نظرة في كتاب نشأة الحركة الاباضية
لمؤلفه الأستاذ الدكتور عوض محمد خليفات
د. محمد المناصير*
[email protected]
مقدمة :
عرفت الأستاذ الدكتور عوض محمد خليفات أستاذا للتاريخ في الجامعة الأردنية خلال
دراستي لنيل درجة البكالوريوس ، وقد تلقيت على يديه أساسيات تاريخ صدر الإسلام ،
وكانت لديه طريقة خاصة في البحث والتحليل ، وسلاسة في طرح منهجه العلمي ، وأسلوب
متفرد في إلقاء دروسه ومحاضراته ، مما جعل الطلبة المحبين للتاريخ الإسلامي يتوجهون
للدراسة على يديه ، وقد كانت تحليلاته للروايات مثار إعجاب الطلبة المجدين ، وقد
لقي الدكتور عوض التقدير لدماثة خلقه واتزانه العلمي ومنهجيته وصدقه وتواضعه الجم .
وما ان انهينا مرحلة البكالوريوس حتى وجدنا أنفسنا أمام كتابه القيم عن الحركة
الاباضية ، وهي فرقة معتدلة في فكرها الديني تتبع سياسيا لعبد الله بن أباض أحد
زعماء المحكمة ، وفقهيا لأبي الشعثاء جابر بن زيد الازدي ومن بعده أبي عبيدة مسلم
بن أبى كريمة ، ويبدو انهم لم يعرفوا بهذا الاسم إلا بعد موت جابر بن زيد الذي سلك
مسلك الكتمان والتقية ، أما المنافح عن الدعوة بصفة علانية فهو عبد الله بن أباض .
وكانوا يسمون من قبل : المحكمة ، المسلمون ، جماعة المسلمين ، أهل الدعوة ، أهل
الحق والاستقامة ، الوهبية ؛ نسبة إلى عبد الله بن وهب الراسبي عند أباضية المشرق ،
ونسبة إلى الإمام عبد الوهاب بن رستم عند أباضية المغرب ، كما ورد في كتاب البعد
الحضاري للعقيدة الاباضية للدكتور فرحات الجعبيري من تونس . ويسمون أنفسهم حاليا :
الاباضية ( أهل الحق والاستقامة ) كما ورد في كتابي الشيخ احمد بن حمد بن سليمان
الخليلي مفتي سلطنة عمان وهما : كتاب الحق الدامغ الذي صدر عام 1412هـ ، كتاب وسقط
القناع ؛ الذي صدر عام 1998م .
جاء كتاب الدكتور خليفات نشأة الحركة الاباضية ليسد النقص في المكتبة العربية
والإسلامية حول هذه الحركة فجاء بحثا جادا وجديدا. وقد صدر الكتاب عن مطابع دار
الشعب في عمان / المملكة الأردنية الهاشمية عام 1978م .
نظرة فاحصة إلى
الكتاب :
يعود اهتمام الدكتور
عوض بموضوع الفرق الإسلامية منذ ان كان طالبا في السنة الأولى في الجامعة ، وقد
أدرك خطورة الدور الذي تلعبه هذه الأحزاب والفرق في التاريخ الإسلامي منذ الفتنة في
عهد الخليفة عثمان بن عفان حتى يومنا هذا .
وقد تناول في كتابه
الفرقة الاباضية التي نجحت في تكوين دول خاصة بها ، فاختار دراسة فترة التكوين
والتأسيس في مدينة البصرة والتي تعرف عند الاباضيين باسم طور الكتمان . وقد كان بحث
الدكتور عوض متميز ومتفرد في موضوعه ، لأن هذا الموضوع لم يتناوله أحد من قبل بشكل
معمق ، ولا يزال الاباضيون يحجمون عن تناول هذا الموضوع بشكل واسع . وقد درس
الدكتور خليفات هذا الموضوع دراسة وافية بروح علمية مجردة خالية من الهوى والتعصب ،
وقد اعتمد على المصادر الأساسية من كتب ومؤلفات الاباضيين ، ولاشك ان الدكتور عوض
قد نجح في تناول هذا الموضوع الشائك نجاحا باهرا ، وقد تمكن بروحه العلمية ومنطق
البحث ان يستحوذ على رضى الاباضيين وإعجابهم ، وقد لمست ذلك بنفسي عندما كنت في
سلطنة عمان خلال الفترة من 1992-1995م ، فقد وجدتهم يكنون كل الاحترام للمؤلف ، وكل
التقدير لهذا الكتاب القيم ، الذي ألقى الضوء على هذه الحركة التي بقيت غامضة ،
نظرا للسرية التامة والتقية الدينية التي تبناها رواد هذه الحركة .
يتكون الكتاب من سبعة
أبواب فيها سبعة فصول وخلاصة وملاحق وثبتا للمصادر والمراجع وفهارس منهجية عامة
وخرائط .
ففي تحليل المصادر
والدراسات الحديثة بين الدكتور عوض ان هذه الحركة لم تحظ في ظهورها الأول باهتمام
المؤرخين والمفكرين لندرة المعلومات عن هذه الحركة في المصادر المنشورة ، ولذلك لجأ
المؤلف المخطوطات والمصادر الاباضية التي تناولت الطور السري لهذه الحركة متناولا
معلومات قيمة عنها وعن زعمائها الأوائل مثل : جابر بن زيد الازدي وأبي عبيدة مسلم
بن أبى كريمة التميمي ، وقد تساءل المؤلف عن الأسباب التي أزاحت اللثام عن العديد
من الفرق والدعوات السرية التي استعملت التقية مثل : غلاة الشيعة والإسماعيلية
والدعوة العباسية ، فيما لم تصلنا معلومات كافية عن الفرقة الاباضية ، ولم تتناول
المصادر الاباضية البعد السياسي لهذه الحركة ، في حين ركزت على الفقه والعقيدة
والسير الاباضية بشكل أساسي . وبين المؤلف انه لم يعثر قط على مؤلف اباضي ألف
تاريخا للحركة في ظهورها الأول ، ولم تتناول بشكل كاف الثورات الاباضية والدول
الاباضية بل بقي الاهتمام الأول بالعقائد الاباضية ، ولم يهتم الاباضيون بالحركات
الاباضية السياسية إلا بعد تأسيس دولهم الخاصة بهم في شمال أفريقية وفي عمان .
مصادر ومراجع
الكتاب :
قسم المؤلف مصادره إلى
مصادر: سنية وشيعية واباضية . وقد استعرض هذه المصادر مبينا ان بعض المصادر السنية
قد تتفوق على المصادر الاباضية من حيث الدقة والشمول ، ككتاب انساب الأشراف
للبلاذري وفتوح البلدان وتاريخ خليفة بن خياط وتاريخ الرسل والملوك للطبري وتاريخ
الموصل للأزدي وتاريخ ابن خلدون وكتاب نهاية الأرب للنويري وكتاب المغرب في ذكر
بلاد أفريقية والمغرب للبكري ـ الذي ذكر ان سلمة بن سعد الحضرمي هو أول داعية اباضي
إلى شمال أفريقية ـ وكتاب تاريخ أفريقية والمغرب المنسوب للرقيق القيرواني وما وصل
إلينا من كتاب تاريخ أفريقية والمغرب للمنجي الكعبي وكتاب تاريخ الأئمة الرستميين
لابن الصغير المالكي ـ وهو اقدم مؤلف كامل وصل إلينا عن تاريخ الاباضية والدولة
الرستمية في شمال أفريقية كما يقول المؤلف ـ وكتاب فتوح مصر لابن عبد الحكم وكتاب
رياض النفوس للمالكي وكتاب أخبار مجموعة لمؤلف مجهول .
وقد بين الدكتور خليفات
ان المصادر السنية تناولت ثورات الاباضية في حضرموت واليمن والحجاز وشمال أفريقية
ضد الأمويين والعباسيين خلال القرنين الأول والثاني الهجريين وعن تاريخ الاباضية في
المشرق والمغرب ، أشار إلى ان بعض المصادر السنية تميزت بنقلها روايات لمعاصرين
للأحداث ، وقد أبدى الدكتور عوض ملاحظة هامة وهي ان كتب المقالات والملل يعوزها
الحياد وتنقصها الموضوعية ، ذلك انه باستثناء عبد الله بن أباض تحجم هذه المصادر عن
إيراد أية معلومات عن أئمة الاباضية ومشايخهم مثل : جابر بن زيد الازدي وأبي عبيدة
مسلم بن أبى كريمة التميمي والربيع بن حبيب
أما المصادر الشيعية
فقد بين الدكتور خليفات أنها قليلة المعلومات عن الحركة الاباضية في القرنين الأول
والثاني الهجريين ، ومن أهم هذه المؤلفات : كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني ـ وهو
مثل انساب البلاذري ينقل معلوماته عن المدائني ـ ومن المصادر الشيعية تاريخ
اليعقوبي وكتاب أخبار ملوك بني عبيد وسيرهم لمؤلفه أبى عبيد محمد بن علي بن حماد
وهو اغزر المصادر الشيعية ومن أكثرها نزاهة وبعدا عن التحيز .
أما المصادر الاباضية
فقد كانت من أهم مصادر المؤلف ، رغم ان قسما كبيرا منها لا يزال مخطوطا يتوزع في
عمان وزنجبار وشمال أفريقية وبعض المتاحف ودور الكتب في أنحاء العالم .
ومن أهم المصادر
الاباضية التي اعتمد عليا المؤلف : كتاب السيرة وأخبار الأمة لأبي زكريا الورجلاني
وكتاب انساب العرب لمسلمة بن مسلم العوتبي وكتاب الطبقات الاباضية للدرجيني ـ وهو
من أهم المصادر الاباضية ـ وقد اكمل عمل الدرجيني مؤلف اباضي آخر هو البرادي في
كتابه الجواهر المنتقاة في إتمام ما أخل به كتاب الطبقات لأبي عباس الدرجيني وله
كتاب آخر هو كتاب طبقات الاباضية . كما ذكر الدكتور عوض كتابا أباضيا مخطوطا هاما
هو كتاب سير أبى الربيع بن عبد السلام الوسياني ، ويعتبر كتاب السير لمؤلفه احمد بن
سعيد الشماخي اشمل المصادر التاريخية الاباضية فهو يؤرخ للفترة من البعثة النبوية
إلى بداية القرن العاشر الهجري ويساهم هذا الكتاب كما يقول الدكتور عوض في إعطاء
صورة واضحة عن رأي الاباضية في الحوادث التي جرت في صدر الإسلام ولذلك يعتبر هذا
الكتاب مصدرا خصبا وهاما لمؤلف موضوعي يرجح أحيانا الروايات السنية على الروايات
الاباضية . وقد اعتمد المؤلف على عدد آخر من المصادر والمراجع الاباضية منها :
كتاب الكشف والبيان لأبي سعيد القلهاتي وكتاب كشف الغمة الجامع لأخبار الأمة لسرحان
بن سعيد الأزكوي ـ وهو مصدر تاريخي شامل وقد نشر جزء منه تحت عنوان المقتبس من كتاب
كشف الغمة الجامع لأخبار الأمة ـ وكتاب الفقه والعقائد وكتاب جوابات جابر بن زيد
الذي يحتوي على 18 رسالة من جابر بن زيد إلى بعض اتباعه ، يبين فيها الكثير من
آرائه في أمور الدعوة في النواحي التنظيمية والفقهية ، ومن المصادر الهامة التي
اعتمد عليها المؤلف رسالة في أحكام الزكاة لمؤلفها أبى عبيدة مسلم بن أبى كريمة
التميمي الذي خلف جابر بن زيد في زعامة الحركة ، وكتاب كنز الأدب وسلافة اللبيب
للصائغي ، واستخدم المؤلف بعض المصادر في الفقه الأباضي والعقائد منها : رسائل في
أحكام الزكاة ومتن عقيدة التوحيد لعمرو بن جميع وكتاب شرح مقدمة التوحيد للشماخي
ومدونة أبى غانم الخراساني وشرح السؤالات للسوفي .
أما الدراسات والمراجع
الحديثة التي تناولت هذه الحركة فقد ذكر الدكتور عوض ان المستشرقين هم أول من انبرى
لهذه المهمة فأول من صنف قائمة بالكتب والمخطوطات الاباضية هو المستشرق موتيلنسكي
الذي أشار إلى قائمة من المؤلفات الاباضية التي ذكرها البرادي في كتاب الجواهر
المنتقاة فيما أخل به كتاب الطبقات وأضاف المستشرق قائمة أخرى من المخطوطات أما
المستشرق الايطالي روبناتشي فقد نشر مقالة بالمؤلفات المخطوطة الموجودة في معهد
الدراسات الشرقية في جامعة نابولي كما قام المستشرق الإنجليزي شاخت بزيارة إلى جنوب
الجزائر ، نشر أثرها مقالة بالمخطوطات الاباضية التي اطلع عليها في بعض المكتبات
الخاصة والتي يربو عددها على المائتين ، ونشر كوبياك بحثا بعنوان المخطوطات العربية
في بولونيا ، وتبين من ذلك ان كل المخطوطات الاباضية موجودة في المتحف الوطني
البولوني ومن أهمها مخطوطة انساب العرب للعوتبي. وذكر الدكتور خليفات ان أول من
قام بجمع المخطوطات الاباضية من العرب هو العماني عمرو بن خليل النامي ، الذي نشر
مقالة احتوت على المخطوطات الموجودة في المكتبات الاباضية في شمال أفريقية ، كما
نشر المستشرق ركس سميث قائمة بالمخطوطات في وزارة التراث القومي العمانية ، أضاف
ان أغزر جرد للمصادر الاباضية احتوته رسالة العماني إبراهيم فخار حول الجماعات
الاباضية بعد الفتح الفاطمي لشمال أفريقية وهي حصيلة اطلاعه على اكثر من مائة مكتبة
عامة وخاصة في الجزائر وتونس وليبيا .
وبين الدكتور عوض ان من أهم الدراسات الحديثة حول تاريخ الاباضية وعقائدها ؛ دراسة
المستشرق ماسكراي الذي ترجم كتاب السيرة للورجلاني إلى اللغة الفرنسية وترجمة
وتحقيق المستشرق موتلنسكي لكتاب ابن الصغير وله كتاب تاريخ الأئمة الرستميين وكتب
المستشرق ليفتسكي بحثين عن طبقات الدرجيني وسير الشماخي ، وذكر الدكتور خليفات
العديد من المستشرقين الذين قاموا بجهود علمية تتعلق بالحركة الاباضية منهم :
المستشرق الايطالي روبيناتشي وستروثمان وبكري وولكنسون وموتيلنسكي ونللينو
وسموجورسفيسكي وروبناتشي وذكر ان المستشرقين في دراساتهم أهملوا الفترة الأولى من
تاريخ الحركة .
وقد وجد الدكتور عوض
نفسه مضطرا لأن يكتب تاريخا لحركة سرية معتمدا على مصادر أباضية لم تفرد عناوين أو
فصولا خاصة بالموضوع ، ولذلك كان عليه ان يجمع معلوماته ويرتبها من الروايات
المتفرقة والمبعثرة في كتب الطبقات الاباضية ، وعليه ان يحلل ويستنتج بعد استقراء
وتفحص عميق صورة اقرب ما تكون عن هذا الموضوع الغامض ، وان يقرأ مجلدات بكاملها حتى
يحصل على رواية مفيدة ، حيث كان نصيب التنظيم السري في الكتب والمؤلفات في مرحلة
الكتمان نادرا ، إذ لا يعدو كونه إشارات عابرة مقتضبة للدعاة أو لحملة العلم الذين
أرسلوا إلى الأمصار ، أما المراجع العربية فلا تعدو كونها إشارات أو مقالات تعالج
ثورات الاباضية ضد الولاة والحكام في العصور الإسلامية وبعض المراجع عن الحركات
السرية في الإسلام ، في حين تركزت كتابات ومؤلفات الاباضيين المعاصرين على أمور
تتعلق بالعقيدة أو التاريخ المحلي للبلاد التي يعيشون فيها ، ومن أهم هؤلاء
المحدثين المؤلف أبو اسحق محمد بن يوسف اطفيش في كتابه رسالة شافية في بعض التواريخ
وبيوض إبراهيم ابن عمر والباروني في كتابه الأزهار الرياضية وعلي يحيى معمر في
كتابه الاباضية في موكب التاريخ والاباضية بين الفرق الإسلامية ومحمد علي دبوز في
كتابه تاريخ المغرب الكبير ونور الدين السالمي في كتابه تحفة الأعيان بسيرة أهل
عمان والبياسي وسالم بن حمد الحارثي في كتابه العقود الفضية في أصول الاباضية من
عمان .
مواضيع الكتاب
ومحتوياته :
تناول الدكتور خليفات
في كتابه طور الخلافة وأثرها في ظهور الخوارج ، وهو تناول ذكي إذ ان هذه الحركة
قامت كالعديد من الحركات على إرهاصات سياسية واضحة ، فموضوع الخلافة واختيار
الخليفة كان الشغل الشاغل للعديد من الحركات الدينية والمذهبية في ظاهرها السياسية
في واقعها وحقيقتها ، فقد بين المؤلف ان مشكلة الخلافة كانت أول مسألة اشتد فيها
الخلاف بين المسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ونظرا لتشعب الآراء حول
منصب الخلافة تمخض الخلاف عن أهم الفرق الإسلامية في صدر الإسلام ، وقد أدى تطور
منصب الخلافة إلى ظهور الشيعة والخوارج أو المحكمة الذين انبثقت عنهم الفرقة
الاباضية .
وقد استعرض الدكتور عوض تطور هذا المنصب وناقش الآراء المتعددة ، وألقى الضوء على
عملية انتخاب الخليفة الأول التي امتزجت فيها العادات والتقاليد العربية بالتعاليم
الإسلامية ، وناقش المؤلف عملية عهد أبى بكر لعمر بن الخطاب تجنبا للاختلاف
والفتنة ، كما ناقش عملية الاستخلاف وفق أسس الشورى التي استحدثها الخليفة عمر ،
عندما حدد ستة من الصحابة هم علي وعثمان وطلحة وعبدالرحمن وسعد والزبير ، فقد انعقد
مجلس الشورى الذي اختار استطلاع أهل الحل والعقد ، وبعد أربعة أيام من المشاورات
استقر الأمر على علي وعثمان ، فطلب المجلس منهما ان يقسم كل منهما على ان يعمل
بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخليفتين الراشدين من بعده ، إلا ان عليا حبذ العمل
بكتاب الله وسنة رسوله والاجتهاد فيما يشكل عليه من أمور، في حين وافق عثمان على
هذه الشروط ، وتمت بيعة عثمان بن عفان الذي شهد عهده أخطر فتنة عرفها تاريخ الإسلام
، وهي بكل المعايير ثورة القبائل العربية ضد قريش لاستئثارها بالسلطة والمال ، وهي
ثورة المقاتلة ضد السياسة المالية التي انتهجها عمر بن الخطاب وسار عليها عثمان ،
وهي ثورة الأمصار ضد سلطة الحجاز والمدينة ، وقد انتهت هذه الثورة بمقتل الخليفة ،
وأدى ذلك إلى حرب أهلية ذهب ضحيتها آلاف المسلمين .
ويرى الدكتور خليفات ان هذه الحادثة كانت البذرة الأولى التي انبثقت عنها الأحزاب
والفرق الإسلامية ، وانقسام قريش على نفسها ، وظهور التيار الإقليمي والقبلي داخل
الدولة الإسلامية ، وقد أدى ضغط الأقاليم والقبائل العراقية والمصرية إلى انتخاب
علي بن أبى طالب الذي قام بعزل الولاة الذين تذمر منهم الناس ، إلا ان معاوية والي
الشام لم يمتثل لأوامر الخليفة فسار إليه الخليفة لإخضاعه ، وفي هذه الأثناء ثار
على الخليفة طلحة والزبير ومعهما عائشة أم المؤمنين معترضين على أسلوب اختيار علي ،
واعادة الأمر شورى ، والمطالبة بدم الخليفة عثمان ، وقد لحق بهم الخليفة محاولا
التفاهم معهم لتجنب الفتنة إلا ان الأمر تطور إلى الاصطدام المسلح ، وتقابل
الفريقان في معركة الجمل فانتصر الخليفة وقتل طلحة والزبير وأعيدت عائشة إلى الحجاز
، ثم اتجه علي إلى الشام محاولا حل المشكلة سلميا ، إلا ان الأمر تطور إلى الاصطدام
، وتقابل الطرفان في صفين إلى ان رفع أهل الشام المصاحف منادين بحقن الدماء وتحكيم
كتاب الله ، وقد أدت هذه المكيدة إلى نشوب الجدل والنزاع بين اتباع علي ، واضطر علي
تحت الحاح أصحابه إلى قبول التحكيم ، ونادى فريق من اتباع علي بأنه : ( لا حكم إلا
لله ) ، وعادوا إلى الكوفة معه ، ولكن فريق منهم نزل في حروراء فسموا بالحرورية أو
المحكمة حاولوا ثني علي عن إنفاذ ممثله إلى مكان التحكيم ، ولما يئسوا من إقناعه
انتخبوا عبد الله بن وهب الراسبي إماما لهم ، وكاتبوا مؤيديهم في البصرة بقيادة
مسعر بن فدكي التميمي لملاقاتهم في النهروان ، وعندما وصلوا أتتهم أنباء فشل
التحكيم وعزم اتباع علي على قتال معاوية فحاول علي استمالة المحكمة إلى جانبه
للمسير إلى الشام إلا انهم رفضوا ، فأصر أصحابه على مواجهة المحكمة قبل الذهاب إلى
الشام وحاول علي استمالتهم مرة أخرى إلا ان أكثرهم بقيادة عبد الله بن وهب الراسبي
رفض الإذعان ، فقاتلهم علي في النهروان وانتصر عليهم ، ورغم ذلك تتابعت ثوراتهم
والخليفة ينتصر عليهم إلى ان سقط شهيدا على يد عبد الرحمن بن ملجم الخارجي ثأرا
لقتلى النهروان .
وقد كان جل الخوارج من تميم وهم الذين خذلوا عليا في معركة الجمل وحاربوا معه في
صفين ، وقد شكى الخليفة من موقفهم قائلا : " أليس من العجب ان ينصرني الأزد وتخذلني
مضر واعجب من ذلك تقاعد تميم الكوفة وخلاف تميم البصرة !؟ " . وقد رفع الخوارج
شعارات أعلنوا فيها البراءة من مخالفيهم واعتبارهم كافرين إلا إذا تابوا .
وقد تناول الدكتور عوض
بموضوعية تامة تفسير الاباضية لنشأة الخوارج حسب ما أوردته المصادر الاباضية ، وبين
خليفات ان الاباضية يرون ان كلا من أبى بكر وعمر قد سارا في سياستهما طبقا لكتاب
الله وسنة رسوله ويرون ان عثمان كان دون الشيخين في سياسته لأنه استحدث بدعا أنكرها
المسلمون عليه ، ولذلك يرون ان الثورة على الخليفة الثالث كانت مشروعة وقتله من قبل
جماعة المسلمين كان واجبا .
ويذكر الدكتور خليفات
أن الصحابي عمار بن ياسر كان من اشد المعارضين للتحكيم المؤيدين للقتال.
ويذكر خليفات انه بعد
فشل التحكيم طلب علي من المحكمة وأهل النهروان العودة إلى معسكره والرجوع لحرب
معاوية وأهل الشام ، إلا انهم أصروا على الخليفة ان يتوب ويخضع لسلطة إمامهم عبد
الله بن وهب الراسبي .
وقد تناول الدكتور عوض
في كتابه الخلاف بين الخوارج بعد معركة النهروان وتفرق شملهم وتعدد ثوراتهم ضد
السلطة القائمة في الكوفة والبصرة ، وارجع المؤلف سبب فشلهم في الكوفة إلى تشيع
أهلها لآل البيت ، كما فشل خوارج البصرة لافتقارهم للوحدة والتنظيم .
وقد بين الدكتور خليفات
في كتابه انه بينما كان الخوارج المتطرفون يقومون بثوراتهم وحركاتهم ضد الأمويين
وولاتهم كانت هناك جماعة انشقت يعد النهروان واتخذت مدينة البصرة مقرا لها وآثرت
السلم لفرض آرائها وقد تزعم هذه الجماعة أبو بلال مرداس بن أدية التميمي وكونت هذه
الجماعة البذرة للجماعة التي عرفت في التاريخ الإسلامي بالفرقة الاباضية التي شهد
زعيمها أبو بلال صفين مع علي بن أبى طالب والنهروان مع المحكمة ضد علي وأعلن عدائه
لمتطرفي الخوارج إلا انه دعا اتباعه للسلم وترك القتال إلا إذا اجبروا على القتال
، وقد عاش أبو بلال مرداس في كنف وحماية قبيلة تميم في البصرة وقد أطلق معارضوهم
على اتباعه لقب القعدة عن الجهاد في سبيل الله ومحاربة الولاة الظالمين ، أما أهل
السنة فأطلقوا عليهم لقب الحرورية نسبة إلى حروراء ، في حين كانوا يسمون أنفسهم
المحكمة والشراة . وقد تعرض الخوارج المعتدلين ـ القعدة ـ للظلم من قبل والي العراق
عبيد الله بن زياد الذي استعمل القسوة مع الخوارج عموما ؛ المتطرفين والمعتدلين ،
متخذا مقولة قمع النفاق قبل ان ينجم شعارا له ، مما جعل القعدة للعمل سرا ثم ما
لبثوا ان ثاروا ضد عبيد الله وخرجوا عليه بقيادة طواف بن علاق فقتلهم جميعا في عيد
الفطر عام 58هـ ثم ثار قريب وزحاف على ابن زياد ، وثار بعدهم أبو بلال مرداس فقبض
عليه ابن زياد إلا انه ما لبث ان أطلق سراحه ، فخرج مرداس من البصرة إلى آسك ،
فأنفذ إليه ابن زياد اسلم بن زرعة فلم يجر لقاء بينهما ، ثم وجه إليه ابن زياد عباد
بن علقمة المازني فانتصر على مرداس وأبادوهم جميعا سنة 61هـ بما فيهم مرداس نفسه
فقام أصحابه باغتيال عباد سرا فقتل ابن زياد عروة بن أدية التميمي أخي مرداس ، وذكر
الدكتور خليفات ان زعامتهم انتقلت إلى الشاعر المعروف عمران بن حطان ، وبقي زعيما
لهم قبل انقسامهم لاحقا إلى أباضية وصفرية ، إلا ان الصفرية بعد انفصالهم عن
الاباضية اعتبروا عمران مؤسسا لمذهبهم بينما اعتبر الاباضية ان جابر بن زيد مؤسسا
لمذهبهم .
ويذكر خليفات انه عندما
ثار ابن الزبير في الحجاز ترك بعض الخوارج القعدة البصرة وانضموا إلى ابن الزبير
وقاتلوا الجيش الأموي معه ، ثم ما لبثوا ان اختلفوا مع ابن الزبير وعادوا إلى
البصرة فأودعهم ابن زياد السجن ، وعندما دانت البصرة لابن الزبير رأى جماعة منهم
على رأسهم نافع بن الأزرق انه لا يجوز المقام بين اظهر مخالفيهم من المشركين ، ووقع
خلاف بين نافع ومن آثر القعود منهم وعمت فترة هدوء جعلتهم يتجهون للدراسة والتعمق
في الدين ونشر مذهبهم سرا وكانوا على علاقة طيبة مع مصعب بن الزبير والي البصرة بعد
أن رفض عمران محاربة الحجاج إلى فرقتين ؛ الصفرية التي ترى الخروج والثورة ،
والاباضية التي آثرت الاستمرار في القعود حتى تحين الفرصة المناسبة لتأسيس إمامتهم
، ونتيجة للخلاف والجدل بينهم تركهم عمران وأخذ يتنقل في البلاد إلى ان استقر في
عمان وبقي فيها إلى ان مات.
وقد تناول الدكتور
خليفات دور عبد الله بن أباض من قبيلة تميم في تطور الحركة الاباضية ، وحاول مناقشة
تسمية هذه الفرقة ، ذلك ان معظم المصادر غير الاباضية تنسبها إلى عبد الله بن
الأباض ، فيما نسبها الملطي إلى أباض بن عمر ، أما السمعاني فيرى نسبتهم إلى الحارث
الأباضي وكذلك المقدسي الذي ينسبهم إلى الحارث بن أباض ، وقد أشار إلى ذلك الأشعري
وابن حزم فيما لم تؤيد المصادر الاباضية هذه المعلومات ، وقد بين الدكتور خليفات ان
عبد الله بن أباض لا يعرف عنه إلا معلومات يسيرة ، وأول إشارة واضحة لدوره حين ورد
اسمه في محاربة الجيش الشامي إلى جانب ابن الزبير سنة 63هـ ، ويرى المفكر الأباضي
المعاصر محمد ابن يوسف اطفيش والمستشرق الايطالي روبيناتشي ان اصل عبد الله بن
أباض من نجد وأنه ارتحل إلى البصرة ، ويرجح اطفيش انه كان صحابيا ، فيما تجعله
المصادر الاباضية من الطبقة الثانية من التابعين ، ولكن المؤكد ان القعدة قد
اختاروه ليكون المجادل باسمهم ضد الأزارقة وغيرها من الفرق المتطرفة من الخوارج
المتطرفين والقدرية والمعتزلة والمرجئة والشيعة ، فيما بين خليفات ان ابن أباض هو
المؤهل للقيام بهذه المهمة الدعائية ، لأنه بالإضافة إلى قدرته في المناظرة
والمجادلة ينتمي إلى قبيلة تميم إحدى أهم قبائل البصرة ، وهذا ما جعله لا يخاف
الولاة الأمويين ، حتى انه في مراسلاته مع عبد الملك بن مروان لم يخاطبه بأمير
المؤمنين أو خليفة المسلمين ، بل خاطبه باسمه مجردا ، ويؤكد الدكتور عوض إننا لم
نعد نسمع عنه بعد رده على نافع بن الأزرق في خلافة عبد الملك بن مروان ، إلا ان
القعدة اختاروا في هذه الفترة عمران بن حطان الشاعر الموهوب والخطيب البليغ والعالم
بالدين ليقوم بدحض آراء مخالفيهم كرئيس للقعدة في البصرة ، ويرى الدكتور عوض انه
ربما تكونت الفرقة في هذه الفترة ونسبت إليه ، فيما تنسب المصادر الاباضية دورا
ثانويا لابن أباض ودورا رئيسيا لجابر بن زيد الازدي الذي تعتبره إمام الاباضية "
جماعة المسلمين "، ويرى الدكتور عوض انه من المحتمل ان جابرا كان الإمام الروحي
وفقيه الاباضية ومفتيهم وهو الذي بلور الفكر الأباضي وميزه عن غيره من المذاهب
الإسلامية ، وبين انه المسؤول عن الدعوة والدعاة في شتى الأقطار ، فيما تولى المهام
المالية والعسكرية والإشراف على سير الدعوة خارج البصرة أبو مودود حاجب الطائي ،
فيما كان أبو عبيدة مسلم بن أبى كريمة شيخ الاباضية وزعيمهم في البصرة ، ورجح
الدكتور عوض أسباب هذا الخلط إلى مبدأ التقية الدينية وإيمانهم بضرورة بقاء الحركة
سرية قدر الإمكان ، ويستند الدكتور عوض في ذلك على قول الرقيشي : "
…
فقد بلغنا ان أبا بلال مرداس بن حدير وغيره من أئمة المسلمين لم يكونوا يخرجون إلا
بأمر إمامهم في دينهم جابر بن زيد العماني " ، ويشير الدكتور عوض إلى مسألة مهمة ؛
وهي ان كلا من القلهاتي والأزكوي يورد قائمة برجال الاباضية الأوائل ويذكر فيها ان
عبد الله بن أباض كان من تلاميذ عبد الله بن وهب الراسبي وجابر بن زيد الأزدي ،
وكان أبو عبيدة مسلم بن أبى كريمة التميمي تلميذا لعبد الله بن أباض ، بينما كان
عبد الله بن يحيى طالب الحق وقائده المختار بن عوف الأزدي ( أبو حمزة الشاري )
تلاميذ لأبي عبيدة ، أضاف ان المصادر الاباضية لم تورد أية إشارة لابن أباض أبان
زعامة أبى عبيدة الذي خلف جابر بن زيد في إمامة الاباضية في البصرة ، وعلى ضؤ ذلك
استطاع الدكتور عوض ان يلخص المعلومات الموثوقة حول شخصية ابن أباض ؛ وأهمها انه
ينتمي إلى قبيلة تميم أهم قبائل البصرة ، وانه لم يشترك في حروب المحكمة ضد علي بن
أبى طالب ، وقد كان أول ظهور له على المسرح السياسي كان في اشتراكه مع المحكمة في
الدفاع عن الكعبة مع ابن الزبير ضد الجيش الشامي زمن يزيد بن معاوية ، وان القعدة
اختاروه ليتكلم ويجادل باسمهم ضد مناوئيهم ، ثم اختاره الاباضية بعد انقسام الحركة
ليناظر باسمهم ، ويؤكد الدكتور خليفات اختفاءه عن المسرح بعد ذلك وتوصل إلى ان
المصادر الاباضية تجمع على ان ابن أباض لم يكن إمامهم الحقيقي ومؤسس دعوتهم وان كان
من علمائهم ورجالهم البارزين في التقوى والصلاح ، ويعتبرون جابر بن زيد إمامهم
الأكبر ومؤسس دعوتهم ، ولم يكن عبد الله بن أباض يصدر في شئ من أفعاله وأقواله إلا
بأمر ذلك الإمام وارشاده ، ولذلك فأن الاباضية لم يسموا أنفسهم بهذا الاسم ولم يرد
في مصادرهم إلا في وفت متأخر. وتوصل خليفات إلى انه بعد اختفاء ابن أباض لجأ
الاباضيون إلى السرية المطلقة في تنظيم دعوتهم ، وكان لجابر بن زيد دور تنظيمي كبير
في هذه المرحلة التي تعرف في التاريخ الأباضي بطور الكتمان .
وقد افرد خليفات بابا
خاصا في كتابه لجابر بن زيد الأزدي أبي الشعثاء المولود في فرق قرب مدينة نزوى في
عمان ، والذي ارتحل إلى البصرة في وقت لاحق طلبا للعلم ، وقد برع في علوم الفقه
والقرآن ، واصبح من ابرز التابعين الأوائل في علم الحديث والتفسير والعلوم الدينية
إلى ان اصبح ابرز مفت بعد الحسن البصري في البصرة ، وقد ألف كتابا ضخما سماه (
الديوان) ، ضمنه الأحاديث التي رواها وأراءه وفتاويه ، ويرى خليفات انه إذا صحت هذه
المعلومات حول ديوان جابر فأن الاباضية كانت أول المدارس الإسلامية التي عنيت
بتدوين الحديث . وتشير المصادر الاباضية إلى ان جابر انضم إلى الحركة الاباضية في
وقت مبكر ، ويرجح خليفات ان انضمامه كان بعد النهروان ، وقد سطع نجمه بعد أبو بلال
مرداس بن أدية التميمي ، ولكنه لم يباشر عملا سياسيا ظاهرا رغم ان الحجاج سجنه
ونفاه إلى عمان لعلاقته بالاباضية ، ويؤكد خليفات أن انتماء جابر لقبيلة الأزد أدى
إلى انضمام الكثيرين منهم من الرجال والنساء إلى الحركة الاباضية وعلى رأسهم بعض
أفراد الأسرة المهلبية زعيمة أزد العراق والكثير من أزد حضرموت واليمن وعمان
الموطن الأصلي للأزد ، ولا عجب ان تكون أول إمامة أسسها الاباضيون في حضرموت واليمن
وعمان ثم أصبحت الحركة بفضل جهوده حركة إسلامية شاملة ضمت عناصر مختلفة ومن هنا كان
خليفة جابر في زعامة الحركة من الموالي وهو أبو عبيدة مسلم بن أبى كريمة ـ مولى بني
تميم ـ وهو الذي قام بتدريب الدعاة ووجههم إلى الأمصار وسماهم حملة العلم إلى
الأمصار .
كما افرد المؤلف بابا
في كتابه لأبي عبيدة مسلم بن أبى كريمة مولى بني تميم وكان مولى لعروة بن أدية
التميمي أخي مرداس بن أدية ، وقد اخذ العلم عن اشهر علماء الاباضية في مرحلة
الكتمان ، وكان له دور كبير في نشر مبادئ الحركة في حضرموت واليمن وعمان والحجاز
ومصر وبلاد المغرب بواسطة الدعاة الذين كان يرسلهم إلى الأمصار ، وقد تزعم مسلم
الحركة بعد موت الحجاج وخروجه من السجن في بداية خلافة سليمان بن عبد الملك ، فقد
ساد الهدوء في فترة حكم سليمان وعمر بن عبد العزيز، فاستغل أبو عبيدة ومشايخ الحركة
في البصرة الفرصة لتنظيم الحركة على أسس سليمة فأعادوا تأسيس المجالس السرية
ونظموها وكانت تقسم إلى ثلاثة أنواع : المجالس العامة التي يشرف عليها مشايخ
الاباضية البارزين ـ فكان منها مجلس عبد الملك الطويل ومجلس أبى سفيان قنبر ومجلس
أبى الحر علي بن الحصين ومجلس أبى مودود حاجب الطائي ـ والنوع الثاني مجالس المشايخ
ـ يحضرها زعماء الاباضية فقط ـ أما النوع الثالث مجالس أو مدارس حملة العلم وكانت
تتبع لأبي عبيدة مسلم بن أبى كريمة .
ويرى خليفات ان
الاباضية نشروا دعوتهم عن طريق الدعاة وحملة العلم وعن طريق موسم الحج للقادمين من
مختلف الأصقاع ، وكان مسلم يلتقي باتباعه في موسم الحج أو يرسل بعض المشايخ ومنهم :
أبو مودود حاجب الطائي والربيع بن حبيب الفراهيدي وصالح الدهان وغيرهم ، كما
استخدموا التجار في نشر الدعوة ومن كبار هؤلاء التجار: النظر بن ميمون وأبو عبيدة
عبد الله بن القاسم والفضل بن جندب الذين وصلت تجارتهم إلى الصين والشرق الأقصى ،
ويشير خليفات إلى انه بعد اعتلاء يزيد بن عبد الملك عرش الخلافة أدت التطورات
السياسية إلى بروز جماعة متطرفة من الاباضية تنادي بوجوب الثورة ، فقد ثار يزيد بن
المهلب واحتل البصرة وقام بالدعوة في العراق والأهواز وكرمان وفارس وحتى السند ،
ولكن جيش الخليفة تمكن من هزيمتهم في معركة العقر سنة 102هـ والتنكيل بالأزد وآل
المهلب ، وقد وأدى ذلك إلى غضب الأزد في أرجاء الدولة الأموية وفي ولاية يوسف بن
عمر الثقفي ، ونتيجة للضغط الذي تعرضت له الحركة قرر أبو عبيدة الانتقال من طور
الكتمان إلى طور الظهور في الأمصار البعيدة عن مركز السلطة ، ولتحقيق ذلك انشأ أبو
عبيدة في البصرة ما يمكن ان نسميه بالحكومة الثورية السرية وكان هو زعيمها وانشأ
بيت مال خاص بالحركة في البصرة .
وتناول خليفات انتصار
الدعوة وتأسيس الإمامة في الجزيرة العربية ـ حضرموت واليمن ـ مستغلين الظروف التي
تمر بها الدولة الأموية إبان حكم مروان بن محمد وقيام الثورة العباسية في الشرق ،
فثار الاباضيون في هذه الأصقاع النائية وأسسوا أول إمامة لهم في الجزيرة العربية
فقد تزعم الدعة الاباضية في حضرموت طالب الحق بمؤازرة من قبيلة كندة وجاء إليه خلق
من أهل البصرة فأعلن ثورته سنة 129هـ ثم سيطر الاباضيون على الحجاز إلا ان الخليفة
مروان استعاد الحجاز منهم كما استعاد اليمن وحضرموت سنة 132هـ وعاد من بقي من
الاباضية هناك إلى مرحلة الكتمان .
ثم تناول خليفات تأسيس الإمامة الاباضية في عمان ، مبينا ان المصادر لاتسعفنا كثيرا
في كيفية تسرب الأفكار الخارجية بشكل عام والاباضية بشكل خاص إلى عمان ، ولكنه ذكر
ان أهل عمان كانوا قد عارضوا الأفكار الخارجية المتطرفة في وقت مبكر ، في حين كانوا
على صلة بأفكار الخوارج القعدة المعتدلة عن طريق التجارة وعن طريق الحج وعن طريق
الدعاة من حملة العلم ـ الذين أعدهم أبو عبيدة وعادوا إلى بلادهم عمان ـ وعن طريق
عمران بن حطان الذي عاش آخر أيامه في عمان وعن طريق جابر بن زيد الذي نفاه الحجاج
إلى عمان ، ثم ان الكثير من قادة الاباضية ومشايخها من الأزد العمانيين أصلا منهم :
المختار بن عوف الازدي العماني المعروف بابي حمزة الشاري وبلج بن عقبة الازدي وصحار
العبدي وهلال بن عطية العماني والربيع بن حبيب الفراهيدي وأبا سفيان محبوب بن
الرحيل ـ وقد تزعم الأخيران حركة الاباضية في البصرة بعد موت أبى عبيدة ـ وقد ارجع
خليفات الأسباب التي أدت إلى نجاح الحركة في عمان إلى انتماء معظم حملة العلم إلى
الأزد وهم اكبر قبائل عمان ، ونزوع العمانيين للاستقلال عن السلطة المركزية في كل
من دمشق وبغداد ، ثم ان معظم ولاة عمان كانوا من الأزد الذين لم يتعرضوا إلى
العمانيين في تلقي الأفكار الاباضية ومن هؤلاء الولاة : زياد بن المهلب وجناح بن
قيس الهنائي وابنه محمد بن جناح ، فكان من السهل على العمانيين عقد الإمامة للجلندى
بن مسعود متزامنة مع سقوط الخلافة الأموية وقيام الخلافة العباسية سنة 132هـ خاصة
وان عمان لديها من المقومات الاقتصادية والطبيعية ما يسهل استقلالها عن المركز ،
وقد اصبح الجلندى أول إمام ظهور اباضي في تلك المنطقة ، إلا ان العباسيين لم يمهلوا
هذه الإمامة طويلا فوجهوا حملة عسكرية بقيادة خازم بن خزيمة التميمي الذي كان لديه
مهمتان وهما ؛ القضاء على الخوارج الصفرية الذين تجمعوا في جزيرة ابن كاوان بقيادة
شيبان بن عبد العزيز اليشكري ، ثم التوجه إلى عمان للقضاء على إمامة الاباضية ،
ولما تمكن خازم من هزيمة الصفرية لجاءوا إلى عمان ، فخيرهم الإمام إما ان يعتنقوا
المذهب الأباضي أو يقاتلهم ، ولما رفضوا قاتلهم وطردهم من عمان ، ثم توجه خازم إلى
عمان وهزم الجلندى في جلفار وأعاد ضم عمان للدولة العباسية ، إلا ان العمانيين
تمكنوا من إعادة الإمامة سنة 177هـ ، واستمرت بعدها دون انقطاع لعدة قرون.
وتناول الدكتور عوض في
كتابه تأسيس الإمامة الاباضية في شمال أفريقية ، وأعاد الفضل في نشر المذهب هناك
إلى الداعية سلمة بن سعد الحضرمي مصحوبا بالداعية الصفري عكرمة مولى ابن عباس في
رحلة واحدة ، وهذا دليل على انتشار الاباضية والصفرية في هذه البلاد . وقد نزل
عكرمة في القيروان وركز جهوده على قبائل البربر في المغرب الأقصى واخذ يدعو سرا ،
بينما ركز سلمة جهوده على قبائل البربر في المغرب الأدنى وقد استقر سلمة في جبل
نفوسة في منطقة طرابلس لدى قبائل هوارة البربرية . وقد انتشر المذهب الصفري بين
البربر حتى ان أحد زعمائهم ثار على الدولة العباسية وهو القائد أبو قرة اليفرني
الصفري الذي بايعه أصحابه بالإمامة في تلمسان سنة 140هـ ، وقد تمكن سلمة من نشر
المذهب الأباضي في المغرب الأدنى ، حتى ان بعض علمائهم جاء إلى البصرة لتلقي مبادئ
المذهب ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الحميد بن مغيطر الجناواني ، ثم عاد إلى
بلاده ونشر المذهب بين قبائل هوارة وزناتة وسدراته ولواته .
وقد وصلت أول بعثة
علمية منظمة من بين قبائل البربر وكانت مؤلفة من أربعة أشخاص هم : ابودرار إسماعيل
بن درار الغدامسي من غدامس وعبد الرحمن بن رستم من القيروان وعاصم السدراتي من
سدراته وأبو داود القبلي النفزاوي من نفزاوة وانضم إليهم في البصرة أبو الخطاب
المعافري، وقد سمي هؤلاء بحملة العلم إلى المغرب ، قضوا خمس سنوات في البصرة
ثم عادوا إلى بلادهم وانشئوا مجالس سرية لنشر المذهب الأباضي . وقد ثار الصفرية في
المغرب بين سنتي 122هـ و125هـ وقد عينوا رئيسا لهم هو عبد الله بن مسعود التجيبي
الذي قتلة والي طرابلس إلباس بن حبيب ، ولم يلبث ان ثار الاباضيون بزعامة الحارث بن
تليد الحضرمي الذي انتخبوه إمام دفاع لهم واختار بدوره عبد الجبار بن قيس المرادي
ليكون قاضيا ومستشارا له ، وتمكن الاباضيون من مبايعة أبا الخطاب كأول إمام ظهور
لهم ، وفي سنة 132هـ اختار الاباضيون إمام دفاع لهم هو أبو الزجار إسماعيل بن زياد
النفوسي ولكن الوالي عبد الرحمن بن حبيب تمكن من قتله في نفس العام مما أعاد
الاباضيين إلى مرحلة السرية والكتمان مرة أخرى ولمدة ثماني سنوات متتالية من عام
132-140هـ .
وخلاصة القول ان عبد
الحمن بن حبيب انتصر على الاباضية في عام 132هـ وبعد انتقال الخلافة إلى العباسيين
اقروه على ولايته إلا ان عبد الرحمن بن حبيب خلع طاعة العباسيين اثر خلافه مع
الخليفة أبو جعفر المنصور واستقل ابن حبيب في حكم ولاية أفريقية إلا انه قتل في عام
137هـ على يدي أخيه إلباس ثم عاد حبيب بن عبد الحمن بقتل إلباس ثم قتل حبيب من قبل
قبيلة ورفجومة البربرية .
ويذكر خليفات انه في
عام 140هـ أنهى الاباضيون طور الكتمان بإعلان أول إمامة ظهور لهم في شمال أفريقية
بانتخاب أبا الخطاب عبد الأعلى بن السمع المعافري الحميري إماما لهم بعد مشاورات
بين أبو عبيدة وحملة العلم المغاربة الخمسة ، فتمكن أبو الخطاب من دخول طرابلس ثم
احتل جزيرة جربة وجبل دمر وقابس ثم توجه إلى القيروان قصبة أفريقية فانتزعها من
قبيلة ورفجومة ودخل القيروان سنة 141هـ فعين عليها عبد الحمن بن رستم الفارسي أحد
حملة العلم الخمسة واليا .
وفي عام 142هـ عين أبو
جعفر المنصور محمد بن الأشعث الخزاعي على مصر وأمره ان يستعيد سيطرة العباسيين على
المغرب فأرسل محمد حملة بقيادة العوام بن عبد العزيز البجلي ضد الاباضية في المغرب
الأدنى فتمكن جيش أبو الخطاب من هزيمة حملة العوام وبعدها حملة أبى الأحوص عمرو بن
الأحوص العجلي فقرر الخليفة إرسال جيش من أربعين ألف مقاتل على رأسه كبار القادة
منهم : الأغلب بن سالم التميمي والمحارب بن هلال والمخارق بن غفار الطائي ، وأمرهم
بالسمع والطاعة لابن الأشعث ، وأوصى ان يستلم القيادة الأغلب ان قتل الأشعث وان حدث
للأغلب مكروه يتولى القيادة المخارق الطائي وان قتل المخارق يتولى القيادة المحارب
ـ ولكن الأخير توفي في الطريق ـ والتقوا مع جيش أبى الخطاب في معركة تاورغا قرب سرت
فقتل أبو الخطاب وجميع اتباعه في هذه المعركة ، ثم هزم ابن الأشعث أبى هريرة
الزناتي وسار ابن الأشعث نحو القيروان ودخلها سنة 144هـ واخذ يهاجم الاباضيين في
المغرب الأوسط ، وبقي ابن الأشعث ينعم بالهدوء إلى سنة 147هـ ، ثم عين الخليفة
الأغلب بن سالم خلفا لابن الأشعث فثار عليه الخوارج الصفرية سنة 150هـ في تلمسان
فلقي حتفه في حربه معهم ، فعين الخليفة عمر بن حفص من ولد قبيصة بن أبى صفرة أخي
المهلب مكانه واليا على أفريقية والمغرب ، ولكنه واجه اخطر ثورة خارجية في بلاد
المغرب ضمت الصفرية والاباضية سنة 154هـ ، واستمر صراع الولاة المهالبة معهم إلى
سنة 178هـ فقد هاجم أبو حاتم الأباضي القيروان وحاصرها ثمانية اشهر ولما عاد إليها
عمر بن حفص حاصره أبو حاتم فيها فخرج عمر إليهم وحاربهم إلى ان قتل في سنة 154هـ ،
فتسلم القيادة أخوه لامه جميل بن صخر الذي صالح أبى حاتم على ان يسلمه القيروان
وعندما رأى الخطر يتهدده بقرب وصول يزيد بن حاتم قرر اللجوء إلى جبل نفوسه عند
قبائل هوارة ونفوسة الاباضية ، فقتل أبى حاتم الأباضي في لقائه مع جيش يزيد سنة
155هـ ثم دخل يزيد القيروان واستمر في صراعه مع الاباضيين إلى ان توفي في سنة 170هـ
وخلفه ابنه داود ، ثم خلد الاباضية إلى الهدوء حتى سنة 180هـ عندما ثاروا فقضى
الوالي هرثمة بن أعين على ثورتهم ، وأصبحت الدولة الرستمية في المغرب الأوسط ملجا
آمنا للاباضيين حيث وقع اختيار ابن رستم على تاهرت لتكون مقرا لهم في سنة 161هـ وفي
سنة 162هـ أعلنت إمامة الظهور ونودي بعبد الحمن بن رستم إمام ظهور أو إمام بيعة كما
تسميه المصادر الاباضية ـ وكان من قبل إمام دفاع فقط ـ وهكذا ولدت أول دولة أباضية
عرفت في التاريخ باسم الدولة الرستمية واستمرت حتى سنة 297هـ حينما قضى عليها
الفاطميون .
وقد تبين من الخلاصة
التي توصل إليها الدكتور خليفات العديد من الحقائق أهمها :
·
كانت
الفتنة في عهد الخليفة عثمان حدثا خطيرا ساعد في ازدياد شقة الخلاف بين المسلمين
حول منصب الخلافة .
·
أدى
النزاع بين علي ومعاوية إلى بروز فرقة الخوارج التي عارضت التحكيم وانشقت عن علي
ونادت بانتخاب خليفة للمسلمين عن طريق الشورى .
·
كان
الخوارج أول من تحدى سلطة قريش عمليا عندما عينوا عبد الله بن وهب الراسبي إماما
لهم .
·
بعد
معركة النهروان اعتزلت فرقة من الخوارج أصحابهم وذهبوا إلى البصرة واخذوا يعملون
سرا بزعامة أبو بلال مرداس بن أدية التميمي الذي نادى بأفكار معتدلة، ثم حدث
انقسام بين المعتدلين وبين متطرفي الخوارج ، وسمي المعتدلون القعدة ثم انقسم القعدة
فيما بعد إلى فرقتين هما : الصفرية والاباضية ، ولم بسمي الاباضية أنفسهم بهذا
الاسم ولم يرد في مصادرهم قبل الربع الأخير من القرن الثالث الهجري .
·
سميت
الاباضية نسبة إلى عبد الله بن أباض ، الذي تعتبره المصادر غير الاباضية مؤسس
الحركة ، فيما تؤكد المصادر الاباضية ان مخالفيهم سموهم بهذا الاسم ، وان ابن أباض
من علمائهم ورجالهم البارزين ، ويعتبرون ان جابر بن زيد إمامهم الأكبر ومؤسس حركتهم
·
طور
أبو عبيدة مسلم بن أبى كريمة خليفة جابر بن زيد التنظيمات السرية للحركة ، وأوجد
نوعا من الحكومة الثورية السرية في البصرة ، كما انشأ مدرسة سرية خاصة لتعليم
الدعاة وتدريبهم أفرزت عددا مما أطلق عليهم حملة العلم .
·
استغل
الاباضية المشاكل التي واجهتها الدولة الأموية ، فأعلنوا الإمامة في كل من حضرموت
واليمن وعمان ، ولكن قضى الأمويون على إمامة اليمن وحضرموت ، فيما قضى العباسيون
على إمامة عمان الأولى سنة 134هـ ، ولكن أباضية عمان أعلنوا الإمامة من جديد سنة
177هـ ، ولا يزال معظم سكان عمان ينتمون إلى المذهب الأباضي إلى يومنا هذا .
·
استطاع اتباع الفرقة الاباضية في الجزء الغربي من الخلافة الإسلامية ( ليبيا ،
تونس ، الجزائر ، المغرب ) بعد كفاح مرير من تأسيس الدولة الرستمية الاباضية سنة
162هـ واستمرت اكثر من قرن وثلث إلى قضى عليها الفاطميون سنة 297هـ ، ولكن مذهبهم
بقي قائما في أنحاء من المغرب العربي مثل جبل نفوسه في ليبيا وفي جزيرة جربة
وقسيطلة ( بلاد الجريد ) في تونس وفي مزاب جنوب الجزائر .
وهكذا كان هذا الكتاب
من المراجع الأصيلة في التاريخ الإسلامي عموما ، وتاريخ الحركة الاباضية بشكل خاص ،
وهو يعتبر بحق من أدق المراجع عن هذه الحركة الهامة وأوسعها واشملها وأغناها
بالمعلومات القيمة التي توصل الباحث إلى نتائج مفيدة إلى حد كبير.
*محاضر غير متفرغ جامعة
الزيتونة الأردنية.