تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ = 77
تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ = 77
مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها
[ تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ " أَسْرارُ الْبَلاغَةِ " لِعَبْدِ الْقاهِرِ الْجُرْجانيِّ ]
د. محمد جمال صقر
قالَ |
قُلْتُ |
إِنَّما يَزيدُكَ الطَّلَبُ فَرَحًا بِالْمَعْنى وَأُنْسًا بِه وَسُرورًا بِالْوُقوفِ عَلَيْهِ ، إِذا كانَ لِذلِكَ أَهْلًا ، فَأَمّا إِذا كُنْتَ مَعَه كَالْغائِصِ فِي الْبَحْرِ ، يَحْتَمِلُ الْمَشَقَّةَ الْعَظيمَةَ ، وَيُخاطِرُ بِالرّوحِ ، ثُمَّ يُخْرِجُ الْخَرَزَ - فَالْأَمْرُ بِالضِّدِّ مِمّا بَدَأْتَ بِه ؛ وَلِذلِكَ كانَ أَحَقَّ أَصْنافِ التَّعَقُّدِ بِالذَّمِّ ، ما يُتْعِبُكَ ثُمَّ لا يُجْدي عَلَيْكَ ، وَيُؤَرِّقُكَ ثُمَّ لا يورِقُ لَكَ ، وَما سَبيلُه سَبيلُ الْبَخيلِ الَّذي يَدْعوهُ لُؤْمٌ في نَفْسِه وَفَسادٌ في حِسِّه ، إِلى أَلّا يَرْضى بِضَعَتِه في بُخْلِه وَحِرْمانِ فَضْلِه ، حَتّى يَأْبَى التَّواضُعَ وَلينَ الْقَوْلِ ، فَيَتيهَ ، وَيَشْمَخَ بِأَنْفِه ، وَيَسومَ الْمُتَعَرِّضَ لَه بابًا ثانِيًا مِنَ الِاحْتِمالِ ، تَناهِيًا في سُخْفِه - أَوْ كَالَّذي لا يُؤْيِسُكَ مِنْ خَيْرِه في أَوَّلِ الْأَمْرِ فَتَسْتَريحَ إِلَى الْيَأْسِ ، وَلكِنَّه يُطْمِعُكَ ، وَيَسْحَبُ عَلَى الْمَواعيدِ الْكاذِبَةِ ، حَتّى إِذا طالَ الْعَناءُ وَكَثُرَ الْجَهْدُ تَكَشَّفَ عَنْ غَيْرِ طائِلٍ ، وَحَصَلْتَ مِنْهُ عَلى نَدَمٍ لَتَعَبِكَ في غَيْرِ حاصِلٍ . وَذلِكَ ما تَجِدُه لِأَبي تَمّامٍ مِنْ تَعَسُّفِه فِي اللَّفْظِ ، وَذَهابِه بِه في نَحْوٍ مِنَ التَّرْكيبِ لا يَهْتَدِي النَّحْوُ إِلى إِصْلاحِه ، وَإِغْرابٍ فِي التَّرْتيبِ يَعْمَى الْإِعْرابُ في طَريقِه ، وَيَضِلُّ في تَعْريقِه ، كَقَوْلِه : ثانيهِ في كَبِدِ السَّماءِ وَلَمْ يَكُنْ كَاثْنَيْنِ ثانٍ إِذْ هُما فِي الْغار وَقَوْلِه : يَدي لِمَنْ شاءَ رَهْنٌ لَمْ يَذُقْ جُرَعًا مِنْ راحَتَيْكَ دَرى مَا الصّابُ وَالْعَسَل |
آه من بديع ما بين " يُؤَرِّقُكَ " ، " يورِقُ لَكَ " ! لَهُوَ شيء مشترك مبذول للجناس والتحريف ! ثم يحتاج القاضي بفسولة هذا الشعر ، إلى أن يجتهد في تأمله حتى يوقن من عدم جدواه ، لا أن يبادر إلى الإعراض ! |
لَوْ كانَ الْجِنْسُ الَّذي يوصَفُ مِنَ الْمَعاني بِاللَّطافَةِ ، وَيُعَدُّ في وَسائِطِ الْعُقودِ ، لا يُحْوِجُكَ إِلَى الْفِكْرِ ، وَلا يُحَرِّكُ مِنْ حِرْصِكَ عَلى طَلَبِه ، بِمَنْعِ جانِبِه وَبِبَعْضِ الْإِدْلالِ عَلَيْكَ وَإِعْطائِكَ الْوَصْلَ بَعْدَ الصَّدِّ وَالْقُرْبَ بَعْدَ الْبُعْدِ - لَكانَ " باقِلّى حارّ " وَبَيْتُ مَعْنًى هُوَ عَيْنُ الْقِلادَةِ وَواسِطَةُ الْعِقْدِ ، واحِدًا ، وَلَسَقَطَ تَفاضُلُ السّامِعينَ فِي الْفَهْمِ وَالتَّصَوُّرِ وَالتَّبَيُّنِ ، وَكانَ كُلُّ مَنْ رَوَى الشِّعْرَ عالِمًا بِه ، وَكُلُّ مَنْ حَفِظَه إِذا كانَ يَعْرِفُ اللُّغَةَ عَلَى الْجُمْلَةِ - ناقِدًا في تَمْييزِ جَيِّدِه مِنْ رَديئِه ، وَكانَ قَوْلُ مَنْ قالَ : زَوامِلُ لِلْأَشْعارِ لا عِلْمَ عِنْدَهُمْ بِجَيِّدِها إِلّا كَعِلْمِ الْأَباعِر وَكَقَوْلِ ابْنِ الرّوميِّ - هكذا والصواب قول بلا كاف - : قُلْتُ لِمَنْ قالَ لي عَرَضْتُ عَلَى الْأَخْفَشِ ما قُلْتَه فَما حَمِدَهْ قَصَّرْتَ بِالشِّعْرِ حينَ تَعْرِضُه عَلى مُبينِ الْعَمى إِذَا انْتَقَدَهْ ما قالَ شِعْرًا وَلا رَواهُ فَلا ثَعْلَبَه كانَ لا وَلا أَسَدَهْ فَإِنْ يَقُلْ إِنَّني رَوَيْتُ فَكَالدَّفْتَرِ جَهْلًا بِكُلِّ مَا اعْتَقَدَهْ - وَما أَشْبَهَ ذلِكَ ، دَعْوى غَيْرَ مَسْموعَةٍ وَلا مُؤَهَّلَةٍ لِلْقَبولِ ؛ فَإِنَّما أَرادوا بِقَوْلِهِمْ : " ما كانَ مَعْناهُ إِلى قَلْبِكَ أَسْبَقَ مِنْ لَفْظِه إِلى سَمْعِكَ " ، أَنْ يَجْتَهِدَ الْمُتَكَلِّمُ في تَرْتيبِ اللَّفْظِ وَتَهْذيبِه وَصِيانَتِه مِنْ كُلِّ ما أَخَلَّ بِالدَّلالَةِ ، وَعاقَ دونَ الْإِبانَةِ ، وَلَمْ يُريدوا أَنَّ خَيْرَ الْكَلامِ ما كانَ غُفْلًا مِثْلَ ما يَتَراجَعُهُ الصِّبْيانُ وَيَتَكَلَّمُ بِهِ الْعامَّةُ فِي السّوقِ . هذا ، وَلَيْسَ إِذا كانَ الْكَلامُ في غايَةِ الْبَيانِ وَعَلى أَبْلَغِ ما يَكونُ مِنَ الْوُضوحِ ، أَغْناكَ ذاكَ عَنِ الْفِكْرَةِ إِذا كانَ الْمَعْنى لَطيفًا ؛ فَإِنَّ الْمَعانِيَ الشَّريفَةَ اللَّطيفَةَ لا بُدَّ فيها مِنْ بِناءِ ثانٍ عَلى أَوَّلٍ ، وَرَدِّ تالٍ إِلى سابِقٍ . أَفَلَسْتَ تَحْتاجُ فِي الْوُقوفِ عَلَى الْغَرَضِ مِنْ قَوْلِه : " كَالْبَدْرِ أَفْرَطَ فِي الْعُلوِّ وَضَوْؤُه ... " ، إِلى أَنْ تَعْرِفَ الْبَيْتَ الْأَوَّلَ ، فَتَتَصَوَّرَ حَقيقَةَ الْمُرادِ مِنْهُ ، وَوَجْهَ الْمَجازِ في كَوْنِه دانِيًا شاسِعًا ، وَتَرْقُمَ ذلِكَ في قَلْبِكَ ، ثُمَّ تَعودَ إِلى ما يَعْرِضُ الْبَيْتُ الثّاني عَلَيْكَ مِنْ حالِ الْبَدْرِ ، ثُمَّ تُقابِلَ إِحْدَى الصّورَتَيْنِ بِالْأُخْرى ، وَتَرُدَّ الْبَصَرَ مِنْ هذِه إِلى تِلْكَ ، وَتَنْظُرَ إِلَيْهِ كَيْفَ شَرَطَ فِي الْعُلوِّ الْإِفْراطَ ، لِيُشاكِلَ قَوْلَه : " شاسِعٌ " ، لِأَنَّ الشُّسوعَ هُوَ الشَّديدُ مِنَ الْبُعْدِ ، ثُمَّ قابَلَه بِما لا يُشاكِلُه مِنْ مُراعاةِ التَّناهي فِي الْقُرْبِ ، فَقالَ : " جِدُّ قَريب " ! فهذا هُوَ الَّذي أَرَدْتُ بِالْحاجَةِ إِلَى الْفِكْرِ ، وَبِأَنَّ الْمَعْنى لا يَحْصُلُ لَكَ إِلّا بَعْدَ انْبِعاثٍ مِنْكَ في طَلَبِه ، وَاجْتِهادٍ في نَيْلِه . |
ما أغمض الكلام الواضح ! عبارة حكيمة ذكرها أديب غير حكيم ، أغريت بشرحها تلامذتي مرارا ، فخبطوا فيه ، حتى قلت لهم : إنما كان ذلك كذلك ، من حيث كانت نفس الإنسان المعبر مكمن العجائب ، وفيها انطوى العالم الأكبر ، فلا يصفها كلام إلا أن يتطبع بطبيعتها ! ثم ما أكثر ما حكى سيدنا ما يدل على عجز النحويين وهو النحوي ، عن شأو الشعراء ؛ فكأنما يدل على تميزه منهم بوعيه الجديد ! وهي مسألتنا ، يسرها الله ! ثمت في إحدى ندوات احتفالنا بعيد كليتنا دار العلوم المئوي ، تكلم أستاذنا الدكتور علي الجندي صاحب " شعر الحرب " ، و" الشعر الجاهلي " وخريج أوروبا ، على مسمع من شريكه في الندوة أستاذنا الدكتور أحمد هيكل وزير الثقافة الأسبق - فذكر الشعرين العمودي والحر ، وفرق بينهما بفرق ما بين قطعة اللحم الطيبة التي يهنأ بها آكلها ويمرأ ، وبين قطعة اللحم النيئة التي تشمئز منها نفس آكلها - فغضب الدكتور هيكل وكان من معالجي الشعر الحر شاعرا وسطا . ومنذئذ انضاف لدي دليل جديد إلى أدلتي القديمة على ألا أثر للدراسة بأوروبا فيمن لم يوهب النظر والذوق ! |
مَعْلومٌ أَنَّ الشَّيْءَ إِذا عُلِمَ أَنَّه لَمْ يُنَلْ في أَصْلِه إِلّا بَعْدَ التَّعَبِ ، وَلَمْ يُدْرَكْ إِلّا بِاحْتِمالِ النَّصَبِ - كانَ لِلْعِلْمِ بِذلِكَ مِنْ أَمْرِهِ مِنَ الدُّعاءِ إِلى تَعْظيمِه وَأَخْذِ النّاسِ بِتَفْخيمِه ، ما يَكونُ لِمُباشَرَةِ الْجُهْدِ فيهِ ، وَمُلاقاةِ الْكَرْبِ دونَه . وَإِذا عَثَرْتَ بِالْهُوَيْنا عَلى كَنْزٍ مِنَ الذَّهَبِ ، لَمْ تُخْرِجْكَ سُهولَةُ وُجودِه إِلى أَنْ تَنْسى جُمْلَةً أَنَّهُ الَّذي كَدَّ الطّالِبَ وَحَمَّلَ الْمَتاعِبَ . |
بل ينبغي أن يؤمن بذلك متلقي الشعر ، فأما وجدانه أو معرفته فلا يكونان إلا بعد حدوثه . ولكن ما أجل كلمة سيدنا في جواز أن يعثر على المعنى العميق ، سريعا سهلا ؛ إذ ربما التقت مفردات التعبير عنه هي ومفردات خواطر متلقيه عن تفكير له سابق في أمر أحضرها وجهزها فيسهل - على حين لا يكون ذلك لمتلق آخر ، فيصعب ؛ ولله في فهم خلقه المعاني العميقة شؤون ! |
نَعْلَمُ أَنَّ الْجُمْلَةَ أَبَدًا أَسْبَقُ إِلَى النُّفوسِ مِنَ التَّفْصيلِ ، وَأَنَّكَ تَجِدُ الرُّؤْيَةَ نَفْسَها لا تَصِلُ بِالْبَديهَةِ إِلَى التَّفْصيلِ ، وَلكِنَّكَ تَرى بِالنَّظَرِ الْأَوَّلِ الْوَصْفَ عَلَى الْجُمْلَةِ ، ثُمَّ تَرَى التَّفْصيلَ عِنْدَ إِعادَةِ النَّظَرِ ؛ وَلِذلِكَ قالوا : " النَّظْرَةُ الْأولى حَمْقاءُ " ، وَقالوا : " لَمْ يُنْعِمِ النَّظَرَ ، وَلَمْ يَسْتَقْصِ التَّأَمُّلَ " . وَهكَذَا الْحُكْمُ فِي السَّمْعِ وَغَيْرِه مِنَ الْحَواسِّ ؛ فَإِنَّكَ تَتَبَيَّنُ مِنْ تَفاصيلِ الصَّوْتِ بِأَنْ يُعادَ عَلَيْكَ حَتّى تَسْمَعَه مَرَّةً ثانِيَةً ، ما لَمْ تَتَبَيَّنْهُ بِالسَّماعِ الْأَوَّلِ - وَتُدْرِكُ مِنْ تَفْصيلِ طَعْمِ الْمَذاقِ بِأَنْ تُعيدَه إِلَى اللِّسانِ ، ما لَمْ تَعْرِفْهُ فِي الذَّوْقَةِ الْأولى . وَبِإِدْراكِ التَّفْصيلِ يَقَعُ التَّفاضُلُ بَيْنَ راءٍ وَراءٍ ، وَسامِعٍ وَسامِعٍ ، وَهكَذا . فَأَمَّا الْجُمَلُ فَتَسْتَوي فيهَا الْأَقْدامُ . ثُمَّ تَعْلَمُ أَنَّكَ في إِدْراكِ تَفْصيلِ ما تَراهُ وَتَسْمَعُه أَوْ تَذوقُه ، كَمَنْ يَنْتَقِي الشَّيْءَ مِنْ بَيْنِ جُمْلَةٍ ، وَكَمَنْ يُمَيِّزُ الشَّيْءَ مِمّا اخْتَلَطَ بِه ؛ فَإِنَّكَ حينَ لا يُهِمُّكَ التَّفْصيلُ ، كَمَنْ يَأْخُذُ الشَّيْءَ جُزافًا وَجَرْفًا . |
ولذا عفي عن النظرة الأولى إلى المحرم ؛ إذ لا تُعَرِّفُ المنظور للناظر على العموم ، أحلال هو أم حرام ، ولا تستغرقه فيواقع الحرام . ثم لكنني أعرف أن مخرج أعمال مبتكري العلوم العباقرة ، من باب النظر الجُمْليّ عادة ، أكثر منها من باب النظر التَّفْصيليّ ! ثمت لكنني أذكر أن أستاذنا الدكتور تمام حسان ، فرق بين عمله العلمي وعمل تشومسكي اللغوي الأميركي الرائد ، بأنه أَخْبَرُ بالتفاصيل ، على حين تشومسكي أَخْبَرُ بالجمل - فكأنه على كلام سيدنا ، يرفع قدر الرجل على قدر نفسه ، وهو رفيع ! |
إِنَّه ( التفصيل في التشبيه ) يَقَعُ عَلى أَوْجُهٍ : أَحَدُها وَهُوَ الْأَوْلى وَالْأَحَقُّ بِهذِهِ الْعِبارَةِ ، أَنْ تُفَصِّلَ بِأَنْ تَأْخُذَ بَعْضًا وَتَدَعَ بَعْضًا . |
فالتفصيل هنا فصل بعض عن بعض . |
وَالثّاني أَنْ تُفَصِّلَ بِأَنْ تَنْظُرَ مِنَ الْمُشَبَّهِ في أُمورٍ لِتَعْتَبِرَها كُلَّها وَتَطْلُبَها فيما تُشَبِّهُ بِه . |
والتفصيل هنا تعديد فصول الشيء فصلا فصلا أو مراعاتها . |
وَالْوَجْهُ الثّالِثُ أَنْ تُفَصِّلَ بِأَنْ تَنْظُرَ إِلى خاصَّةٍ في بَعْضِ الْجِنْسِ . |
والتفصيل هنا فصل بعض عن بعض ، ثم مراعاة فصول المفصول ؛ فكأنه مركب من النوعين السابقين ! |