الغموض/ الإبهام: الدلالة والإشكال 2

الغموض/ الإبهام: الدلالة والإشكال

الجزء الثالث

د. محمد دخيسي - وجدة المغرب

[email protected]

-2الشعر العربي المعاصر : بين الغموض وسوء الفهم

كم هي المفارقات التي تستوقفنا أثناء البحث عن الغموض في الشعر العربي المعاصر، ولعل أهم الجوانب التي لامستها هذه التجارب توقفت كثيرا عند أعلام الشعر العربي الذين خطُّوا المسيرات الأولى التي أنجبت شعر الحداثة.

سبق أن قلنا إننا لن نقف عند مصطلح الحداثة، فعلا لن يكون ذلك غرضنا، لكن مع ذلك لا بأس من أن نعرف المقصود منه، لأنه أساس لمعرفة طريق الحل لإشكاليتنا. 

فالحداثة تبقى ذلك الملكوت الذي يطمح الكل إلى الانعتاق من خلاله من الحدود المفروضة من طرف المجتمع، وهي : "ذلك الوعي الجديد بمتغيرات الحياة ، والمستجدات الحضارية والانسلاخ من أغلال الماضي والانعتاق من هيمنة الأسلاف، ليست ظاهرة مقصورة على فئة أو طائفة أو جنس بعينه، بل هي استجابة حضارية للقفز على الثوابت وتأكيد مبدأ استقلالية العقل الإنساني تجاه التجارب الفنية السابقة."1والحداثة حين ارتباطها بالشعر خلصت إلى تبني الموقف الثائر الذي يجوب كل أشكال التعبير الواضحة والغامضة، وهي تجعل من القارئ المتلقي صاحب التجربة الثانية بعد الكتابة الأولى التي خطها المبدع. لذلك فالشاعر يتغيا المبالغة في التعابير التي يصيرها جزءا من التشكلات والتشكيلات الفنية. أي أنه يجعل من عدم وضوح مراده في شعره مجالا خصبا لسريان وتدفق مضامينه، في انتظار التعليق عليها من لدن المتلقي.

 -1-2 الشعر رؤيا— الشعر بحث في اللامعقول:

 لعل أول من يمكن أن نستشهد به في هذا المجال، هو الشاعر والناقد العربي الكبير علي أحمد سعيد أدونيس الذي استطاع أن يحدث نقلة في ميدان الشعر والنقد المرتبط به. يقول في مؤلفه "زمن الشعر":" لعل خير ما نعرف به الشعر الجديد هو أنه رؤيا.. والرؤيا بطبيعتها قفزة خارج المفهومات السائدة، هي إذن تغيير في نظام الأشياء وفي نظام النظر إليها. هكذا يبدو الشعر الجديد أول ما يبدو تمردا على الأشكال والطرق الشعرية القديمة."[1] فمن مميزات الشعر الجديد الحداثي الخروج عن المألوف، والطابع الذي يثبت هذا التحول لا يمكنه إلا أن يتنزه عن المعقول القولي وينتبه إلى ما هو في زمرة الحقول المعرفية الامتناهية.

عند التأمل في حقيقة هذا القول وباقي الأقوال التي تسير نفس المسير، نلاحظ أن التحديد المعرفي لها يتناسب والطرح الذي سبق أن قمنا  باستخلاصه،إذ لا محالة أن السير غير العادي للشعر يتوج في نهاية المطاف بالصبغة الجمالية التي تشعر القارئ بالتيه وراء المعاني والألفاظ. وهو ما يمكن اعتباره من إواليات النص المتميز "بشساعة أطراف الموضوع وتنوع المقاربات تجعلنا ننطلق من مسلمة أصبحت متداولة بين المهتمين بتحليل الخطاب، وخصوصا بين من تبنى نظرية دينامية النص، وهي أن نعتبر أن النص (مشكل) يحتاج إلى حل."[2] والشيء نفسه يحتاج لمزيد من التدبر، أو مبدأ الإرجاء كما عبر عنه مفتاح في نقس السياق السابق. وليس ثمة مبرر آخر من وراء البحث عن الدلالات إلا الغوص في ذاتية المبدع لعيش التجربة ذاتها والوصول إلى المبتغى.

إذا كنا في بداية هذه الفقرة قد حررنا تعريفا للشعر كما رآه أدونيس، فإننا نعود ثانية إلى نفس المبدع حتى نربطه بالغرض الأساس، ذلك أنه يرى أن التنافر داخل بنية النص الشعري يثير فينا:" مسألة الفهم، مسألة الوضوح والغموض، والحق أنْ ليس من الضروري لكي نستمتع بالشعر أن ندرك معناه إدراكا شاملا، بل لعل مثل هذا الإدراك يفقدنا هذه المتعة، ذلك أن الغموض هو قوام الرغبة بالمعرفة، ولذلك هو قيام الشعر، إلا أن الغموض يفقد هذه الخاصية حين يتحول إلى أحاج وتعميات."[3]

إذن لماذا شعر الحداثة يبحث عن هذا اللامعقول؟ لماذا لا يُؤتى بالقول المباشر حتى يستطيع العامة والخاصة تبينه؟

هل الأمر يتعلق بمجرد التعتيم الفوضوي، أم هو سلطة داخلية تحتم على المبدع فرز القوالب اللاجاهزة  والتعابير غير المألوفة؟

   -2-2الصورة الشعرية: التحديد والمفارقات:

إن مجرد ذكر الصورة الشعرية، يتبادر إلى الذهن القول الشعري المعبر عنه بطرق تشبيهية تتميز فيه الرؤيا بعدم الوضوح، وهي سمة أساسية في شعر الحداثة. فقد تنبه البلاغيون القدامى إلى أهمية الصورة ودورها في بلورة مقومات القصيدة العربية، واستطاعت طائفة المتكلمين كذلك أن تدلي بدلوها في هذا المجال حتى تستعير المفهوم البلاغي خدمة للبحث في المتشابه في القرآن الكريم، و"الشعر جنس من التصوير"[4] كما قال الجاحظ.

من هذا المنطلق نستطيع القول إن الصورة الشعرية باعتبارها جزءا لا يتجزأ من التجربة الشعرية تسري به إلى مغالق لا يفتحها إلا اللبيب العارف بأسباب ومسببات القول التصويري المعتمد على الاستعارات التي :

" تكاد تصبح- تبعا لذلك- حقيقة ولا تثير استعرابا وتوترا لدى المتلقي، وكلما افترقت واختلفت زاد التوتر واللاتوقع والغرابة."[5]  والمحلل للخطاب الشعري إذاك ينتابه التشرد والتشتت من جراء عدم فهمه واستغلاق المعنى عليه، فيتهمه بالغموض أو الإبهام. لكن المتتبع والمنتبه في دواخل النص والمعرفة الحقيقية باتجاهات الشاعر وثقافاته، ومعرفته هو كذلك بهذه المصادر يخرج القول من دائرة الإبهام، فالغموض، إلى القول غير الواضح المحتاج للتدبر. يقول عز الدين إسماعيل:  " أليس من الأفضل أن نقول إن العمل الأدبي بناء لغوي يستغل كل إمكانات اللغة الموسيقية والتصويرية والإيحائية والدالة في أن ينقل إلى المتلقي خبرة جديدة منفعلة بالحياة."[6]

إن هذه التوقعات التي يصدرها الناقد العربي حول مفهومه للصورة الشعرية ومشاركتها في بناء المعنى، جعلته يقف موقفا  مترددا،غير جريء على القول بأن عدم وضوح الصورة الشعرية يؤدي إلى الغموض. ودليلنا هو المفكر المغربي محمد مفتاح، فقد رأينا في قولته السالفة الذكر أنه يعتبر الاستعارة المنغلقة تؤدي إلى التوتر، والاستعارة هي جزء من التصوير البلاغي. في موقف ثان يعبر صراحة أن هذا الأمر يؤدي إلى الغموض، يقول:" وأما إذا كان التشبيه مخترعا فإنه غير مقبول إلا إذا كان غامضا فإنه مرفوض، لأنه لا يؤثر ولا يؤدي إلى الانقياد إلى الشيء أو النفرة منه، فالوضوح المبني على الإصابة في التشبيه والمقاربة في الاستعارة مفضل على الغموض.

والمعاني الجمهورية، والوضوح، واحترام العقدة بين المتكلم والمخاطب هي ما يسميه التداوليون – إذا صح فهمنا- بمبدأ التعاون بما يعنيه من قواعد الكمية (الاستقصاء) – الكيفية ( الصدق) والعلامة والجهة."[7]

والمعتمد في هذا السياق، تحديد مستويات الخطاب من حيث كونها تدل على المعنى المباشر دون استغلاق، واعتماد الصور الشعرية القريبة المنال- حسب التعريف السالف الذكر- وهذا الأمر ليس من اختراع النقاد العرب الجدد بل هو قديم قدم ظهور قضية القديم والمحدث في النقد العربي القديم. فهذا ابن طباطبا العلوي يقول في كتابه عيار الشعر:" وينبغي للشاعر أن يتجنب الإشارات البعيدة والحكايات المغلقة والإيماء المشكل، ويعتمد ما خالف ذلك، ويستعمل من المجاز ما يقارب الحقيقة، ولا يبعد عنها، ومن الاستعارات ما يليق بالمعاني التي يأتي بها."[8] ولعل هذا التعريف سيق من ورائه الكثير من التعليلات اللاحقة زمانيا، ولاعتبارات عدة استساغ المتلقي العربي – ليس الكل- القول بأن التعمق في الصور الشعرية يؤدي للغموض في الشعر، وأبان عن الشروط الضرورية للكفاءة الشعرية. والقصد من هذا التنبيه هو ما جاءت به نازك الملائكة في كتابها " قضايا الشعر المعاصر" مؤكدة الضرورة القصوى لتبني أسس متينة للتعبير الشعري، أو كما اصطلحت عليه الكفاءة في الشعر التي تتأسس على اللبنات التالية:

-1 لغة القصيدة تكون عنصرا أساسيا في كفاءة الهيكل، فهي أداته الوحيدة، ولذلك ينبغي أن تحتوي على كل ما تحتاج إليه لتكون مفهومة.

2- أن التفاصيل ونعني بها التشبيهات والاستعارات والصور التي يستعملها الشاعر في القصيدة ينبغي أن تكون واضحة في حدود القصيدة."[9]

إننا إن نفتح ونشرع باب الغموض في أسفار الأدب القديم والمحدث في مجال الصورة الشعرية، نستطيع الوصول إلى نقاط أساسية لتنوير البحث. وهي من الأمور المشكلة للغموض كما تحدث عنه رواد النقد العربي. ومن أهم هذه الأسس الرمز والأسطورة.

3-2- الرمز / الأسطورة: تحقق شرطي الفكر والثقافة:

إذا أدخلنا في اعتبارنا لغة الشعر مكونا من المكونات التي تجلب التعقيد الدلالي، فإنه ولا شك سنحتار في الأخذ بإحدى المقولات التي تستجيب وطموحاتنا الفكرية. بمعنى أن أية محاولة في مجال البحث المنوط بالتعبير عن أهدافنا ومقصدياتنا سيرتبط بدون شك بالتعريفات التي أعطيت للشعر، بين مؤكدة إعطاء الأولوية للشعر المباشر المعبر عن هموم الذات والكون والحياة أي الالتزام بأسس مبنية على الخلق المرتبط بالصدق والوضوح، وذاهبة غير هذا المذهب.

إن مثل هذه المناورات أغفلت جانبا مهما فيما يتصل بالقضية التعبيرية الشعرية، ذلك أن الشاعر الحداثي لم يعد يعتبر الشعر والشاعر لسان القوم بقدر ما أصبح لسان ذاته ورؤاه، وخير نموذج لتقديرنا هو الشاعر أدونيس الذي استطاع أن يتخطى حاجز الثابت إلى ما هو متحول. إلى اعتبار الغموض ظاهرة فنية جمالية، يقول:" إن ما يسمى بغير مسوغ نقدي: جمالي " غموض الشعر الحديث" إنما هو تاريخيا ظاهرة طبيعية، وهذا عائد إلى تفاوت البنى في المجتمع العربي، وإلى استباقية الشعر، وما يولد  الانفصال عن الذاكرة والعادة وعن جمهور الذاكرة والعادة."[10]

إذن لماذا أصبح الشاعر يلجأ إلى هذه المسوغات المعنوية؟

أولى الأجوبة تحطنا أمام ثقافة الشاعر الذي لم يعد يحافظ على انغلاقه على الشعر فحسب، بل أصبحت رؤاه تتجول في أنحاء العلم والثقافات الشعبية والتراث والفكر والدين وغيرها من الأفكار القريبة والبعيدة عنه. يقول عبد الوهاب البياتي عن تجربته الشعرية:" لقد حاولت أن أوفق بين ما يموت وما لا يموت، بين المتناهي واللامتناهي، بين الحاضر وتجاوز الغائب، وتطلب مني معاناة طويلة في البحث عن الأقنعة الفنية. ولقد وجدت هذه الأقنعة في التاريخ والرمز والأسطورة،وكان اختيار بعض شخصيات التاريخ والأسطورة والمدن والأنهار وبعض كتب التعبير من خلال (قناع) عن المحنة الاجتماعية والكونية من أصعب الأمور."[11]

فالملاحظ أن الشاعر حين كان يتعامل مع هذه المصادر والرموز انطلق بوعي منه أنه يمارس حقه في البحث والتجلي. وغير بعيد من هذا التشكيل ما هو مرتبط بالتعبير الفني الرمزي الذي يحاكي التعقيد اللغوي:" وهو رمز لا يملك كثافة تاريخية بل نفسية وآلية، والبعد النفسي في هذا الرمز كامن في امتلاك المفردة لدلالة مستمدة مما تثيره  في النفس من إيحاءات وتداعيات وتستقر هذه الدلالة في الرمز بحيث أن مجرد ظهوره في السياق يستدعيها ويبرزها أما البعد الآني فيه فيمكن تلمسه في الفهم الموحد لدلالات هذا الرمز من طرف مجموعة بشرية معينة تعيش أوضاعا معينة وتفرض من ثمة تصورات متقاربة وردود فعل متشابهة تجاه مفردات بعينها"[12]. يضاف إلى هذا ما يمكن أن يحاط بالذهول والغرابة من استعمال المفردات الغريبة ذات الأبعاد الفلسفية. لذلك فالاهتمام بهذا المجال جعل الشعر يغوص في آفاق متعددة الأبعاد والتصورات ولم يعد القارئ العادي ذا صلة بالشعر، بقدر ما أحاط الشعر نفسه بسياج الغربة والابتعاد عن الساحة العكاظية ،  وهذا ما مكَّن البعض العيب على الشعر العربي الحديث بعده عن العامة واهتمامه بالنخبوية. ولعل :" الاهتمام الفلسفي بالرمزية راجع لسبب واحد وهو أنها تكشف عبر ثنائية المعنى عن غموض الكينونة أي أن الذات تعبر عن نفسها بأوجه مختلفة. إن علة وجود الرمزية هي فتح تعدد المعنى على غموض الذات."[13]

لذلك نقول إن الرمزية تفتح الباب أمام التنوع الدلالي ولا تقف عند المباشر من القول، من هنا عدها النقاد سمة من سمات الدلالة على الغموض. إلى جانب الرمز نقف عند خطاب الأسطورة وهي بمثابة اللغز المحير الثابت من الشعر،بحيث أصبحت تشكل الأفق الذي يبني به الشاعر أحلامه الشاعرة، ولا يتوانى عن إدراك العالم الحقيقي من خلال عالمه المتخيل: عالم الأساطير، والآلهة اليونانية." ولعل إسهام الأسطورة في تشكيل ظاهرة الغموض، في حدودها المقبولة في الشعر، هو مما جعله يعد التيار الأسطوري في الشعر العربي المعاصر ظاهرة فنية، لكن الجانب السلبي في هذا هو أن ظاهرة الغموض خرجت، بسبب هذا التيار نفسه، من إطارها الفني المقبول نقديا وتلقيا إلى حدود الإبهام والتعمية والانغلاق الدلالي."[14] والأسطورة تمثل الحيز المتدفق بالأعلام والشخصيات والأهواء الشخصية مما يدفع الشاعر إلى استغلالها، إما للهروب من سلطة الواقع،أو رغبة في خلق الجمال والمتعة في النص الشعري. إن هذا التميز الذي طبع شعر الحداثة كان بمثابة الأفق المعرفي والتجلي المطاوع لذات الشاعر. يقول عبد الرحمن محمد القعود:" في فترة الخمسينات والستينات كان الاهتمام بالأساطير من قبل الشعراء إلى درجة الولع، حتى أصبحت ظاهرة أو تيارا واضحا في شعر الحداثة العربية. وإلى جانب ما رآه الشعراء فيها من كونها مصدرا جديدا للإلهام، وإنها تساعد على التخيل الشعري والتأمل الفلسفي."[15]

إننا إذ نصل إلى مرتبة التأمل الفلسفي، فلا  بد أن نعرج على خاصية هامة ميزت مسير الشعر العربي الحديث، وهي بالطبع من عوامل ومظاهر تعقده، إنها الصوفية وتجلياتها داخل القصيدة. وقد استطاع أدونيس أن يحقق التواصل مع هذا المبحث من خلال تأملاته في "المواقف والمخاطبات" لمحمد بن عبد الجبار النِّفَّري وكتابات ابن العربي وغيرهما، يقول في كتابه الصوفية والسريالية:" يمكن أن نصف تجربة الكتابة، تجربة الذات الكاتبة، بأنها تجربة موت، بالدلالة الصوفية للعبارة: موت عن الظاهر الاجتماعي بمختلف مستوياته وعلاقاته، من أجل الحياة في الباطن الكوني، لذلك لا بد من تجاوز الظاهر وهدمه، ولا بد من تجاوز لغة الظاهر وهدمها."[16]

من هنا نفهم لماذا حمل الشاعر على نفسه عبء الغموض مقتفيا آثار الصوفية، إنها البداية الحقيقية مع تجاوز الكائن والبحث فيما هو محتمل يقول محمد بنيس إثر حديثه عن مكونات الشعر وخصوصياته:" غير أن الكتابة الصوفية هي التجاوز الممكن لصناعة اللغة بعد أن مزجت بين الصناعة والحلم محطمة بذلك القواعد المتعارف عليها في بنية الأنساق."[17] ورغم إيماننا بهذه الخاصية واتفاقنا مع علمي الحداثة العربية أدونيس ومحمد بنيس إلا أنه يبقى للشعر خصوصيات لا يمكن أن نخترقها لا بالصوفية ولا السريالية ولا الرمز ولا الأسطورة. إن الشعر هو – كما سبق التعريف في أول العرض- هو ذلك الكائن الزئبقي الذي لا نستطيع تلمسه. وهذا القول يبقى في مفترق الطرق بين القول بالشعر الحداثي المتميز بالصوفية وبين اعترافات لاحقة لا تنظر إليه كذلك. يقول د. مصطفى ناصف:" الشاعر ليس صوفيا، المتصوف يذيب الفروق،يلغي المسافات ويرفع الإنسان إلى مصاف الآلهة، يجعل قوله ووجدانه هو الحق، وذلك كله زيغ لا يوافق الناقد العربي، ولا يعبر إلا عن هوى وضلال."[18]

حين نصل إلى هذا الحد، يمكن أن نقول إن الشعر العربي الحديث إذ يستلهم بعضا من هذه الخاصيات إنما ليثقل النص بالمعاني ويشكل على القارئ فهمه، وهو يتحايل على اللغة ويعطيها أبعادا عدة، ويبدل من المعطيات والظواهر ما يجعله في مصاف المخترعين لا في مجال العلوم المادية، بل في إطار اللعب بالكلمات والشعر كلمات يشهد قارئها على سلطتها في ذهنه ووجدانه، إن كان قارئا للشعر حقيقة، أما إن بعدت المعاني عنه فإنه سيتهمه بالغموض وبدرجة أعم وأشمل الإبهام وهذا مذهب صاحب الكتاب الذي نحن بصدد قراءته لا من أجل البحث فيه، ولكن اعتماده أرضية لمناقشة الظاهرة وتحليلها في إطار إيجاد حل ملائم وشفاف.

يقول د. عبد الرحمن محمد القعود:" لكن هذا الشعر في ظل الحداثة الشعرية العربية المعاصرة، انتقل من مستوى الغموض، الذي لا نتردد في عده مظهرا فنيا في كثير من حالاته،إلى مستوى الإبهام الذي تجسد، في كثير من حالاته، إشكالية عند بعض الدارسين والباحثين. ومن هنا فالنتيجة الرئيسية لهذه الدراسة هي أن الإبهام في شعر الحداثة العربية المعاصرة شيء قار فيه، محايث له بسبب عوامل ثلاثة:العامل الثقافي والمعرفي .. عامل الثقافة والمذاهب الأدبية الغربية... ثم هناك العامل الثالث المتمثل فيما أصاب الشعر العربي من تحولات في بنيته ومفهومه."[19]

إذن ما هي هذه الظواهر التي تدعى من تمثلات الغموض والفوضى في الشعر العربي الحديث؟

             

[1] - عبد الله احمد المهنا: الحداثة وبعض العناصر المحدثة في القصيدة العربية المعاصرة، مجلة عالم الفكر، المجلد 19، العدد- 3، أكتوبر- نونبر- دجنبر، 1988، ص- 5.

[2] - محمد مفتاح: النص – من القراءة إلى التنظير، إعداد وتقديم،د. أبو بكر العزاوي، شركة النشر والتوزيع المدارس، ط- 1،2000، ص- 9.

[3] - أدونيس: زمن الشعر، (م- س)، ص- 21.

[4] - الجاحظ: الحيوان، تحقيق عبد السلام هارون،ج-3 ، ط- 3،1969،ص-131.

[5] - محمد مفتاح: تحليل الخطاب الشعري (استراتيجية التناص)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط- 2 ، 1986،  ص- 93.

[6] - عز الدين إسماعيل: الأدب وفنونه، دار الفكر العربي، ط- 7، 1978، ص- 36.

[7] - - محمد مفتاح: في سيمياء الشعر القديم، دار الثقافة،ط-1989، ص- 56.

[8] - ابن طباطبا العلوي: عيار الشعر، دار الكتب العلمية، بيروت،ط- 1، 1982، ص- 123.

[9] - نازك الملائكة: قضايا الشعر المعاصر، دار العلم للملايين، ط- 6، 1981، ص- 237.

[10] - أدونيس: زمن الشعر، (م- س)، ص- 283.

[11] - عبد الوهاب البياتي: تجربتي الشعرية/ دار العودة، بيروت، 1971،ص- 39-38 .