض السماحة والبشاشة والنضارة والحبور.
والمحور الثانى فى القصيدة يدور حول استجابة الشاعر لنداء القدس:
أنا قادمٌ، والشوق يجتاح الحنايا والصدورْ
أنا قادم حين الأذان مؤذِّنٌ: قمْ للفلاح
والله أكبر صيحة هزجت بأعماق البطاح
والمحور الثالث يستعرض فيه الشاعر معاناة القدس، وهى تحت وطأة العدو الصهيوني، فقد مضت السنون، وهى فى نير الأسى والسعير.
والذل والوهن المدمر والمظالم والشرورْ
والظلم والقيد العنيف وهيجة الحقد المريرْ
ومن أجمل الأبيات ما صور فيها الشاعر انسحاق الطفولة فى غمار النكبة التى حلت بالقدس.
وطفولة خرساء عانية... يؤرقها المصيرْ
لم ترتشف طيب الحياة، ولم تذق مسك الزهور
ترنو إلى سجف الوجود بطرفها الداجي الحسير
فى عينها الدنيا تهاويل وأرزاء.. وجُور
والناس فيها ظامئو الوجدان للشر الكفور
ولكن هذه المأساة - بكل مظالمها - لم تقعد بالشاعر عن التطلع للأمل المشرق، وعن الإصرار على العمل الإيجابى الفعال، فجاء المحور الرابع - وهو ختام القصيدة - يعبر عن هذا النزوع القوى الفعال:
كلٌّ عبيد يسجدون لهيكل الزور الصراحْ
لكنني ابن المجد أسمو فوق ذياك المزاح
بل إنني إن لم يكن غيري على الدرب المنيرْ
سأظل أنشب كاتبًا آياتِ حلمي فى الصخور
وسأقذف الطاغوت بالتوحيد جبارًا جسور
ويموج سيفي رافع الرايات فى بحر النسور
لن أستكين لذلة سأظل أدأب فى المسير
أنا قادم يا قدسَ أقداسي ويا أرض المصير
والقصيدة فى مجموعها من جيد شعر الشاعر، وقد كان حريصًا فى كل قصائده على التزام الأوزان الخليلية، ولكنها على طولها ينقصها إبراز دور الأطفال بحجارتهم فى الساحات القدسية، كما أن ما خلعه على القدس من ملامح جمالية كثير منه صفات عامة، لا تمثل ملامح فارقة، مما قد يحسب من قبيل الثرثرة اللفظية، ونأخذ على القصيدة كذلك ما فيها من أخطاء نحوية لا يجوز اعتبارها من قبيل الضرورات الشعرية المستساغة مثل:
وستلمحيني حينما يدوى بهامات البطاح
والصحيح: وستلمحينني، والصحة النحوية تكسر الوزن الشعري. ولكن تبقى القصيدة بعد ذلك ناطقة عن نفس مؤمنة، ووجدان حى، وشاعر متمكن من كل آلياته فى النظم والإبداع .